الهوبيت : الفانتازيا..وغواية الواقع والتاريخ

رامي عبد الرازق
من كان يتصور أن جي ار ار تولكن مؤلف ثلاثية”سيد الخواتم”والموسوعة الفانتازية”الأرض الوسطى” سيؤسس عالمه الروائي الهائل من مجرد جملة بسيطة كتلك”في حفرة بالأرض كان يعيش الهوبيت مشعر القدمين”.
في عام 1930 بدأ أستاذ الجامعة الأنجليزي والمتخصص في تاريخ الأدب واللغات الشمالية جون رونالد رويال تولكن في كتابة روايته”الهوبيت”والتي تظهر فيها لاول مرة شخصيات كثيرة من عالمه الفانتازي الشهير”الأرض الوسطى”الذي سوف يشكل الخلفية الروائية والملحمية لثلاثية مملكة الخواتم والتي بدأها عام 1937 وانتهى منها عام 49.

بداية البداية
قام المخرج بيتر جاكسون مع نفس مجموعة الكتاب التي شاركته العمل على ثلاثية الخواتم بأقتباس رواية”الهوبيت, هناك والعودة إلى هنا” كمشروع فيلم من جزئين ثم تطور ليكون ثلاثة افلام, بدأها  جاكسون بفيلم”رحلة غير متوقعة”, وهي بداية البداية إذا جاز التعبير, فهو يبدأ من نفس اليوم الذي بدأت به سلسلة سيد الخواتم, وهو يوم عيد ميلاد الهوبيت بيلبو باغنز وانتظاره لحضور غاندلف الساحر الرمادي للاحتفال معه, وهو نفس اليوم الذي يقرر فيه كتابة رحلته(هناك والعودة إلى هنا) وهو نفس اسم الرواية الأدبية.
الوقوف على بداية البداية هو ليس مجرد ربط إيهامي أو تسلسلي إو درامي بين رواية الهوبيت وبين سيد الخواتم, ولكنه ربط وجداني بالاساس واستدعاء روح وحالة ثلاثية الخواتم لمتفرج”الهوبيت”الذي يأتي بعد عشر سنوات من نهاية الجزء الأخير ليبدأ من جديد اعادة اكتشاف عالم”الأرض الوسطى”, ولذلك نرى المخرج يحافظ على عنصرين أساسيين, الاول: وجود نفس الممثلين/الكاست الخاص بمملكة الخواتم حتى من ليس لهم أدوار أساسية في الفيلم الجديد, وعلى رأسهم بالطبع فرودو حامل الخاتم /اليجا وود بالأضافة إلى كل من غاندلف/ آين مالكين والساحرة الجميلة/كيت بلانشيت, واللورد اللروند/هوجو ويفنج وحتى الممثل آين هولم الذي قام بدور بيبلو العجوز في الثلاثية.

ثانيا : التفسير الدرامي لأحداث سيد الخواتم وأسبابها التي ورد بعضها بشكل عابر خلال الثلاثية وذلك بتفصيلها في الفيلم الجديد لاستحضار روح الثلاثية, واللعب على فضول المتلقي غير القارئ للرواية في التعرف على أصول العوالم والاجناس والشخصيات التي عاش معها طوال سنوات تقديم السلسلة والتي استمرت من 2000 إلى 2003 وأعتبرت فتحا في صناعة الملامحم الفانتازية السينمائية.
ويأتي التفسير الدرامي عبر لغة سينمائية مكثفة تستدعي للذهن جمل ومواقف شهيرة من الثلاثية وهي مهمة صعبة على صناع السلسلة الجديدة, ولكنها ايضا تمتاز بقدر من النوستالجيا الشعرية, فحين يلتقي بيلبو بالمخلوق غولوم لاول مرة ويحصل على”الخاتم”الذي سقط عن غولوم ويرتديه نجد المخرج يوازي بين لقطة ارتداء بيلبو للخاتم للمرة الاولى وبين نفس اللقطة من نفس الزواية ونفس الأسلوب عندما ارتداه فرودو للمرة الاولى في الجزء الاول من سلسلة الخواتم.
وعندما يهم بيلبو بقتل غولوم يقدم لنا المخرج عينا المخلوق المشوه الذي لا يرى بيلبو-لأرتدائه الخاتم-في لقطة قريبة يملئهما العذاب والآسى والجحيم الذي عاشه طوال سنوات طويلة في استحواذ الخاتم عليه, ويأتي المونتاج  المتوازي بين وجه بيلبو المشهر سيفه وعينا غولوم المعذبتين ليذكرنا بالجملة الشهيرة التي قالها غاندلف لفرودو في “رفقة الخاتم” حين استنكر فرودو ان يشفق بيلبو على غولوم لكن غاندالف يقول له أن شفقة بيلبو وقتها ربما ستحدد مصير الكثيرين, وبالفعل فيما بعد سيصبح غولوم هو دليل فرودو وسام في الطريق لجبل الهلاك كي يدمرا الخاتم.

فانتازيا طفولية
يغلب على هذا الجزء جانب لا بأس به من روح الفانتازيا الموجهة للاطفال ربما كان السبب في ذلك أن تولكن كتب هذه الرواية لاطفاله بالأساس قبل أن يجد طريقا لنشرها, ونجد فيها اعتبارات نقاد الأدب لروح القصص الطفولية المحكية بسلاسة والتي تحتوي على مواقف طريفة وخوف شديد على الأبطال ينتهي في كثير من الاحيان بتخلص البطل من المأزق عبر ذكائه الخاص وليس قوته البدنية, وكذلك التباين الشديد ما بين حجم البطل الصغير وبين أحجام الشخصيات الخرافية التي يصارعها بل ويتغلب عليها.
في البداية عندما يقع اختيار غاندالف-في اول تعارف له مع بيلبو-على هذا الهوبيت الصغير لكي يشارك مجموعة الاقزام رحلتهم الغريبة لاستعادة مملكتهم التي استولى عليها التنين, نتساءل لماذا يحتاج غاندلف إلى شخص صغير الحجم مثل بيلبو يحب الجلوس في المنزل والقراءة والاكل طالما ان رفقاء الرحلة هم انفسهم من اصحاب القامات القصيرة! لكن غاندالف يوضح أن الهوبيت يمتازون بالخفة والذكاء الشديد والشجاعة والقناعة كما ان التنين لا يستطيع تمييز رائحته مثل الأقزام وهذه المبررات الدرامية تسوقنا لفكرة صناعة البطل الطفولي الذي لا يملك القوة الجسدية ولكن الذكاء والروح الشجاعة.
ونجد هذا التركيز على فكرة الذكاء في مقابل القوة والوحشية في تخليص بيلبو لنفسه ورفقاء رحلته من الغيلان الثلاث بكسبه للوقت حتى تشرق عليهم الشمس وتحول الغيلان إلى حجارة, كذلك في ممارسة لعبة الألغاز مع غولوم في سبيل الفوز من أجل الخروج من الكهف قبل ان يكتشف الاخير سرقة الخاتم ويطارد بيلبو بعنف.

اننا نلمح تأثيرات ادب الأطفال واضحة في الفيلم ربما لالتزام المعالجة بروح الرواية من ناحية أو رغبة صناع الفيلم من التخفيف قليلا من حدة التراجيديا الانفعالية التي وسمت ثلاثية الخواتم والتي لم يكن يمثل الريليف فيها(التخفيف من حدة الأنفعال الدرامي) سوى شخصيات مثل بيبن وماري اصدقاء فرودو ورفقاء الخاتم معه وكان احدهم يمتاز بالفضول والأخر بالطيبة المفرطة وكلاهما يشترك في النهم للطعام والسخرية من كل شئ جاد.
هنا نجد الكثير من المواقف التي تتمحور حول الأفهيات الجسدية أو اللفظية خاصة الجزء الخاص بلقاء بيلبو اثناء رحلته الغير متوقعة مع الأقزام بثلاثة غيلان حيث نجدهم يتحدثون عن المخاط الذي يكسب الاكل طعما جديدا بل أن احدهم يقوم بالتمخط على بيلبو نفسه ويظن أن بيلبو خرج من انفه.
كذلك تبدو ردود أفعال بعض الشخصيات الخرافية كملك الغيلان اقرب للطرافة خاصة عندما يحول بين غاندالف ومجموعته وبين طريق الهرب من مملكة الغيلان السفلية قائلا : ماذا سوف تفعل الأن ؟ فيشق له غاندلف بطنه بالسيف فيعقب: هذا سوف يفي بالغرض, وينهار ميتا.
كذلك هناك غياب واضح للخط العاطفي الذي كان ظاهرا في سلسلة الخواتم والذي تكلفت به قصة الحب بين الجنية ارون ابنة لورد اللروند وبين اراجون وريث عرش ايسيلدور ,الملك الذي يعود على عرش غوندور في النهاية, كذلك تلك التلمحيات العاطفية التي كان يكنها سام رفيق فرودو لماري الفتاة الهوبيبتة الجميلة, وهو ما يرسخ لدى متلقي فيلم “الهوبيت” هذا الشعور بأجواء الحكي الطفولي الذي لا يتورط دوما في الحكي عن العواطف والغرائز والجسد رغم رومنتيكية الخط الدرامي لأورن واراجون وعمقه الفلسفي الذي يناقش فكرة الحب والخلود والتضحية(حين ضحت ارون بخلودها كجنية واختارت ان تعيش كفانية في مقابل أن تتزوج اراجون الأنسان الفاني)
كذلك يحتوي”رحلة غير متوقعة”على عدة اغنيات اقرب للاهازيج الخفيفة سواء تلك التي يؤديها الأقزام في البداية عندما يجتمعون في بيت بيلبو لاقناعه بمرافقتهم, او تلك التي ينشدها ملك الغيلان احتفالا بالقبض عليهم لتسليمهم إلى احد زعماء الاورك الذي يطالب برأس ولي عهد مملكة الاقزام اثيرون, وتختلف تلك الأهازيج عن الأغنيات التراجيدية والشعرية التي ضمتها اجزاء سلسلة الخاتم مثل اغنية غولوم”كانت هناك حياة” في نهاية الجزء الثاني البرجين وأغنية”لتكن المشيئة” التي غنتها المطربة إنيا في الجزء الاول أو مرثية بيبن للأمير فارمير التي غناها حين أمره والده القائم على عرش غوندور استعادة الحصن الذي استولى عليه الأورك في معركة خاسرة.

الرحلة وغواية الواقع
أن الفانتازي قد ولد من التقاطع بين الفرد والعالم، ومن الصلة بين العمل والقارئ ضمن علاقة تماهٍ، وبُعْد يبحث هذا الأخير فيه عن القشعريرة كما البطل.
روجي كايوا- في قلب الفانتازي

 تنبع قوة سلسلة الأفلام المأخوذة عن أعمال تولكن انها تمتاز بأن بنائها يندمج بشكل كامل مع رسالتها او قصدها الفني, ولا نقصد بالرسالة هنا المفهوم التقليدي المباشر, ولكن ما عناه نجيب محفوظ من أن: الرسالة هي جزء من القيمة الفنية ففي الفن المعنى والتعبير عنه لا ينفصلان عن بعضهما البعض لان الشكل والمضمون لا ينفصلان فالشكل يؤثر في المضمون والمضمون يحدد الشكل.
أو على حد تعبير سمير فريد : البناء الدرامي الصحيح هو الذي يتلاءم مع مضمون الفيلم ولكن البناء الدرمي الجيد هو الذي يصبح المضمون ذاته بكل مشهد فيه وكل لقطة وكل جملة حوار.
ففي نهاية الفيلم لا يوجد ثمة رسالة واضحة يقدمها العمل ولكن الرحلة نفسها-الرحلة الغير متوقعة- تصبح هي في حد ذاتها المضمون, ففكرة أن الملاحم الكبرى يمكن ان تنهض على أكتاف اشخاص صغار في الحجم أو القوة هي احد مضامين الفيلم والتي تتبلور عبر الرحلة ومعطاياتها الفانتازية وأفكار مثل الشجاعة في مقابل الجبن, وإنكار الذات في مقابل الانانية, أو الكل في واحد والواحد في الكل, كلها تصبح جزء من البناء طالما نتتبعها داخل تصاعد الصراع ومفاجآت الرحلة.

فبيلبو يظل مصدر نفور بالنسبة للامير القزم ثورين اوكنشيلد وعبئا لا يحتمل, حتى يتدخل بيلبو في ذروة صراع الامير مع الاورك المتوحش ويدافع عنه رغم يقينه انه ميت لا محالة, وكذلك بقاء بيلبو في صحبة الرفقة- التي تحاول التماهي الوجداني مع روح رفقة الخاتم الشهيرة- رغم وجود اكثر من فرصة للتراجع,  وهو جزء من شجاعته وانكاره لذاته في مقابل تحقيق هدف المجموعة أو كما يقول لهم : لقد قررت مساعدتكم عندما ابتعدت عن موطني لانكم تريدون العودة إلى موطنكم ولقد ادركت معنى الابتعاد عن الوطن عندما أتيت معكم.
ولعل الادب الفانتازي وبالتالي السينما الفانتازية التي تستوحيه يعتبر أحد العناصر التي تجعلنا نطبق مبدأ البناء الدرامي الجيد الذي اسلفناه على لسان الناقد سمير فريد على فيلم “الهوبيت” خاصة ان فرويد يعرف هذا الأدب بقوله: انه أدب حميمي على السطح لكنه مقلق لأنه يحمل رؤية مغايرة للأشياء, وإذا اضفنا إلى هذا قول تودوروف بأنه” أدب يطرح لنا التردد الذي يشعر به كائن لا يعرف إلا القوانين الطبيعية، في مواجهة حدث يبدو خارقا للطبيعة” فندرك أن الكائن هنا هو بيلبو باغنز أما الحدث الخارق فهو تلك الرحلة الغير متوقعة أما التردد/الهدف الدرامي فهو الرحلة نفسها بكل تفاصيلها وحكمتها وخبراتها والتي تبلور لنا قوة هذا التجربة السينمائية والتي استوعبت قواعد اللعبة الفانتازية ولم تحاول اكسابها أي معان مباشرة أو رسائل خطابية او مغزى قصدي.
ولكن رغم أن تودوروف يكمل تعريفه للادب الفانتازي بقوله(أنه يمكن للقارئ-ونضيف عليه المتلقي بحكم سينمائية التجربة- أن يتوحّد بها- ويقصد حالة التردد لدى بطل القصة الفانتازية- فإن على القارئ أيضا أن يرفض كل تأويل ترميزي أو شاعري)
إلا اننا نجد ان فكرة الرؤية المغايرة للأشياء التي طرحها فرويد تبدو اقرب لفكرة البناء الدرامي الذي يحوي المضمون في ذاته.
ألم نشعر أن تولكن ومن بعده بيتر جاكسون قد أشارا إلى فكرة الحرب العالمية والديكتاتورية القائمة على التفوق العرقي والأبادة الجماعية من خلال شخصيات سارون سيد الختام وجنس الأورك والخاتم الواحد الذي يحكم الكل! إلم تكن تلك آفة عصر تولكن التي ادت إلى الحرب العالمية الثانية واستمرت حتى الأن في أشكال واحداث مختلفة شهدها العالم طوال النصف قرن ويزيد!
 ألم يكن هتلر يبنى مصانع الأسلحة في الجبال نتيجة شروط معاهدة فرساي بعد هزيمة المانيا في الحرب العالمية الأولى تماما كما كان يفعل الساحر الأبيض سارومان في مملكة ايزنغارد, ويخرج جنس الأوركاي المشوهة كي يصبح مقاتلين لا يشق لهم غبار من قاع الجبل فيجتاحوا الأرض الوسطى رمز العالم قادمين من الشرق- حيث كانت ألمانيا تقع بالنسبة لأوربا-, إلا نلمح ذلك التحالف بين ألمانيا وإيطاليا لأجتياح اوروبا كما تحالف موردور وايزنغارد للحرب على الأرض الوسطى.
ألا يبدو محاولة الأقزام في فيلم “الهوبيت” استعادة مملكتهم” ايربور” من التنين الذي احتلها ونهب ثروتها الذهبية اشبه بمحاولة اصحاب وطن محتل في العالم العودة إليه لتحريره مثل الفلسطينيين أو كل من وقعوا تحت سيطرة قوى ديكتاتورية قمعية غاشمة تطرد اصحاب الحق في مقابل السيطرة والحكم والثورات مثل الانظمة الشمولية.
في تلقينا إذن لفيلم هوبيت يمكن أن ننحاز لرأي لوي فاكس الذي يقول(على الفانتازي، كي يفرض نفسه، ليس فقط أن يقتحم بغتةً الواقعي، بل يجب على الواقعي أيضا أن يمد له يديه، ويرضى بإغوائه)
ومن هنا يمكن ان نجزم بأن اقتباس الرواية بشكلها السينمائي مع الحفاظ على روحها الفانتازية-وغوايتها الواقعية- على حد سواء منحت مضمونها بعد تاريخي أيضا حيث بدت وكأنها تتحدث عن وقائع وتفاصيل تاريخية لم تكن قد حدثت وقت كتابتها ولكنها ميزة الادب الشامل والسينما ذات النظرة الحقيقة والروح الحية.


إعلان