فيلم “طابور”: متعة العين والعقل والنقد

أحمد بوغابة / المغرب

يُدخلنا فيلم “طابور”(1) للمخرج الإيراني “وحيد وكيلي فير” في عالم سينما المؤلف من بابها الواسع وبوضوح الرؤية، فهو ينتمي إلى هذا الصنف الفني بامتياز بفضل لُغته السينمائية واختياراته الإبداعية في معالجة السرد السينمائي بأسلوب غير تقليدي يذكرنا بالسينما التعبيرية الألمانية والسوفياتية – سابقا – في العشرينيات من القرن الماضي اعتمادا على التشكيل البصري أولا بتوظيف الإضاءة في علاقتها بهندسة الديكور كخلفية للحكي. واشتغاله بالموازاة للصورة على الشريط الصوتي بذكاء المبدع المتميز. وهذا التحديد ضروري لكون لا يقوم بتكرار بعضهما أو الاستغراق في شرحهما أو تغليب كفة الصورة على الصوت أو العكس، ولا حتى البحث عن التكامل أو التوافق بينهما. فلكل منهما مكانته المستقلة في دورهما الفني، يسيران متوازيان، وقد يتداخلان أحيانا بدون اندماج في ما بينهما، أو يتقاطعان للحظات سريعة جدا. هذه اللعبة السينمائية في سينما المؤلف بين الصورة والصوت من مميزات المخرج الفرنسي/السويسري جان لوك غودار كرائدها التي شاهدنها في جل أفلامه، (وكان المخرج المغربي مصطفى الدرقاوي هو أيضا من مريدها وكذا التونسي ناصر لخمير والمصري خيري بشارة…).
ولم يعتمد المخرج الإيراني “وحيد وكيلي فير” على دغدغة عواطف المُشاهد كما هي في كثير من الأفلام الإيرانية بقدر ما كان يناقش عقل المشاهد بالتفاعل معه من خلال الصًّوَر والأصوات، وقد يكون الصمت في ذاته صوتا دراماتيكيا في فيلم “طابور”. ولِكَون سينما المؤلف تعتمد أولا وقبل كل شيء على الصورة فقد أعطاها فسحة التعبير الكلي كما هو معروف فيها من خلال عناصر الإضاءة ثم المونتاج الذي هو كنه السينما المؤلف. وسنفهم خلال مشاهدتنا للفيلم سبب اختيارات المخرج الفنية هاته إذا وضعنا الفيلم في سياق الإنتاج الإيراني والحراك الفكري والسياسي الذي يعيش فيه البلد حاليا من جهة وبعلاقته بالعالم.

الكتابة بالكاميرا والضوء و….

المخرج وحيد وكيلي

يستهل الفيلم بمشهد لغرفة مُغَلَّفَة بالكامل بورق الألمنيوم وذات محتويات بسيطة والضرورية منها فقط ولا أثر فيها للنوافذ أو باب (إنتبهوا جيدا لهذا المشهد المجازي الذي افتتح به فيلمه). ويوجد بهذه الغرفة/المغلقة رجلا مسنا يجلس على سرير تظهر عليه ملامح التعب والتردد واليأس فيعتقده المشاهد كأنه في سجن ما أو غرفة طبية للأمراض العقلية داخل تلك البويضة الفضية. دام المشهد دقائق معدودة إلا أنه بدى طويلا (عند العامة) خاصة وأن الشريط الصوتي كان صامتا بدوره فيوحي المشهد بالفراغ الكامل داخليا وخارجيا (إحالة أخرى ذكية للمخرج). لا يوجد بالمشهد/الغرفة ما يوحي بالحياة إطلاقا حيث الأشياء البسيطة الموجودة به مرتبة بعناية فائقة وكأنها لا تُستعمل ونظافة منقطعة النظر. قد يتبادر إلى الذهن أن المخرج تعمد في عدم تحريك شخصيته حتى نتمعن جيدا  فيه وفي غرفته لنتساءل عما يخفيه. وأفلام كثيرة جدا شاهدنها من قبل يكون التغيير يأتي من خارج الصورة hors champ ليدخل إلى le champ حتى يخلخله ويغيره حسب متطلب السيناريو إلا إن المخرج دفع بشخصيته لتقوم بلباس نفسها بِوَاقٍ من الألمنيوم على جسده/جلده مباشرة قبل الثياب العادية فيزيد للمشهد غموضا وتساؤلات دون أن نحصل على جواب في حينه. وتعمد المخرج أيضا ان يتم المشهد بكامل تفاصيله حيث تابعنا عملية ارتداء الملابس كلها ولم يختزل مشهد اللباس بتاتا ليضرب بعرض الحائط أحد أبجديات السينما السائدة على أنها فن الاختزال. هذا التعمد والإلحاح من المخرج على الإطالة (وليس التمطيط) هو جزء من التشويق السينمائي الذي سيمارسه علينا كمشاهدين طيلة مدة الفيلم (ساعة و22 دقيقة). وبذلك أعلن عن إيقاع الفيلم منذ الوهلة الأولى فإما أن تصمد إلى نهايته أو تغادره حالا حسب قدرتك على القراءة السينمائية. قد يرى المشاهد المتعود على أفلام الحركة والإيقاع السريع والاختزال السينمائي أن المشهد الأول في فيلم “طابور” (تابور) طويل أو به تمطيط أو قد يذهب بعض محدودي المعارف السينمائية بوجود خلل في السيناريو هكذا بشكل اعتباطي عوض فهم موقف المخرج والتفاعل مع وجهة نظره كما يعرضها علينا وليس كما يريدها هؤلاء. وقد يعتقد المُشاهد بأنه لا يقع شيئا بتاتا في المشهد الأول إلا أنه في الحقيقة مشحونا بدلالة الانتظار والفراغ والتردد والمساءلة في فضاء مُضاء بإضاءة شاملة، ولو بزُجاجة واحدة، ينعكس فيها الضوء بشدة على الألمنيوم فيزيده براقا… لكنه اصطناعيا أو لنقل مُزيفا وليس حقيقيا.
سينتهي هذا المشهد الافتتاحي بانتهاء شخصيته من اللباس وحمل كيسا ومحفظة التي لا نعلم ما تحتويه حينها. نكتشف بوجود باب لهذا الفضاء الغريب. يخرج منه ونحن نشاهده من الداخل حيث ما زلنا ننتظر هناك ولا ندي ماذا يوجد خارجها ليسدل السواد على الشاشة (ولا أقول الظلام لأن الظلام سنشاهده  في ما بعد طيلة مدة الفيلم) نقرأ حينها عنوان الفيلم وإسم المخرج. جنيرك مُقتضب جدا عكس المشهد الذي سبقه وبالتالي فهو وضعنا أمام “حالة” إنسان كتوطئة التي سيُعَرِّفُنا عليها بعد إخراجه من الغرفة . نتأكد في الجنريك ما قلناه في البداية على أننا أمام فيلم المؤلف بحيث مخرجه هو كاتب السيناريو والمنتج أيضا. وعليه، فهو يُوَّقِّعُ فيلمه بمسؤولية مطلقة. والاقتضاب في السيناريو من علامات تلك السينما.
بعد الجنيريك الأول القصير، الذي كان عبارة عن ومضة سوداء سريعة تلى المشهد الأول السالف الذكر، سنلتقي مباشرة في فضاء مفتوح لمدينة لم تظهر لنا ملامحها ولم يحددها المخرج ليتركنا من جديد في المجرد إلا في لقطة واحدة حيث نرى على حافة أحد الجسور كتابة بالفارسية، فنعلم بأننا في إيران. فقد خرجت الشخصية من غرفة مضيئة اصطناعيا كلها إلى فضاء الليل حيث تتوزع الإنارة العمومية هنا وهناك. ظلام وإنارة. مدينة فارغة، لا حياة فيها كأنها مدينة الأشباح. نجول بها رفقة الكاميرا لأننا لم نعرف بعد هل من يسير فيها هو “بطلنا”؟، ويدخلنا أحيانا تحت الأنفاق أو فوق الجسور. وهذه الجولة تُعَرِّفُنا أيضا على أسلوب الكتابة والإخراج عند هذا المخرج حيث اشتغل كثيرا على الإضاءة بل في الواقع اعتمد عليها كأساس مركزي في تشكيل السرد السينمائي الدرامي، وشكلت شخصية من شخصيات الفيلم لصيقة ب”بطلنا” (الممثل الرئيسي في الفيلم).كما لا يمكننا أيضا إغفال الدور الذي لعبه الديكور كشخصية أخرى داعمة للدراما، وكان قد بدأ دراماتوجية الديكور بالسينوغرافية التي بنى بها الغرفة التي تحدثنا عنها في بدء النص. الفيلم في حد ذاته بناء هندسي يستعير كثيرا من هذا العلم الجمالي.
سنكتشف “بطلنا” بأنه هو الذي يتحرك بالمدينة ليلا فوق دراجة نارية من نوع قديم حين توقف بأحد الأنفاق لمساعدة أصحاب سيارة مُعطَّبة. كما سنكتشف عمله الذي يرتبط هو أيضا بالليل. ولا تأتي هذه الاكتشافات دفعة واحدة وإنما مع تقدم زمن الفيلم وتعمقه في فضاءات المدينة. وزمن الفيلم الافتراضي هو ليلة واحدة. لكن، يبدو أنها نفسها في الليالي السابقة، تتكرر في اغلبها حسب العلاقات التي تجمعه بالناس الذين يلتقي بهم حيث يستجيبون له بحكم درايتهم بوجوده وعلمهم بمقدمه دون حوار بينهم وكأنه عمل/لقاء عادي.

ممنوع من الكلام والموسيقى والشمس و…

وبما أن المخرج جعل من الصورة هي لغته الأصلية فقد استغنى عن الحوار بشكل مطلق، لا وجود للحوار في الفيلم. شخصيات لا تتكلم مع بعضها. لا تتواصل بالكلام المباشر. فيلم بدون حوار، فالحوار في هذا الفيلم يتم مع المشاهد وليس غيره عبر الصورة ومكوناتها بينما الشريط الصوتي ومؤثراته تُرِكَ للأصوات العادية للآلات (الدراجة النارية، السيارات ومنبهاتها، المصعد،القطار، أدوات العمل، آلة سكانير، اللعبة الافتراضية…) وأيضا خطوات الأرجل، التنفس، دقات القلب… إن المقاطع الثلاث الوحيدة التي نسمع فيها للكلام هو خارج إطار الصورة ب “voix-off” بالتأكيد على أهمية (hors champ) في البناء الذي اعتمده المخرج في فيلمه “طابور” بأن ما يجري أحيانا خارج المرئي يأخذ صبغة أهم في العلاقات البشرية. أو أن مصير الرجل يتم من خارج إرادته وبدون رغبته إلى آخره من العلامات التي سنكتشفها مع تصاعد وتيرة الفيلم وأحداثه. الكلام/الحوار القليل جدا وجدا في هذا الفيلم هو في صيغة حوار يتم على الهامش (الغير المرئي) وعلى مَشَاِهد استثنائية في مكوناتها الفيلمية. وبالتالي فهو ليس حوارا تقليديا نرى فيه المتكلم أو نعرف صاحبه ولو كان خارج الإطار. والمقطع الأول من هذا “الحوار” (تجاوزا) الذي سيأتي في الدقيقة 32 من زمن الفيلم سيُعرِّفُنا أكثر على “الشخصية” ويُقربنا إليها وإلى جسدها وحميميتها لنفهم بعد ذلك جيدا نهاية الفيلم أيضا.
في الوقت الذي يضع الممرض/ الطبيب قطعة من شريحة لحم على المقلاة ويتركها أمامنا تُطبخ ونحن المُشاهدون نتابع تغيير لونها وحجمها وتبدأ تجف من مائها وتتسرب منها ومن المقلاة بخارا لتشكيل لوحة حية تجمع بين ثناياها الأحمر والأسود والبخار بخطوط بيضاء استغرقت مدة طويلة في العرف السينمائي التقليدي المحافظ (2) بينما هي مُتَعِّمَدة من لَدُنِ المخرج ومتناسقة مع خَطِّهِ السينمائي كما أسلفنا أعلاه ومنذ انطلاق أول لقطة في أول ثانية من الفيلم. فبموازاة هذا المشهد المرئي الذي يمر أمام أعيننا (عند 32 دقيقة من زمن الفيلم) نسمع كلاما يختلط فيه الحوار مع مناجاة الذات و لا ندري مَنْ يُكلِّمُ مَنْ؟ فهو بتقنية voix-off (خارج الإطار). فقد تركنا المخرج في حيرة من نفسنا بحيث يمكننا أن نعتقد بأن “الشخصية” نفسها هي التي تتحدث مع تلك الشريحة من اللحم وتحاورها وتشهد مصيرها (جسمها) مُجسدا فيها، بأنها ستتعرض لنفس الشيء، أم أن قطعة من اللحم هي التي تحاور الشخصية؟. أو قد يكون الممرض/الطبيب هو الذي يشرح له تحليلا لمرضه. نسمع، إذن، كلاما أو توجيهات أو حتى تهديدات من خارج الصورة، هناك من يفكر له ولحسابه ولا يحق له التعليق. كلام غير عاد في  سياق الفيلم. ويتضمن الكلام  ما يلي:
– حاولت إخبارك عن حالتك
– لا أعلم كيف أُقنعك؟
– يمكن أن تكون درجة حرارة دمك في ارتفاع مستمر
– للأسف فدَمُّكَ، هذه المرة، يشبه لتلك الشريحة من اللحم
– ربما ستُحِسُّ بالاشتعال من الداخل
– لم يعد هذا الثوب يقيك ضد الميكروب
– سيبدأ جلدك في الاحتراق إذا استمرت على هذا الحال
– ماذا قررت؟
– هل تبقى أم تذهب؟
– آمل أن تدرك حالتك

بعد اكتمال طهي الشريحة وانتهاء الكلام سيظهر لنا وجه “البطل” في لقطة كبيرة شاردة تنظر في اتجاه الشريحة ودمعة تسقط من عينه في صمت مطلق. فهذا المشهد الذي دار فيه الكلام/الحوار السابق الذكر هو مفتاح الفيلم لفهم تلك الشخصية ومعاناتها ومأساتها وسبب انعزالها … وأيضا فهم نهاية الفيلم.      
وبنفس البُعْد الفني يلغي المخرج من فيلمه الموسيقى التصويرية ليزيد من وحدة وانعزال “شخصيته” الرئيسية بتركها في الفراغ الكلي ولا تجد ما تؤثث به وحدتها في تلك الليالي ولا في “مسكنها”. كانت الموسيقى مقتضبة في مشهدين منفصلين على شكل “رنين” مُمِلٍ، مجرد نوطة واحدة روتينية تتخلل الشخصية حين تسرح بذهنها. أما المشهد الوحيد الذي يتضمن موسيقى مُركبة ومضبوطة وكان لها الحضور المادي الملموس ضمن مكونات الفيلم فقد كان ذلك بعد أن استمع إلى نبض الصراصير في الحائط وهو من أقوى المشاهد في الفيلم بالاشتغال على الصورة والصوت في علاقة جدلية بينهما، علاقة جمالية وذهنية، الكتابة بالضوء على مساحة مُظلمة مكتفيا في ذلك على توظيفه للقنديل أوالسيجارة. استقبل رجل شخصيتنا بالقنديل أمام منزل كبير فأدخله إليها بعد أن تأكد من هويته ليدله على المكان الذي ينبغي الاشتغال فيه. يبدأ بالإنصات على حائط غرفة بفضل آلة جس النبض التي يستعملها الأطباء (Stéthoscope) وكأنه يتجسس عن ما وراءه ليحيلنا إلى أن للحيطان آذان خاصة وأنه بمجرد ما بدأ يحفره انطلقت الموسيقى ليحمل القنديل بحثا عن مصدرها، موسيقى فارسية تقليدية ملأت الفضاء المرئي ثم تتوقف عندما يبدأ برش مختلف الأمكنة للمنزل بالمبيد للحشرات وكأنه يقتلها – أي الموسيقى – مع تغيير في تشكيلة الديكور بفضل تحرك إنارة القنديل فتظهر لنا محتويات المنزل الذي يدل على أنه تقليدي وتاريخي وهو يطرد منه أشباح لعينة قد تكون تلك الموسيقى الممنوعة وحتى الكتب التي قد تكون تلك “الصراصير” قد تسللت إليها لتأخذ الصراصير” بُعدا مجازيا هنا. وهذا المشهد هو الوحيد الذي تم فيه توظيف الموسيقى حقا ليكون للمشهد دلالة حول التجسس والمنع باعتبارها – أي الموسيقى – تعيش في السرية. وهي موسيقية غير تصويرية بما هو مُتعارف عليه في اللغة السينمائية وإنما استحضارها لتلعب دورا في تسلسل أحداث الفيلم. وتدفع بالدراما إلى التطور ليفهم المُشاهد خلفيات الفيلم. وربط بحثه على الصراصير بالإنصات عليهم عبر الجدران مع سماع الموسيقى يحيلنا المشهد إلى أفلام إيرانية سابقة التي تطرقت للمجموعات الغنائية والموسيقية المُسماة كظاهرة “تحت الأرض” (Underground).
وهذا العالم التحتي سيعيشه “بطلنا” من خلال اللعبة الافتراضية التي هي فترة استراحته وتسليته حيث ستستغرق 10 دقائق من الفيلم. لعبة لم تخرجه من عالمه السفلي لأنه دخل بها هي أيضا إلى الدهاليز والأنفاق كأنفاق المناجم التي تم استغلالها بشكل مُفرط وإلى حد استنفاذها لتنتقم الكرة الأرضية التي هي هنا في اللعبة الافتراضية كرة حديدية كبيرة التي انفجرت من عمق المنجم. لا يخرج إذن من عوالمه سواء في الواقع أو في الافتراض فهو حبيس لها لحد مرضي. وهذه الأنفاق (الواقعية والافتراضية في اللعبة) فهو كان عاملا منجميا في ما مضى قبل أن يمارس عملا جديدا بإغلاق المنجم. توظيف ذكي لتقنية “فلاش باك” في حياة “الرجل” من خلال لعبة عوض ان يقوم بذلك بالحكي المباشر أو المُفصل.     
عرَّفَنَا المخرج بوظيفة “شخصيته الرئيسية” قديما وحديثا بعد أن أخرجها من الغرفة على أنها تشتغل في الليل فقط لإبادة الحشرات وربما الحيوانات الفطرية كالفئران من خلال جولاته في أقبية كثيرة. وهذا التقابل بين عالم غرفته الصغيرة المغلقة والمضيئة وبين الأقبية الطويلة المغلقة والمظلمة مع غياب النهار وضوئه يغلقنا المخرج بدورنا في مساحة المُشاهَدة ولكن ليس في القراءة لفيلمه الغني.

“الخروج للنهار” (3) … والمواجهة و…

وجد الرجل كثير من العثرات في طريقه بدءا بالسيارة المٌعطلة في النفق ثم المصعد الذي تعطل بدوره عن الصعود به ليخرج منه بصعوبة يليه الأزمة القلبية التي تعرض لها مرافقه في العمارة وكذا إنارة دراجته النارية التي تعطلت هي أيضا والتي نجح المخرج في توظيفها فنيا على وجه بطله باللعب بها بين الضوء والظلام، بين الخير والشر، حيث وجود هذه الثنائيات والمقابلات بين “البطل” ومحيطه وكأنه في حوار ضمني معها.
نعود بعد ساعة و15 دقيقة من زمن الفيلم إلى الغرفة من جديد (قد تكون الليلة كلها في الزمن الافتراضي) حيث يظهر وجه البطل في لقطة كبيرة يدخن وهو مُتعب وشارد ليحس بعد ذلك بدماء ينزف من إحدى أذنيه ليقوم إلى الحمام لتنظيفها فتبدأ ملامح مكان إقامته تتحدد شيئا فشيئا. خاصة حين يخرج منها في مطلع الفجر لنعاين وجود مسكنه الذي يتشكل من شبه كوخ عشوائي على هامش المدينة رغم أنه يقطن في الأعلى على هضبة يطل عليها. ولا تبدو لنا ملامح المدينة ساطعة بل يغطيها نوع من ضباب غير طبيعي قد يكون التلوث. والشكل الذي تم تصويرها به كأنها مدينة الأشباح مازالت نائمة.
يخرج “بطلنا” هذه المرة من غرفته في مطلع النهار، مع الأشعة الأولى للشمس، وعاري الجسد، ليتمدد على فراش الخشب مطلا على مشارف المدينة ومتوجها بوجهه نحونا في الشاشة بينما ظهره للمدينة غير عابئ بها وبما سيحصل له بعد قراره هذا بعرض جسمه لأشعة الشمس ومواجهته للنهار. هو الذي كان رجل الليل كالوطواط. خرج إلى واضحة النهار لمواجهة مصيره. فمِن الأفضل له أن يموت تحت الشمس ما دام مصيره معروفا مسبقا ومحكوما عليه عوض أن يبقى سجين تلك الغرفة (الكوخ) التي كانت بمثابة نعش دائم له وهو على شبه الحياة. كان ذلك المشهد هو ختام الفيلم الذي تركنا أمامه المخرج لدقائق (قد تبدو طويلة أيضا للبعض) حتى نتمعن جيدا في مصير ذلك الرجل ونكون نحن شاهدون/كمشاهدين على موته، على هامش المجتمع، بسيادة الصمت أيضا في الشريط الصوتي تأكيدا على عزلته.

وعند ظهور السواد من جديد وفوقه مكتوب الجنيريك الأخير للفيلم قد لا يعني نهايته بل ربما فرصة للمشاهد الذكي بإمكانية إعادة طرح الأسئلة من زاوية مختلفة كاستمرارية في مناقشته خاصة المسكوت عنه في الفيلم والغائب فيه ومنه خارج الإطار le hors champ الذي كان الفيلم/المخرج يدفعنا باستمرار للتفكير فيه. فطيلة الفيلم لم نشاهد المرأة ولا الأطفال حيث تم تغييبهم نهائيا. تم إقصاؤهم من الصورة ومن الصوت. فهم لا يحق لهم الوجود بالليل، إنه ليس زمنهم. وهذا الإبعاد/الإقصاء/الغياب/الإنكار ليس رمزيا فقط في إطار الاشتغال على المجاز في الفيلم بقدر ما يحمل دلالة اجتماعية وسياسية في المجتمع الإيراني الذكوري بامتياز. وكل الرجال هم متقدمون في السن ماعدا في النفق، في بداية الفيلم، ظهر بعض الشباب يدفع السيارة المُعطلة لتغيب هذه الفئة أيضا من الشاشة. وإذا كان الفيلم يعتمد على شخصية واحدة مركزية المتمثلة في “الرجل” فإن كل “الشخصيات” التي ظهرت معه أو إلتقى بها في طريقه ليست ثانوية أو عابرة بقدر ما كانت كل واحدة تجرنا في صيرورة الأحداث وبالتالي في السيناريو نحو فهم محتواه بدخولها إليه والخروج منه مُساهِمَة في ما جرى ويجري أمامنا والإطلاع على الهوامش القائمة التي تظهر بالليل كالصراصير (نموذج القزم وهوايته الغريبة على سبيل الذكر).    
إن فيلم “طابور” ليس فيلما سلسا لاستهلاك الوقت وتزجيته وإنما دعوة للتفكير من خلال السينما في موضوع في غاية الأهمية. وفي ذات الوقت كيف مَوْقَعَ المخرج بلده (إيران) في الخريطة الحالية. إنه فيلم ضد القمع والرقابة والتحكم في مصير الناس وتهميشهم وإقصائهم. إنه صرخة صامتة تقرر مصيرها.
        
هوامش:

• (1) “تابور” بالأصل الفارسي بينما الأتراك حرفوا حرف التاء بالطاء التي استعارها العرب بعد ذلك لكن تعني نفس الشيء لنفس المعنى. كُتب العنوان في الجنريك الأصلي للفيلم بالفارسية ب”التاء” إلا أننا في العربية ملزمون ب”الطاء” للفهم
• (2) نعم حتى في السينما يوجد المحافظون الذين لا يقبلون بتغيير النمطية في الكتابة السينمائية ويرفضون الأفلام التي تكسره بالحكم على أن السيناريو ضعيف وبه تمطيط إلى غيرها من التصنيفات السهلة الدالة على عدم فهمهم للفيلم والتعامل معه كاختيار للمبدع.
• (3) استعرنا هذا العنوان الهامشي من عنوان للفيلم المصري الجميل “الخروج للنهار” للمخرجة الشابة هالة لطفي حيث يلتقي فيلمها في كثير من الجوانب الفنية مع فيلم “طابور”       


إعلان