إعادة إحياء “لورنس العرب” (1)

بعد خمسين عاما على ظهوره

أمير العمري
خمسون عاما مرت على ظهور الفيلم الملحمي الكبير “لورنس العرب” Lawrence of Arabia للمخرج البريطاني الراحل ديفيد لين، هذا الفيلم الذي يعتبره الكثير من النقاد وخبراء السينما في العالم، أفضل الأفلام التي حصلت على جائزة الأوسكار لأحسن فيلم، منذ ظهور تلك الجوائز عام 1927 وحتى يومنا هذا.
بمناسبة مرور نصف قرن على ظهوره عرضت نسخة جديدة (كاملة مستعادة) من الفيلم في شهر نوفمبر- تشرين الثاني 2012 بعد جهود متوالية لاستعادة النسخة القديمة وإعادتها إلى بهائها الزائل، رونقها القديم.
أنتج فيلم “لورنس العرب” عام 1962، ورشح بعد ذلك لعشر من جوائز الأوسكار، فاز بسبع منها هي أحسن فيلم وأحسن إخراج وأحسن موسيقى وأحسن تصوير وأحسن مونتاج وأحسن ديكور وأحسن صوت. 
استغرق تصوير الفيلم 280 يوما، وصور في المواقع الطبيعية في إسبانيا والمغرب والأردن، وتكلف إنتاجه 12 مليون دولار، وهو رقم كبير بمقاييس تلك الفترة. 

وقد عرض الفيلم أولا في العاشر من ديسمبر- كانون الأول 1962 في لندن، في نسخة من مقاس 70مم، وفي السادس عشر من الشهر نفسه، أي بعد ستة أيام فقط، بدأت عروضه في الولايات المتحدة. إلا أن النسخة الكاملة من الفيلم التي كانت تقع في 222 دقيقة، شهدت الكثير من الحذف والاختصار وتعرضت على المدى الطويل للتلف، بل وكادت النسخة السلبية الأصلية من الفيلم,من النيجاتيف، أن تتآكل وتتلاشى بعد أن فقدت الكثير من ألوانها الأصلية، واختفت أجزاء كثيرة من شريط الصوت. 
قبل مرور شهر واحد على بدء عرض الفيلم عروضا عامة، أي في 
يناير – كانون الثاني 1963 استبعد صناع الفيلم منه عشرين دقيقة لأسباب مختلفة، منها الضغوط الرقابية التي كشف عنها الستار فيما بعد، في أواخر الثمانينيات، والتي تعرض لها سام شبيجل، منتج الفيلم، لكي يستبعد منه كل ما يشير إلى التواطؤ بين بريطانيا وفرنسا أي الإشارة إلى  الاتفاقية التي وقعت بين الدولتين عام 1916 أي قبل نهاية الحرب العالمية الأولى، والتي عرفت بـ”اتفاقية سايكس- بيكو”، وبموجبها اتفقت الدولتان الاستعماريتان على تقسيم مناطق النفوذ فيما بينهما في الشرق الأوسط ، على الرغم من الوعود البريطانية للشريف حسين، شريف مكة، بضمان الاستقلال عن الدولة العثمانية مقابل أن يساعد العرب بريطانيا في الحرب ضد تركيا. وهذا الموضوع تحديدا يمثل إحدى الركائز الدرامية المهمة في فيلم “لورنس العرب” كما سنرى. وكان الهدف من الحذف عدم إثارة غضب الدول العربية الحليفة لبريطانيا في ذلك الوقت. وكانت بعض مقاطع الحوار في الفيلم هي المشكلة الأساسية التي أدت إلى استبعاد بعض اللقطات.
وقد طلبت الرقابة البريطانية أيضا استبعاد لقطات من المشهد الأول في الفيلم وهو مشهد مصرع لورنس في حادث سقوط دراجته النارية، مثل اللقطة القريبة لنظارته معلقة بين أفرع شجرة بعد سقوط الدراجة في منعطف، ولقطة الدراجة النارية وهي تطير وتصطدم بالأرض، فقد وجد أن تركيب المشهد يسبب الصدمة للمتفرجين!
وفي أواخر السبعينيات طلب منتج الفيلم سام شبيجل من مخرجه ديفيد لين حذف 15 دقيقة أخرى لخفض زمن عرض الفيلم حتى يصبح 187 دقيقة من أجل بيعه إلى محطات التليفزيون. وقد وافق لين لكنه اشترك على شبيجل عدم عرض النسخة الجديدة المختصرة في دور العرض السينمائي، لكن شبيجل لم يحترم هذا الشرط، وأصبحت النسخة المتداولة في دور السينما هي نفسها النسخة التي تقع في 187 دقيقة من أجل ضمان عددا أكبر من العروض اليومية.
ومع مرور الوقت اندثرت كل النسخ الموجبة (التي كانت تعرض حول العالم) أي النسخ الطويلة الأصلية (222 دقيقة) وحلت محلها النسخة المختصرة (187 دقيقة). ولم يكن لدى شركة كولومبيا الأمريكية التي تملك حقوق توزيع  للفيلم،  نسخة موجبة محتفظة بالزمن الأصلي، ولا سجلا تفصيليا يوضح بدقة، تتابع المشاهد في النسخة الأصلية. 

ويجب أن نوضح أن النسخة السلبية هي أصل الفيلم السينمائي، ومنها تصنع النسخ الموجبة (أو الإيجابية) التي تعرض في دور السينما، وتظل النسخة السلبية محفوظة، ويجب أن يكون مكان الحفظ صالحا حتى لا تتحلل مادة “السيلولويد” التي يصنع منها الشريط السينمائي. والنسخة السلبية تتكون في الحقيقة من شريطين: واحد للصورة والآخر للصوت، وعند استنساخ نسخ موجبة للعرض، يتم مزج الإثنتين معا في معامل الطبع والمكساج أي مزج الصوت مع الصورة.
في ديسمبر- كانون الأول 1987 قام الباحث السينمائي وخبير الأرشيف البريطاني روبرت هاريس، الذي كان قد اشترك في إنقاذ واستعادة فيلم “نابليون” الشهير الصامت للمخرج الفرنسي أبيل جانس (من عام 1926 ويقع في نحو أربع ساعات)، بزيارة إلى شركة كولومبيا وعرض على المسؤولين فيها  ترميم وإستعادة النسخة الكاملة الـ70مم من فيلم “لورنس العرب”. وقد حذره المسؤولون من صعوبة المهمة بل واستحالتها تقريبا، إلا أنه قبل التحدي وشرع في العمل. 
استعان هاريث بفريق من الخبراء والمتخصصين من هوليوود مثل جيم باينتين الذي رافقه في استعادة فيلم “نابليون”، وخبير الصوت ريتشارد أندرسون، وخبير إعادة تسجيل ومزج الصوت جريج لاندكر، كما استفاد من خبرة اثنين من خبراء مونتاج الحوار، وعدد كبير من الخبراء في معامل الألوان في شركة مترو، والمونتيرة الأمريكية آن كوتس، وقبل هؤلاء جميعا مخرج الفيلم ديفيد لين. 
وكان يتعين على هؤلاء جميعا، إجراء العديد من الأبحاث الصعبة المعقدة التي تشمل تعقب أي مادة من المواد الباقية من الفيلم الأصلي على مستوى العالم، وفحص ما يوازي أربعة أطنان من المواد المصورة والصوتية، قبل أن تبدأ عملية إعاد بناء الفيلم. 
 


إعلان