فيلم “أرض الحكاية”
عدنان مدانات
يشكل رشيد مشهراوي حالة مميزة بين المخرجين الفلسطينيين المعاصرين بسبب من نشاطه الدؤوب والمتواصل في مجال إخراج الأفلام الطويلة والقصيرة بنوعيها التسجيلي والروائي. فيلمه التسجيلي الجديد الذي شارك به في مهرجان دبي السينمائي الأخير يحمل عنوان” أرض الحكاية” والفيلم مخصص للحديث عن حال مدينة القدس وما طرأ عليها من تغييرات بفعل تسلط الاحتلال الإسرائيلي لها منذ قيام الدولة الصهيونية في العام1948، وتاليا احتلال القدس الشرقية إثر حرب عام 1967.
يتشكل الفيلم من مادتين، المادة الأولى عبارة عن مقابلة طويلة تعرض على مقاطع خلال الفيلم تجرى مع مصور فوتوغرافي صاحب ستوديو أرمني يمتلك ذخيرة من الصور الفوتوغرافية عن القدس ورثها عن والده الذي امتهن التصوير في القدس منذ عام1924. هذا المصور لم يكتف بالاحتفاظ بالأصول السالبة بل قام بطباعة الصور على الورق وعلقها في الأستوديو فيما يشبه المعرض، كما أنه ضم العديد منها في كتاب خاص. يتحدث المصور في هذه المقابلة عن محتوى الصور فيما يقوم بعرضها على المخرج ويبين له تفاصيل بعض المعالم الواردة فيها. تبدو القدس في هذه الصور المصنوعة بالأبيض والأسود مدينة صغيرة وادعة تقع وسط مساحات واسعة لم تصلها آلة العمران بعد.

لفت انتباهي الطريقة التي يعرض فيها المخرج هذه الصور على المشاهدين، فهو لا يبرز الصور بلقطات قريبة مستقلة تملأ الشاشة، ولا يركز عليها بل يعرضها ضمن إطار الحوار المتبادل بينه وبين المصور ويتنقل بينها بسرعة لا تتيح لعين المشاهد التمعن فيها والتملي منها. بدت لي هذه الطريقة مقصودة بهدف الابتعاد عن التباكي على الماضي الذي لا يمكن الرجوع إليه واستعادته، أو إضفاء قدسية معينة عليه، إذ يعرض المخرج هذه الصور لا لقيمتها بذاتها بل يعرضها كمادة تساعد على الانتقال إلى صورة القدس المعاصرة وهي الموضوع الرئيسي للفيلم.
ليست القدس الشرقية المعاصرة كما يقدمها المخرج شبيهة بما يألفه الناس من شكل المدينة سواء في الصور الفوتوغرافية أو في الأفلام التسجيلية، فليست القدس في “أرض الحكاية” مدينة المقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية، ليست المسجد الأقصى وليست كنيسة القيامة، أما حواري القدس القديمة وأدراجها فلا تبدو بجمالها المعهود من خلال الصور السياحية، بل تبدو مدينة ضيقة مكتظة بالبشر الساعين إلى أعمالهم اليومية ومكتظة بجنود الاحتلال وبالمستوطنين. الصورة التي يقدمها الفيلم للمدينة تلخصها حالة بعض المباني القديمة التي تحتشد في بيوتها البائسة العديد من العائلات الفلسطينية الوارثة لهذه البيوت ويزاحمهم عليها مستوطنون صهاينة احتلوا بعض هذه البيوت واعتادوا هم وأطفالهم التسبب في الأذى للسكان، وأضافوا إلى هذه البيوت بقصد الحماية كاميرات المراقبة التي نشروها في كل مكان في هذه الأحياء وشوهت تمديداتها الكهربائية شكلها وزاد من هذا التشوه دوريات جنود الاحتلال الذين يتفقدون الأزقة المتعرجة الضيقة التي تصل ما بين هذه الأبنية التي تشكل بدورها صورة معبرة عن حال مدينة القدس الشرقية المحتلة( أذكر هنا انه سبق للمخرج في بداية نشاطه السينمائي أن أخرج فيلما تسجيليا قصيرا عن هذه المباني التي يحتل بعض بيوتها مستوطنون يعيشون وسط السكان الفلسطينيين بحماية جيش الاحتلال. الفيلم كان بعنوان ” دار و دور”).
يستنطق المخرج أمام الكاميرا بعض سكان هذه البيوت القديمة الذين يتحدثون عن أزماتهم المعيشية وبؤس العيش في هذه البيوت التي تتعرض للخراب والرطوبة ولا يسمح لهم بإصلاحها كما أنهم لا يملكون الموارد التي تمكنهم من إصلاحها وترميمها، ولكنهم مع ذلك يتمسكون بها ويرفضون كل العروض المالية المغرية التي تقدم لهم من أجل شرائها. يتحدث السكان في الفيلم بعفوية و بعاطفة صادقة بعيدة عن الطريقة التي يتحدث فيها بعض الناس أمام الكاميرا. ينطبق هذا على شكواهم من بؤس حالهم كما ينطبق على حديثهم عن إصرارهم على البقاء في بيوتهم رغم كل المضايقات اليومية التي يتعرضون لها.
هذه العفوية الصادقة هي ربما ما يفسر ردة الفعل التضامنية التي حضي بها الفيلم من الجمهور أثناء عرضه في مهرجان دبي السينمائي حيث ذكرت الأنباء أن عرض الفيلم تسبب في قيام حملة تبرعات لصالح القدس.