بيب شودوروف

من المُذكرات الفيلمية إلى التجريد
 
حوار : رافائيل باسان
ترجمة : صلاح سرميني

في عام 2007 أنهى الأمريكيّ المُقيم في باريس “بيب شودوروف” عمله FAUX MOUVEMENTS (حركاتٌ مزيفة).
هو سينمائيٌّ غريزيّ، ولأنه في المقام الأول أنجز مذكراتٍ فيلمية، وكحال “جورج ميلييس” رُبما، يصادف عقباتٍ يتوّجب عليه إيجاد حلول لها. 

بيب شودوروف

من تجاربه، وُلدت جماليةٌ جديدةٌ منحت مع فيلمه CHARLEMAGNE 2 : PILTZER تحفةً أولى، وطريقاً إكتشافياً إضافياً إلى العلاقات بين السينما، والتجريد.

ـ كيف فكرتَ، وصورتَ عملاً مختلفاً تماماً عن أفلامكَ الأخرى (القريبة، في معظمها، من المذكرات الفيلمية) كحال CHARLEMAGNE 2 : PILTZER في عام 2002
وكما أعتقد، فقد درستَ سابقاً السيمولوجيا، والموسيقى، هل فكرتَ يوماً بأنك سوف تصل إلى هذا النموذج من السينما ؟

بيب شودوروف : تعلمتُ العلوم المعرفية في نيويورك قبل دراسة سيميولوجيا السينما مع “كريستيان ميتز”، وأتباعه في جامعة باريس الثالثة.
بتحليل القواعد السينمائية، وتأثير استقبالها على المتفرجين، فكرتُ بشكلٍ طبيعيّ بإنشاء تجارب إدراكية لتجسيدٍ أفضل لفهم فيلم ما مشابهة لتجارب نفسية/لغوية تمّ إنجازها في المختبرات.
لم أقدم أبداً على تلك المحاولات، ولا التفكير بسينمايّ بأنها تجريبية، بالنسبة لي، أصبح فعل التصوير ممارسةً يومية.
تعالج الأفلام التي أنجزتها في عاميّ 1989- 1990 فكرة تحريك صوراً ثابتة في السينما، وبالعكس، وذلك لإظهار الطبيعة الزائلة للصورة المُنفردة من الفيلم السينمائي (المقصود الـ Photogramme)، والتي تتموقع على حافتيّ السينما، والصورة الفوتوغرافية. كما تتطرق كتاباتي النظرية الأولى إلى هذا الموضوع، منذ طفولتي أنجزت فعلياً الكثير من المُذكرات الفيلمية، صورتها بطريقةٍ عفوية، وذلك بعمل المونتاج مباشرةً أثناء التصوير.
وبدءاً من عام 1993 بدأت أهتمّ بالبحث الكيميائيّ، والضوئيّ للشرائط الحسّاسة، وسياقاتها في مرحلتيّ التحميض، والطبع (يجمع End Memory المُنجز عام 1995 بين المعالجة الكيميائيّة للشريط، والمُذكرات الفيلمية).
خلال تلك الفترة، وبالتحديد في عام 1996، أسّستُ مع بعض الأصدقاء مُختبراً خاضعاً لقانون الجمعيات الفرنسية الأهلية، وأسميناه L’Abominable (وتعني الكريه، أو البغيض)، وفي تلك السنة نفسها أخرجت Fin de siècle (نهاية القرن) الذي كان في البداية شريط صوت، وقمت بمونتاج الصور انطلاقاً منه.
CHARLEMAGNE 2 : PILTZER هو الحصيلة الطبيعية لكلّ تلك المُمارسات :
ـ تحريك الصور المُنفردة الثابتة المُقتطعة من الفيلم (الـ Photogramme).
ـ التصوير التلقائيّ.
ـ العمل في مختبرٍ منزليّ.
ـ المونتاج وُفق الموسيقى.
وقد تمّ بناء العمل في عمومه بالارتكاز على فكرة المبادئ المعرفية لإدراك الموسيقى، والصور.
يستغرق حفل “شارلمان بالاستاين” 22 دقيقة، ويتكوّن من 7 أجزاء، ومن أجل كلّ واحدٍ منها، وبشكلٍ رئيسيّ، لعب الفنان نوطتان موسيقيتان شكلتا سلماً خماسياً منخفض الدرجة، وفي فيلمي تتجسّد هاتان النوطتان بطرائق مختلفة :
ـ صورٌ موجبة، وسالبة.
ـ ألوانٌ مُكملة، ومتعارضة.
ـ ترددات الذبذبة.
ـ إخفاء الأجزاء اليسرى، واليمنى من الشاشة.

حوّلت الصور المُلتقطة بشريطٍ من مقاس 8 مللي سوبر انطلاقاً من تقاسيم بصرية، حيث أنها هي نفسها تدوينة من الموسيقى عزفها الفنان تلقائياً خلال الحفلة الموسيقية.
تأخذ الصور دور المذكرات الفيلمية للحفل، ولكن في ربع الزمن : “شارلمان” يعزف البيانو، جمهوره، دُمى قطنية على الأرض حول البيانو.
تتدفق الصور بمُقتضى الموسيقى : تمددت الدقائق الخمسة إلى 22 دقيقة، لا أعني الإيقاع فحسب، ولكن تحدد اختيار الألوان عن طريق النوطات التي لعبها.
رغبتُ، وبدون الحديث عن تزامن، أن أدع النظام الإدراكيّ البصريّ يعمل بنفس طريقة النظام السمعيّ،
وأردتُ تطوير سلسلةٍ من الصيغ البسيطة لإحداث فيلماً معقداً، أنجزت كلّ شيءٍ يدوياً عن طريق الشريط الخام.

ـ هل يتبع فيلمكَ  FAUX MOUVEMENTS نفس طريقة البحث، هل يمكن أن تحدثنا عن عملك في هذا الفيلم ؟
 
ـ هنا، أردتُ الذهاب بعيداً، هناك تأثيراتٌ إدراكية أخرى، بالإضافة إلى الإحساس بالألوان التي يمكن أن تمنح المتفرج الانطباع بأنه شاهد شيئاً ما لا يظهر فيزيائياً على شريط الفيلم، أردت إحداث إحساساً جديداً بالحركة في السينما.
عندما نحدقُ في علم، ومن ثم جدار أبيض، نشاهد العلم بصورته السالبة، وهذا ناتج عن تأثير تشبّع مخاريط شبكيّة العين التي تُستهلك في كيميائيات استقبال الصورة، تتعوّد إذاً على محفزاتها، وتستعيد نبضاتها المُحايدة، وبشكلٍ آخر، يبقى العلم، وكأنه محترقاً أمام أعيننا، بينما نظرتنا تنتقل إلى مكان آخر.
يحدث نفس النوع من الوهم عندما نثبتُ نظرتنا على حركاتٍ متواصلة، كحال حلزونياتٍ في حالة دوران متكرر: عندما يختفي المُحفز، ينتج فجأةً انطباعاً معاكساً، نشعر فيزيائياً بحركةٍ وهمية للجسد.
هذا الإحساس بالحركة يختلف جذرياً عن الأشياء التي تتحرك على الشاشة، إنها تقترب من الحركة الحقيقية لجسدنا، بإمكان العيون أن تخدع الجسد، وتمنحه الإحساس بالانتقال، كما الحال عندما نجلس في مقطورة قطار ثابت في محطة، ويأتي الإحساس بالحركة من قطار موازٍ يتحرك، أنا متأكد بأنه إذا استطعنا امتلاك هذا الإحساس في السينما سوف يشعر المتفرج على نحو أكمل بأنه ملتزم صوتياً في فضاء الصالة.
يتجسّد الحقل البصري في فصّ مؤخرة المخّ عن طريق 27 “خريطة” عصبية، ومنها بعض الخرائط موجهة للحركة في حقل الرؤية (ترتكز هذه المعلومات، في أجزاء منها، على تجارب أنجزها البعض على قطط تمّ تخديرها بإشاراتٍ إلكترونية مزروعة في فصّ المخ الخاصّ بالحركة).

يمكن أن تتضمّن إذاً حتى 27 طريقة لخداع هذه الخلايا العصبية، وتقدم لها تأثيراً بصرياً مصطنعاً، ومزيفاً.
يمكن الإشارة بأنّ هذه التأثيرات لا تحدث في الشبكية فقط كما الحال في فيلمي الأخير، ولكن في عمق المخّ حيث تدور سياقات معرفية للرؤية، الخلايا العصبية التي تلتقط الحركة الشاقولية، الأفقية، المائلة، الحلزونية، الخطوط العرضية، الدوائر، أو الأشكال الأخرى.
يلعب فيلمي على الأنظمة الموجودة في النظام الإدراكيّ، يأتي من الرؤية، وليس العكس.

ـ ممارستكَ، كما حال سينمائيين آخرين معاصرين حاورتهم في هذا الملف، تتأرجح بين جمالياتٍ، و/أو مدارس متعددة، ليس التجريد إلا فرضية عمل، وقراءة من بين أخرى، أين تُموقع خطواتك السينمائية ؟
 
ـ أحبّ كثيراً الحدود بين الشكلانيّ، والتجريد، الصورة الفوتوغرافية، والسينما، الحميميّ، والجمهور، الرؤية، والصوت، تهذه التعارضات تلتقي في مكان ما.
الصوت، والضوء هي موجات، الشكلاني، وتجريد المادة المُضيئة، الحميميّ الشخصي جداً يصبح عالمياً.
لا اعتقد بأنه يجب إنتاج أشياء جميلة، ولكن دالة، حقيقية، ومثيرة للاهتمام، يجب الانطلاق أبعد نحو تجارب جديدة، لا توجد قواعد، يجب أن نترك أنفسنا كي تقودنا الطرق التي نعبرها في مسيرتنا السينمائية.

ـ تمّت المُقابلة في عام 2005.

هوامش المُترجم :
Raphaël Bassan
وُلد “رافائيل باسان” عام 1948 في بلغاريا، وهو مخرجٌ، وناقدٌ سينمائيٌّ فرنسيّ، متخصصٌ في السينما التجريبية.
في البداية، توجهت إهتماماته نحو مسيرة أدبية، حيث أصدر مع “هوبير حداد” عام 1970 مجلة متخصصة بالشعر (Point d’être)، بينما أخرج أول أفلامه القصيرة في عام 1969.
“جان بول بورر”، وكان واحداً من أعضاء المجلة الشعرية، إستعاد ذكريات تلك السنوات في صفحات سيرته الذاتية (محاربو الحلم)، وأشار إلى “رافائيل باسان” بصفته شاعراً، وسينمائياً.
منذ ذلك الحين، بدأ “رافائيل باسان”  يكرسّ نشاطه للكتابة عن السينما بشكلٍ عام، والتجريبية خاصةً، تلك التي كان يتجاهلها معظم زملائه، وكتب مقالاته السينمائية في صحفٍ، ومجلاتٍ متعددة، وأصبح صحفياً محترفاً.
من جهةٍ أخرى، يعتبر واحداً من المجموعة التي أسّست في عام 1971 تعاونية التوزيع المُستقلة المُسمّاة “جماعة السينما الشابة” التي تُواصل نشاطها حتى اليوم.
خلال الفترة 2000-2010 تعاون “رافائيل باسان” كناقد سينمائي مع مجلاتٍ أخرى، ومواقع فرنسية، وأوسترالية متخصصة، وشارك في تحرير بعض المقالات في “الأنسكلوبيديا العالمية”(من موقع ويكيبيديا).


إعلان