“مملكة النمل” للمخرج التونسي شوقي الماجري

وسيم القربي – تونس

بعد عرضه بلبنان والأردن، تمّ يوم الجمعة 28 سبتمبر بقاعة المونديال بالعاصمة التونسية تنظيم عرض خاص بالصحفيين لفيلم “مملكة النمل” للمخرج شوقي الماجري. وقد كان الحضور الصحفي التونسي مكثّفا وذلك قصد الاطلاع وتغطية الفيلم الذي طال انتظاره لسنوات عديدة نظرا لصعوبات إنتاجية بالأساس.
القضيّة الفلسطينية وصور الخراب…
يسلّط فيلم “مملكة النمل” الضوء على المعاناة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني من قبل قوّات الاحتلال الإسرائيلي، ويحملنا عبر متاهات الأنفاق في تراب فلسطين لنشاهد أنموذجا لقصّة حبّ تجمع بين طارق وجليلة. تفرز هذه العلاقة ولادة سالم في أحد السجون ليعيش رفقة أمّه محروما من رؤية أبيه الذي ينشغل بالمقاومة ضدّ المستعمر المغتصب للأرض. يشهد الطفل سالم اعتداء المروحيات العسكرية على المدارس والشوارع والمقابر واستشهاد صديقه محمد، ليأتي دوره في ما بعد في ساحة الاستشهاد بعد مشاركته في مسيرة الانتفاضة.
فيلم “مملكة النمل” هو قصة أسطورة اعتمد خلالها المخرج التخييل لتمرير الصورة ومحاولة إبراز المعنى… هي صور بعضها مستوحى من الواقع العنيف وأخرى صور لمشاعر المخرج وحساسيته المرهفة تجاه القضية الفلسطينية. لم تمنع المقاومة والنضال من نشأة قصة حبّ توّجت بزواج “متقطّع” باعتبار ارتباطات طارق ومهامّه بين الأنفاق الفلسطينية والجغرافيا المستعمرة. يكشف لنا الفيلم من خلال ولادة سالم في السجن، أنّ الفلسطيني يولد سجينا في أرضه ليسلك طيلة حياته طريق الحفاظ على الأرض والهوية من خلال الدفاع المستميت على أرضه ومقاومة المستعمر. ولعلّ تلك المشاهد المؤثرة هي نماذج من الحياة اليومية للفلسطيني، مثل صور الخراب في الأحياء والهجمات الجوية اليومية على المدارس وقصف الأبرياء والمدنيين العزّل، غير أنّ صورا أخرى بدت في غاية العمق والتي تألق شوقي الماجري في تصويرها ويمكن أن نذكر منها مسيرة العرس الذي يتمّ قصفه جوّا فينبطح الجميع لينهضوا بعد لحظات غير مبالين ويواصلون الاحتفال كدليل أنّ الفلسطيني يرفض الاستلام. كما أنّ المخرج نقل لنا صورا عديدة من الحياة اليومية الفلسطينية التي أبرزت الصراع والرغبة في البقاء من خلال الدفاع المستميت على الأرض والموروث، كما أنّ الاستشهاد والموت هو بمثابة يوم عيد حيث تولول زغاريد الأمهات وتسقي الدموع الإرادة المقدّسة بالحفاظ على الأرض.

                                  شوقي الماجري

“مملكة النمل” هو عنوان حامل لمعاني متعددة تنضاف للرموز التي تشحن الفيلم، حيث تتعاقب الأجيال على حماية المملكة / الأرض فالفلسطيني يثابر بجدية لحماية أرضه ليكون بمثابة النملة العاملة التي لا تيأس ولا تكلّ من العمل بالرغم من الصمت العربي المطبق وتأرجح القضية في غياهب النسيان أحيانا. كما أنّ تلك الأنفاق المحفورة في غزّة هي الوسيلة التي استطاع من خلالها الفلسطيني الهروب من بطش العدوّ، فهو كائن يعيش بين الخارج والداخل وهو حيّ سواء فوق التراب أو تحته. سياسة النمل هي بدورها سياسة العائلات الفلسطينية التي خيّرت الإنجاب المكثف لتقديم الشهداء ووسيلة لمقاومة الاحتلال… لقد قدّم الماجري لنا صورة لثلاثة أجيال وهي جيل الأسبقين الذي تمّ تمثيله بأبو النمل وخضرة المرأة العجوز، وجيل اليوم الذي يمثله طارق وزوجته ورفاقهم والذين ينشغلون بالمقاومة، وجيل الغد الذي يمثله الأطفال الذين يتسلحون بالحجارة ضدّ العدو.

في غياهب مملكة النقد…
لقد عكس المضمون الفيلمي شاعرية كبرى لمخرج حامل لهموم القضية الفلسطينية، حيث يتجلى في الصورة الفيلمية عمق الإحساس، كما أنّ أداء الممثلين جاء متميّزا في أغلب المشاهد وخاصة صبا مبارك ومنذر رياحنة وجميل وجوليات عوّاد. كما يمثّل هذا الفيلم وثيقة ليوميات خيالية لمجتمع فلسطيني يعيش تحت وقع الإرهاب الحقيقي. تقنيّا لم تهدأ كاميرا شوقي الماجري عن الحركة طيلة أكثر من ساعتين بما يطرح العديد من التساؤلات الفنية لهذا الأسلوب التصويري الذي يحيلنا على مرجعية تلفزيونية بالأساس في ظلّ غياب الحركة الحقيقية في صلب الفيلم، كما يحيلنا طول الفيلم إلى طرح أكثر من سؤال. 
شوقي الماجري المتخرّج من المدرسة البولونية، التي تعتبر من بين أعرق المدارس في أوروبا الشرقية، عرفه المشاهد العربي خاصة من خلال العديد من المسلسلات التلفزيونية في الشرق والتي برهن من خلالها نجاحه وحرفيته الإخراجية، غير أنّ الانتقال إلى التجربة السينمائية قد يكون بمثابة المجازفة خاصة وأنه استطاع من خلال المسلسلات التاريخية أن يكوّن أسلوبه الخاص… وإذا كانت للصورة السينمائية خصوصياتها المميّزة لها، فإنّ صورة “مملكة النمل” وبالرغم من جماليتها الخاصة على مستوى تكوين الإطار والتشكيل والديكور وجمالية التكوين فإنها خلقت تلك الجدلية التلفزيونية/ السينمائية، حيث جاءت المشاهد مطوّلة أكثر من اللزوم في كثير من الأحيان لتذكّرنا بالتفاصيل الضرورية في المشاهد التلفزيونية وتفقد بالتالي رونق الاختصار السينمائي. ما يُحسب للمخرج هو التقطيع التقني والفني الذي يوضح بطريقة جليّة التمكّن التقني التام، كما أنّ اختيار الأماكن التصويرية أضافت لجمالية الصورة رونقها غير أنّ تصوير المغاور وتلك الأنفاق وطريقة إضاءتها يقترب من صور المسلسلات التاريخية أكثر من الأنفاق الفلسطينية المراد تصويرها، بالإضافة إلى الانتهاج الواضح لسياسة الاقتصاد في تصوير المشاهد الخارجية لجعلها متطابقة مع الصورة… الفلسطينية.

                                       صبا مبارك

بقي أن نشير إلى أنّ الصورة جاءت متخمة بالرموز مثل أشجار الزيتون والحمامة والحصان والنمل والفراشة (التي كان إقحامها في الصورة واضحا)، في ما جاء الحوار بدوره مشحونا، حيث كانت الصورة كافية للاختزال…
ولعلّ ما نختم به هذه القراءة السريعة لفيلم، صُوّر بإمكانيات ضخمة، أراد من خلاله المخرج التونسي توثيق يوميات من الصراع بأسلوب تخييلي، هو أنّ الموضوع الفعلي والصور التي شاهدناها والتي ترجع بالأساس إلى سنة 2002 قد تكون عديمة الفاعلية اليوم في ظلّ حراك سياسي واجتماعي وثقافي جديد، لتكون هذه الصور عادية إذا ما قارنّا عمق المعالجة السينماتوغرافية لدى مخرجين آخرين تطرّقوا للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وبالرغم من حساسية المخرج واعتماده على صور من الصورة الذاتية لعكس الصراع مع الآخر الذي تمّ تهميش صورته، فإنّه كان من الأجدر التركيز على جدلية الذات والآخر عوضا عن تضخيم صورة الذات.
يبقى هذا الفيلم وثيقة… وتبقى انتظارات آمال المشاهد التونسي والعربي عامة في مشاهدة فيلم تاريخي يعيد تصوير أحداث تاريخ مجيد، حيث همّشت السينما العربية التاريخ بالرغم من أنه قضيّة مهمّة غير أنّ تطلّب هذه الأفلام إمكانيات مالية ضخمة جعل السينمائيين لا يفكّرون في إنجاز أفلام التاريخ بل إنّهم اقتصروا على دراسة تاريخ الأفلام…


إعلان