ثُريا التجريد خلال قرن

رافائيل باسان
ترجمة : صلاح سرميني

يمكن إعتبار التجريد في مجال الرسم أحد الثورات التشكيلية الرئيسية في القرن الماضي، كيف تغير شكل هذه المُمارسة، وفحصها من وجهة نظرٍ مختلفة عن طريق سينمائييّ الطليعة، والسينما التجريبية ؟

خلفيةٌ تاريخية

ظهر التجريد في الرسم حوالي عام 1910، كان الهدف الأول تخليصه من الموضوع لصالح ممارسة، هي بالآن ذاته، فكرية، وحسيّة، تُزيد من قيمة الآليات التعبيرية الصافية المُنطلقة مباشرةً من الشكل بحدّ ذاته، ومن اللون.
عددٌ من الرسامين (كوبكا، بيكابيّا، فالينسي) إرتبطت أسماءهم بالحركات الطليعية في تلك الفترة (مستقبلية، دادائية، بنائية، أسلوبية) كانوا يرغبون في مرحلةٍ أولى ـ كما حال السينمائييّن فيما بعد من أجل ممارساتهم ـ بأن يصبح الرسم فناً مستقلاً، يتخلص من إلتزام نقل الأشكال، ويرتكز على النموذج المثاليّ للموسيقى.

التشكيليّون

يُعتبر الكاتب الدرامي “برونو كورا”، وأخيه الرسام “أرنالدو جينا” إسمان كبيران من الحركة المُستقبليّة الإيطالية، أرادا يوماً إنجاز ما سميّاه “الموسيقى اللونية” بالإعتماد على وضع سلماً بنفس الإسم مُشابهاً لعلاماتٍ موسيقية فكرا بعزفها عن طريق بيانو لونيّ .
في مواجهة الصعوبات العملية لإنجاز مقطوعاتٍ حقيقية بالألوان من خلال تلك الطريقة، فقد تحوّلا إلى السينما، وإتخذاها وسيلةً لا أكثر، وليس هدفاً بحدّ ذاته، وهكذا أخرجا في عام 1912 شريطيّن بطول حوالي 200 متراً :
قوس قزح L’Arc-en-ciel ، والرقص/  La Danse
رسماهما مباشرةً على الطبقة الحسّاسة، وسبقا بأكثر من عشرين عاماً أعمال “السينما المُباشرة” التي أنجزها “لين لاي”، و”نورمان ماكلارين”.

في عام 1913 كتب “ليوبولد سورفاج” نصوصاً تنظيريةً عن مفهومه حول “الإيقاع المُلون”، وسجل مرحلةً في جذور تجريدٍ سينمائيّ خالص :
“الإيقاع المُلون، لا يعني أبداً توضيحاً، أو ترجمةً لعملٍ موسيقيّ، إنه فنّ مستقلٌ بذاته رغم أنه يرتكز على نفس المُعطيات النفسية للموسيقى….العنصر الجوهري لفنيّ الديناميكي هو الشكل البصريّ المُلوّن المُشابه لدور صوت الموسيقى.
يتحدد هذا العنصر في ثلاثة عوامل :
ـ الشكل البصريّ بالمعنى الذي نفهمه عادةً (تجريديّ).
ـ الإيقاع، بمعنى، الحركة، وتحوّلات هذا الشكل.
ـ اللون”(1).
وقد دعا “سورفاج” إلى تبسيط، ومنح هندسية لعناصر الحياة اليومية (أشجار، أثاث)، ومع ذلك، لم يكن ذلك كافياً، يتوجب أن نجعل هذه الأشكال البسيطة تتواصل عن طريق الحركة، تتزواج، وتتحوّل.
في الحقيقة، علينا أن نتقدم خطوةً إضافيةً، ونمنح هذه الأشكال نظاماً بفضل الإيقاع، ونختمها بربط اللون بالإيقاع.
لكن، يُوضح “سورفاج” حجم المهمة :
“من أجل الحصول على قطعةٍ تستغرق ثلاثة دقائق، يجب عرض ما يُقارب من 1000 إلى 2000 صورةً أمام جهاز العرضّ (2).
هناك71 مخطوطةً منجزةً رسماً بالماء باقيةً اليوم، وتحتفظ “السينماتيك الفرنسية” بمشهدٍ يتكوّن من 12 رسماً، نشرها “ستانديش د. لاودر” في كتابه “السينما التكعيبيّة”، ويكشف هذا المشهد مسبقاً فنّ “والتر روتمان” عن طريق :
“التحوّل التشكيليّ من شكلٍ إلى آخر، إندماج، وعدم إندماج الشكل، حركة الألوان في طور التبدّل، حركة الأشكال داخل، وخارج حقل الرؤية”(3).
في بداية العشرينيّات، ظهر في ألمانيا المدرسة الأولى التي فكرت بعلاقة التجريد بالوسائل الخاصة بالسينماتوغراف.
أربعةٌ من الروّاد : فيكينغ إيغلينغ (من أصلٍ سويديّ)، والتر روتمان، هانز ريشتر، وأوسكار فيشينغر مهدوا لهذه الحركة، وبإستثناء “إيغيلينغ” الذي توفيّ في عام 1925 بعد أن أنهى عملاً واحداً “سيمفونية مائلة” في عام 1921، تابع الثلاثة الآخرون مسيرةً متشابهةً كسينمائيين :
بعد أربع أجزاء من (Opus) تجريدية (1920-1925) عاد “روتمان” إلى التسجيليّ الإيقاعيّ “برلين، سيمفونية مدينة كبيرة” عام 1927، ورحل في عام 1941.
بينما تحول “ريشتر” (1888-1976) من قناعاته الدادائية إلى السوريالية، ولكنه ظلّ دائماً في محيط الطليعييّن.
“أوسكار فيشينغر” (1900-1967) الذي جاء إلى السينما بعد أن شاهد في فبراير عام1921 (1Opus) لـ”روتمان”، بقي طوال حياته مدافعاً مشاكساً عن السينما المُطلقة، أو التجريدية.
وبعد أن صادفتهما عقباتٌ في التعبير عن أفكارهما تحت النظام النازيّ، هاجر “ريشتر”، و”فيشينغر” إلى الولايات المتحدة، ومن خلال أعمالهما، وتعاليمهما أصبحاً جسراً بين الطليعة الأوروبية الأولى، والجديدة التي ظهرت في اأمريكا بدءاً من الأربعينيّات.
كان “أوسكار فيشينغر” مبدع أنماطٍ، أنظمة، وأجهزةً خاصة، ومنذ ذلك الوقت أصبح وصياً على الطليعييّن، وبدءاً من عام 1922 أنجز “آلة تقطيع الشمع” (تقطع سبائك من الشمع بألوانٍ مختلفة في شرائح رقيقة، يمزجها، ويكشف صورةً صورة، التلافيف الداخلية الكامنة في إختلاطها)، تلك المحاولات سبقت في جوهرها شكلاً من أشكال التحريك المُبرمجة.
وفيما بعد، واصل مع “رودولف فينينغر” المحاولات التجريبية الأولى حول الصوت المرسوم على الطبقة الحسّاسة، الصوت الإصطناعيّ الذي سوف يؤثر بعمقٍ على أعمال “نورمان ماكلارين”.
من “إيغيلينغ” إلى “فيشينغر” تتكثف المُوتيفات المُستخدمة في فضاء الأفلام، ونتحول من تحريك الأشكال الهندسية البسيطة (سيمفونية مائلة) إلى إنشاء موسيقية فيلمية أصيلة (مع سلسلة Studies التي أُنجزت بين الأعوام 1929 و1934 عن طريق “فيشينغر”، والذي أنجز طباقاتٍ بصرية مع مؤلفات برامز، فيردي، أو بيتهوفن).
وإنطلاقاً من رغبةٍ تشكيليّة بتحريك الرسومات، يُبدع “هانز ريشتر” رموز أشكال تتمفصل في Rhythmus 21 (1921-1924) حول تحريك أشكالاً هندسية مسطحة بيضاء، سوداء، أو رمادية تتحرك على السطح، وفي Filmstudie عام 1926 يمزج هذه الأشكال الهندسية مع عناصر مأخوذة من الواقع، ويُنشئ جسراً بين التجريد التخطيطيّ، والسينما الصافية التي كتبت عنها “جيرمين دولاك”.
رسامٌ أيضاً، كان “والتر روتمان” أول واحد من الروّاد الذين قدموا للجمهور فيلماً (1Opus) في عام 1921 تجلت أصالة هذا العمل في تلوينه مباشرةً عن طريق تقنية النسخ(4).، يتجاوز هذا الفيلم القصير إلى حدٍ بعيد “التجارب الهندسية” الخاصة بـ “إيغيلينغ”، و”ريشتر”، وعن طريقه، برهن “روتمان” على معنى أصيل للتكوين من خلال، ومع الوسيط الفيلميّ :

“فيلم1Opus لـ “والتر روتمان” نموذجٌ للتكوين بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى : موسيقىّ، ويعني بأنه مكوّنٌ، منظمٌ، ومبنيٌّ بطريقةٍ زمانية، تصويريّ، لأنه مبنيٌّ مكانياً بمعالجة الألوان، والأشكال كما في الرسم التجريدي، وأخيراً، كيمائيّ، لأن ماهو مكوّن ليس صافياً، في الحقيقة : عندما تمّ إنجاز 1Opus في عام 1920، كان يتوّجب إنتاج المُستحلبات المختلفة للألوان بطريقةٍ منفصلة، ويجب لصقها معاً بحيث تصبح كلّ نسخة منظومة معقدة من مستحلباتٍ مختلفة”(5).
لا ينطلق “ريشتر”، “روتمان”، و”فيشينغر” من نفس الإفتراضات الفلسفية، حيث يُعتبر الأول واحداً من حركة الطليعييّن يرغب تحريك الأشكال بإستخدام الكاميرا.
بينما “روتمان” رسامٌ، وعازف كمان يبحث من خلال منظور مرتبط بالفلسفة الألمانية في القرن التاسع عشر على تطبيق ما أسماه نيتشه “روح الموسيقى”.
بدوره، “فيشنغر” متأثرٌ بالبوذية المُعتنقة في التيبيت، يحاول إكتشاف لغة تتضافر فيها التشكيلية، والروحانية.
“وبينما إستخدم “ريشتر”، و”إيغلينغ” الموسيقى نموذجاً بنائيّاً لتحليل الحركة، كان “روتمان” أكثر إهتماماً بترجمة التلميحات العاطفية للموسيقى في صورٍ ملونة، ومتحركة”(5).

هوامش المؤلف :
(1) ـ سينما : نظرية، وقراءات، نصوص جمعها، وقدمها “دومنيك نوغيز”، 1978، صفحة 275.
(2) ـ نفس المصدر السابق، صفحة 277.
(3) ـ السينما التكعيبيّة، ستانديش . د. لاودر(إصدارات Paris Expérimental، مقتنيات “كلاسيكيات الطليعة”، 1994)، صفحة 37.
(4) ـ “تمّ عرض الفيلم التجريدي الأول في بداية أبريل عام 1921 في صالة إسمها “U. T. Im Schwan”(فرانكفورت)، يشهد على ذاك العرض نصّاً مميزاً كتبه “برنارد دايبولد” نُشر بتاريخ 2 أبريل عام 1921 في الزاوية الثقافية لمجلة “Frankfurter Zeitung”، وفيه كتب تقريراً عن العرض الجماهيري لفيلمٍ بدون عنوانٍ في ذاك الوقت (أطلق عليه إسم Photodrame no.1 )، وفي الوصف الذي كتبه، يتبيّن لنا على الفور تتابع الأشكال التجريدية التي يتكوّن منها Opus 1″(جيرار تالون، “ولادة الفيلم عن طريق روح الموسيقى”، مجلة السينما، العدد 359 صفحة 112 مارس 1981).
منذ عام 1916 وضع “برنادرد دايبولد” فرضية فناً جديداً مرتكزاً على بناءٍ درامي موسيقيّ للأشكال، لمعرفة الفكرة الجمالية لـ”دايبورد” في تلك الفترة، ينصحنا “جيرار تالون” بقراءة مقالاته حول التعبيرية والسينما التي نُشرت في 14 ، 15 و16 سبتمبر 1916 في Neue Zurcher Zeitung.
(5) ـ بيب شودروف، دراسة بعنوان “درجات الألوان”، مجلة  Exploding العدد 3 عام 1999.
(6) ـ السينما التكعيبيّة، ستانديش . د. لاودر(إصدارات Paris Expérimental، مقتنيات “كلاسيكيات الطليعة”، 1994)، صفحة 62.

هوامش المُترجم :


Raphaël Bassan
وُلد “رافائيل باسان” عام 1948 في بلغاريا، وهو مخرجٌ، وناقدٌ سينمائيٌّ فرنسيّ، متخصصٌ في السينما التجريبية.
في البداية، توجهت إهتماماته نحو مسيرة أدبية، حيث أصدر مع “هوبير حداد” عام 1970 مجلة متخصصة بالشعر (Point d’être)، بينما أخرج أول أفلامه القصيرة في عام 1969.
“جان بول بورر”، وكان واحداً من أعضاء المجلة الشعرية، إستعاد ذكريات تلك السنوات في صفحات سيرته الذاتية (محاربو الحلم)، وأشار إلى “رافائيل باسان” بصفته شاعراً، وسينمائياً.
منذ ذلك الحين، بدأ “رافائيل باسان”  يكرسّ نشاطه للكتابة عن السينما بشكلٍ عام، والتجريبية خاصةً، تلك التي كان يتجاهلها معظم زملائه، وكتب مقالاته السينمائية في صحفٍ، ومجلاتٍ متعددة، وأصبح صحفياً محترفاً.
من جهةٍ أخرى، يعتبر واحداً من المجموعة التي أسّست في عام 1971 تعاونية التوزيع المُستقلة المُسمّاة “جماعة السينما الشابة” التي تُواصل نشاطها حتى اليوم.
خلال الفترة 2000-2010 تعاون “رافائيل باسان” كناقد سينمائي مع مجلاتٍ أخرى، ومواقع فرنسية، وأوسترالية متخصصة، وشارك في تحرير بعض المقالات في “الأنسكلوبيديا العالمية”(من موقع ويكيبيديا).


إعلان