أيام دوز للفيلم الوثائقي

وسيم القربي – تونس
احتضنت مدينة دوز، التي تعتبر بوابة الصحراء التونسية، الدورة الثانية من أيام دوز للفيلم الوثائقي في الفترة الفاصلة بين 26 و30 ديسمبر. ويعتبر هذا الحدث الثقافي مواصلة لسلسلة من المشروع الفكري والجمالي الذي يسعى لنشره المخرج التونسي هشام بن عمار رفقة مجموعة من المبدعين. هم بالأساس سينمائيون تحدوهم رغبة جامحة في نشر ثقافة الوثائقي داخل الجغرافيا التونسية ومحاولة خلق لامركزية في النشاط السينمائي الذي اقتصر طيلة عقود على مدينة تونس العاصمة.

القوافل السينمائية:


تعتبر أيام دوز للفيلم الوثائقي وليدة الحركة الثقافية التي تشهدها تونس الثورة، حيث انطلقت القوافل الوثائقية في محاولة إرساء مشروع إبداعي يختصّ بنشر الفيلم الوثائقي مما جعله مشروع مواطنة بامتياز. غاصت القوافل السينمائية في اعماق الحقل الاجتماعي المهمّش سعيا إلى تكريس لامركزية ثقافية من ناحية، ونشر الثقافة السينمائية في أعماق تونس المهمّشة. لقد شهد النشاط السينمائي طيلة فترة النظام البائد اقتصارا على حركة ثقافية اتخذت من العاصمة المركز مقابل تهميش الأعماق التونسية واقتصارها على دور تسييحي وفولكلوري بالأساس. وبالتالي فإنّ القوافل السينمائية جاءت ضمن مشروع فكري لنشر الثقافة السينمائية في كامل أرجاء تونس قصد خلق موازنة إبداعية وترسيخ ثقافة الصورة وجعل الوثائقي منهجا للتربية والتغيير. كما أنّ هذه القوافل سعت إلى اقتراح حلول بديلة قصد إحياء استهلاك الصورة السينمائية بعد اندثار القاعات التي يبلغ عددها الفعلي حاليا 13 قاعة في كامل أنحاء البلاد.
تنظم القوافل السينمائية حدثا كلّ شهر يهتمّ أساسا بموضوع معيّن مثل ذكرى تجارة الرقيق في شهر أوت وإحياء اليوم العالمي لأدب السجون في شهر نوفمبر على سبيل المثال، وهي مبادرات أنتجت حركية في المدن والقرى التونسية التي زارتها واسترجاع لاستراتيجية البداية الفعلية للسينما التونسية خلال فترة الأربعينيات حيث كانت القوافل تجوب البلاد لعرض الأفلام الأمريكية والأوروبية بالأساس قصد نشر السينما.
ولقد أنتجت حركية هذه القوافل تأسيس تظاهرة أيام دوز للفيلم الوثائقي التي تعتبر محاولة رائدة لمزيد تأسيس بنيات إبداعية تساهم في تأمين  الاهتمام بهذا الجنس الإبداعي.

أيام الفيلم الوثائقي بدوز:
احتضنت مدينة دوز الدورة الثانية من هذا الحدث السينمائي وكانت فرصة لعرض أحدث الإنتاجات من وثائقيات تونس. وقد أكّد المخرج هشام بن عمار للجزيرة الوثائقية أنّ “هذا المهرجان هو بالأساس مشروع مواطنة، نرمي من خلاله لتأطير وتشجيع المخرجين الذين يحملون آمال التجديد بالنسبة للسينما التونسية” ويضيف في هذا الإطار أنّ “أيام الفيلم الوثائقي بدوز يقام على مشارف الصحراء ويتجاوز الحدود بالمفهوم الجمالي، وهو تشجيع للسينما الوثائقية وللإنتاج المستقل وشكل من أشكال المقاومة”.
تكوّنت لجنة التحكيم من المخرج التونسي محمود بن محمود والشاعر آدم فتحي والمخرج الإيطالي “كارلو داماسكو” و”آلاكس موسى سوادوقو” من بوركينا فاسو والمخرجة الإسبانية “ماريا رويدو”. توّج فيلم “يامن عاش” للمخرجة هند بوجمعة بجائزة “الجمل الذهبي” لمسابقة الأفلام الطويلة، كما شهدت الأيام موائد مستديرة جمعت السينمائيين لمناقشة واقع ومستقبل الوثائقي في تونس. ولعلّ أهمّ ما ميّز هذه الأيام هي إقامة الحدث داخل خيام صحراوية أضفت جمالية المكان من رونقها… هكذا يتخذ الوثائقي صيغة إنشائية في مدينة دوز الصحراوية التي يكون فيها الشعر خاصية إبداعية.

الوثائقي التونسي والآفاق؟

المخرج هشام بن عمار


لقد خلقت الثورة التونسية حركية في جميع المجالات غير أنّ القطاع السينمائي، وبالرغم من بعض المحاولات، لازال يتخبّط في عشوائيته المعهودة. يشهد الحقل السينمائي ترسّخا لنفس العقليات البائدة التي أبت أن تتغيّر أو أن يتمّ تغييرها بعد الثورة، حيث لا تزال نفس الأسماء الإدارية الجامدة ملتصقة بكراسيها الأبدية التي قد لا يفارقونها حتى بعد التقاعد باعتبار أنّها منبع للجاه ومصدر لتكوين العلاقات وإقامة الرحلات السياحية المجانية. ولعلّ الاعتداءات على الفنانيين وانطماس مفهوم الديمقراطية والتعبير الحرّ والتعيينات الفوقية على رأس هياكل الثقافة هي من أبرز التحديات التي يتداولها المثقفون هذه الأيام ويسعون من خلال اتحادهم لمقاومة هذه الممارسات التي تساهم في تعطيل الثورة الثقافية التي طال انتظارها. غير أنّ الرهانات تهمّ أيضا، بشكل آخر، مستقبل الفيلم الوثائقي الذي أصبح يمثل شكلا من أشكال المقاومة من خلال نقل الواقع والوقائع، حاملا لسياقات دلالية وجماليات خاصة من أجل نقل صورة الواقع الجديد. وبالتالي فإنّ العديد من المخرجين الشبان والمستقلين اتجهوا نحو هذا الجنس الإبداعي الذي لا يتطلب تكاليف باهظة مقارنة بالفيلم التخييلي، غير أنّ العديد منهم سقط في تكرار ما أنتج عن الثورة التونسية طمعا في التسويق السينمائي نحو مهرجانات الغرب بالأساس التي انبهرت بصورة تونس الجديدة. يبقى الفيلم الوثائقي وثيقة مهمّة لطرح نظرة فنية عن الواقع، وتبقى الانتظارات آملة تغييرات جذرية في بلد عُرف بصورته القيّمة. 


إعلان