وثائقي عن فتيات أفغانيات بمظهر الصبيان

 “باشا بوشي: ستصبحين ولداً.. يا إبنتي”

قيس قاسم ـ السويد
لا تشي الصورة الأولى الثابتة التي يظهر فيها أطفالاً أفغان يلعبون في أحد أحياء كابول بإستثناء. الأطفال مثل غيرهم، صبيان يلعبون ببراءة خارج بيوتهم، لكن التعليق الذي نسمعه حولهم سرعان ما يحفز الفضول عندنا للتدقيق في اللقطات التي تليها، والتي ستحيلنا بدورها الى وقائع لا تتسواق مع الظاهر في المشهد الأول/ الصورة من الوثائقي الفرنسي “باشا بوشي: ستصبحين ولداً.. يا إبنتي”، فبعض الصبيان فيها ليس هم بصبيان بل فتيات غَيَّر أهاليهن شيئاً من هيئتهن وألبسوهن ملابس الذكور حتى يتم لهم ما يريدون: أن يحولوا بناتهم الى صبيان. أن يصبح عندهم ذكور! وعنوان الفيلم يوضح فحوى التحول الجاري، الظاهري  في نوع الجنس، ف”باشا بوشي” يعني بها أهل البلاد: “البنت التي ترتدي ملابس الذكور”. حالما تحركت الصورة تغير فيها الكثير، خلقت واقعاً جديداً أظهرت شوارع كابول العادية، مختلفة عن بقية شوارع الدنيا، فيها العجب، والتقاطة المخرج ستيفن ليبران، على بساطتها، قادتنا الى خفايا الحياة في مجتمع ذكوري الى درجة الخديعة. خديعة مخيفة للذات ومراضاة لتقاليد وأعراف بالية وأيضاً تنازلاً أمام واقع اقتصادي يدفع الناس دفعاَ للقبول في تغيير هئية الكائن البريء الى أخرى دون مراعاة الى ما سيتركه فيه هذا التحول من آثار نفسية وجسدية سلبية.

خلاصة القصص الأربع التي يروها الفيلم على لسان أربع فتيات تحولن في مرحلة معينة من حياتهن الى ذكور، تقدم صورة مقربة لحال المرأة الافغانية ومجالاً بحثياً في علوم الإجتماع والانثروبولجي والنفس، وتقود موضوعياً الى عرض واقع البلاد السياسي وشكل الصراع الجاري فيه خارج العسكري الطاغ في وسائل الإعلام. فيما تتجنب  الحكايات الخوض في تأثيرتها على الميول الجنسية عند الأطفال في سن لاحقة من حياتهم. فالوثائقي أراد التركيز على العينات المتوفرة دون الخوض في تفاصيل بحث يحتاج الى مادة وخامات بصرية مكرسة لهذا الجانب، مع أن مجال التحليل النقدي يسمح بإسقاط ظلالاً من الشك في درجة تأثير هذا التحول الظاهري (دون الجسماني) على تلك الميول.
على المستوى الاجتماعي تسمح التقاليد الأفغانية للوالدين اللذين لم ينجبا ذكورا بإلباس احدى بناتهم ملابس الوَلَد، والتصرف كذَكر خارج البيت على أساس هذا التغيير، ومعناه في عمق الموروث الاجتماعي تعويض مؤقت عن الحرمان من نعمة انجاب الصبيان، لكنه سيتعارض مع الإجتهاد الشرعي الذي حدد مدة التحول أو “التنكر” حسب تفسير الملالي الأفغان بفترة زمنية لا تتجاوز سن المراهقة والرشد على أقصى حد، وقتها يتوجب على الفتاة العودة الى طبيعتها كأم مؤهلة للزواج والإنجاب وخدمة الرجل، والخروج عليه مرفوض ومتعارض مع تفسيرهم للحالة. في مستوى ما يفرزه التمييز الحاد بين الولد والبنت في مجتمع ذكوري بإمتياز تستهوي فكرة التحول الفتيات لما توفره لهن من حرية شبه كاملة مقارنة مع وجودهن كفتيات، عليهن البقاء في المنزل أو الذهاب الى المدرسة بشروط وضوابط مشددة، في حين تسمح لهن “ذكوريتهن” المؤقتة باللعب والخروج الى الشارع بحرية ومخالطة الصبيان وفعل كل ما يُمنع على الفتيات فعله. بإخصار يمنح التنكر للفتاة حريتها المفقودة ويساويها بدرجة معينة بالصبي الأفغاني وهذا ما لا يتوفر في مجتمعها المحافظ.
البعد الاقتصادي والحاجة لمُعيل يقوي اقتصاد العائلة الفقيرة عنصر محرك لكثير من العوائل المحرومة الوَلّد، وقصة الصبي زاهد (الفتاة) شابينا، في الأصل، يَظهر فيها هذا العنصر جلياً فيما يبقى سبب تحول “جنسها” سياسي في العمق، فالسياسة والاقتصاد عاملان قويان في هذة المعادلة المعقدة. لم يأتِ قرار والدها إلباسها زَيّ الذكور من فراغ لقد أجبرته اعاقته الجسدية، بسبب إصابته بقذيفة أثناء اشتراكه في الحرب ضد الجنود السوفيت، الى طلب المساعدة من إبنته في تدبير شؤون دكانه الصغير والعمل خارجه في جمع الأكياس والورق من الشوارع والمزابل  لبيعها بأسعار بسيطة تعينهم على توفير لقمة عيشهم. شابينا ذات السنوات الست لا تحب هذا العمل، قالت ذلك أكثر من مرة أمام الكاميرا ولكنها مجبرة عليه كما هي مجبرة على التنكر في زي الصبي “زاهد”، وحيرة والدها وحزنه يكفيان لإداخلنا دوامة التفكير في سلوكه والموقف منه. فالرجل يخاف أن يتقدم أحد أقاربه ويطلب يدها حينها سيخسر كل شيء. في نفس الوقت يشعر بثقل حمل إبنته، فهي تقوم بأعمال المنزل وخارجه تعمل عمل الولد الغائب.

 في تجربة آخريات تبدو الصورة مختلفة والميل الى البقاء في الصف الذكوري كاسح لما فيه من امتيازات، تكرسها تجربة مريم التي صارت منذ سنتها الرابعة “باشا بوشي” ومع الوقت صار أحسن لاعب تنس في البلاد. امتياز لا تريد التضحية به من أجل العودة الى جنس العبودية حسب وصفها، ولهذا هي شديدة الحرص على عدم كشف حقيقة جنسها. وعلى العكس منها عادت ناهيد الى جنسها الأصلي بعدما خسرت امتياز لعبها كرة القدم. اليوم تشعر بتناقض صارخ داخلها فمن جهة تحب أن تكون فتاة ولكن خسارتها “الذكر” المتنكرة فيه يعني خسارة لعبة أحبتها، وحتى تبقى قريبة منها تعمل اليوم كمحررة في جريدة خاصة بإتحاد كرة القدم. عمل في الاتحاد علناً كأنثى وفي السر تلعب مع زميلاتها السابقات كرة القدم بعيداً عن الانظار بوصفها ولداً. حالات عصية الفهم وتراكيب اجتماعية وجنسية مبطنة ومتداخلة يقدمها لنا فيلم انتظر حتى نهايته ليفجر تنقاضات موضوعه في فصل خاص بالفتى “جاك”، الذي ظل  طوال الوقت، يوحي لنا بعمق ايمانه بخياره وتشبثه بذكورية أعطته مجالاً رحباً ونجاحاً مهنياً وأيضاً اصطفافاً ضمنياً مع بنات جنسه بإعتباره يوفر لهن فرصة، عِبْر قبوله الذكورية الخارجية، للدفاع عن حقوقهن وذلك بالكشف عن حجم الامتيازات المتوفرة للذكر دون الأنثى. سلوك اعتبرته بعض النساء الأفغانيات المدافعات عن حقوقهن شكلاً  من أشكال الاعتراض على واقعهن المعاش، ولهذا اقترحن اشراكه معهن في الدورة التدريبية الخاصة التي وفرتها لهن بعض الدول الأوربية لتعليمن مفاهيم الديمقراطية ويعرضن بدورهن حال المرأة الأفغانية ومشاكلها. المفاجئة جاءت من “جاك” دون غيره في باريس، فقد ترك الفندق هارباً دون اشعارهن أو إعلامهن بخطته. لماذا فعل جاك ذلك. هل اكتشف حقيقته حين رأي حجم الحرية التي تتمتع بها المرأة الفرنسية، وأراد تذوق طعمها؟ هل أعطت له الزيارة الأوربية فرصة  مكاشفة داخلية، ومصارحة مع الذات، لم يجد بعدها معنى لإخفاء حقيقة جنسه، وهل كان كل ما يدعيه في أفغانستان من قبوله التحول الذكوري وبالكامل محض كذب على الذات؟ أسئلة لم تعد تخصه وحده بل تشمل كل الصبايا المتنكرات ذكوراً دون ارادتهن، يحيلها علينا وثائقي عميق أخذ موضوعاً غامضاً وبحثه بإسلوب شيق وبمضمون غني، أما أسئلته الكثيرة فتركها مفتوحة، لا أحد يقدر على الإجابة عنها غير المعنيين الحقيقيين بها.
 


إعلان