فيلم ضد فيلم: لينكولن سبيلبرغ ودجانغو تارنتينو

محمد رُضا

فيلمان حديثان عن العنصرية واحد يتوخّـى الواقع والثاني يتوخّـى الخيال لكن أحدهما لا يصيب الحقيقة.
الموضوع العنصري ليس غريباً على السينما، عالجته السينما الصامتة والسينما الناطقة على حد سواء. كانت مع العبودية حيناً، وكانت ليبرالية ضد العنصرية والعبودية في معظم الأحيان. هذا من دون أن نغفل المرّات التي أخفقت فيها في إتخاذ موقف إيجابي واضح تاركة المشاهد يتّـخذ الموقف الذي يعجبه.
الفيلمان هما «لينكولن» جديد ستيفن سبيلبرغ و«دجانغو طليقاً» لكوينتين تارانتينو. وكبداية ليس هناك من مخرجين على تضاد في كل شيء مثل سبيلبرغ وتارنتينو: واحد كلاسيكي التفكير والمعالجة، والآخر معاصر ومختلف في طرق تعبيره. واحد ينتقل بين أفلام “أرستقراطية” وآخر يهاجمها. الأول يدخل ويخرج من السينما الترفيهية والثاني في السينما الترفيهية وحدها، ولو كانت الترفيه على طريقته. لكن هناك أفلام كثيرة تقدّرها لستيفن سبيلبرغ وأخرى (مع تفاوت العدد) تقدّرها لتارنتينو… كلاهما من وجوه هذا العصر.
لكن لا «لينكولن» ولا «دجانغو طليقاً» (وكلمة «طليقاً» او غير مقيّد Unchained تتبع الكلمة الأولى بأحرف أصغر لأن النية كانت أن يُـكنّـى الفيلم بـ “دجانغو” وحده لولا وجود فيلم بهذا العنوان لم يرد المخرج إجراء أي مقارنة بينهما) هو من بين أفضل ما أنجزه المخرج في حقله. لنبدأ بـ «لينكولن»:
إنبرى معظم النقاد الأميركيين وجل المشهورين منهم إلى منح الفيلم الجديد «لينكولن» أعلى درجات تقديرهم. بالنسبة للمخرج والمنتج ستيفن سبيلبرغ، الذي حظى بغالبية إعجاب مماثلة عن فيلمه الأخير «حصان حرب» على الرغم من مشاكل واضحة فيه، فإن «لينكولن» هو بمثابة عودة إلى درامياته الإجتماعية التي إعتاد عليها سابقاً في «اللون قرمزي» (1985) و«أميستاد» (1997). هذان الفيلمان  تعاطيا مع شخصيات أفرو-أميركية في مسعاها للتحرر. في الفيلم الأول تحرر السود من السود في حكاية عائلية عن الجور والعنف الجنسي وفي الثاني التحرر من طغمة العنصرية البيضاء التي أوغلت في منتصف القرن الثامن عشر في الولايات المتحدة. هنا في «لينكولن» المناسبة متاحة للعودة إلى طرح الجانب نفسه، لكن من خلال البحث في سيرة حياة الرئيس إبراهام لينكولن في سنوات حكمه وهي فترة قلقة إذ شهدت دعوته لتحرير العبيد والحرب الأهلية التي إندلعت بفعل هذه الدعوة.

ديكابريو يواجه جايمي فوكس في دجانغو

إبراهام لينكولن شخصية مركّـبة ومثيرة للإهتمام تناولتها السينما، مباشرة او من خلال التعرّض لها في عداد مواضيع أخرى، 207 مرّات من سنة 1902 وإلى اليوم مروراً بأعمال محض خيالية كذلك الذي شوهد قبل أشهر قليلة بعنوان «إبراهام لينكولن: صائد فامبايرز» الذي صنعه على هيئة قاتل مصاصي دماء أكثر من رئيس دولة لدرجة أن المرء كان يخشى أن ينجح الفيلم تجارياً إلى حد إطلاقه سلسلة يواجه فيها لينكولن وحوشاً أخرى بعناوين مثل «إبراهام لينكولن ضد وحوش من الفضاء» او «لينكولن ضد الرجل الذئب» او «معركة حياة أو موت: لينكولن ضد وحش فرنكنستين» او «لينكولن وشبح الأوبرا».

فيلم سبيلبرغ ليس سيرة ذاتية عبر أحقاب بل هي تبدأ بالرئيس الأميركي السادس عشر قبل بضعة أسابيع من إلتئام الكونغرس، بحزبيه التقليديين الجمهوري والديمقراطي، لمناقشة رغبة الرئيس في إصدار تشريع يمنح الحريّة للأفرو- أميركيين. يعايش تباين وجهات النظر والتحذيرات من أن صدور القرار قد يؤدي إلى استمرار الحرب الأهلية غير البعيدة عن واشنطن دي سي. كما يعايش الحرب من خلال زيارته لمواقع القتال ويلـمّ بآلامها. في الواقع، معظم الفيلم يتم داخل جدران ما يعتبر بيته، لكن القليل منه خارجي، بما في ذلك مطلع الفيلم حين يجلس الرئيس أمام جنود سود شاركوا في موقعة ويتحدّثون عن جهودهم في الحرب وتطلّعهم إلى يوم تسود فيه العدالة وتختفي العبودية والعنصرية. قبل ذلك بدقيقة واحدة يقوم مدير تصوير سبيلبيرغ المفضّـل يانوش كامينسكي بتصوير تلاحم المقاتلين على الجانبين في تلك الموقعة. يصوّرها بوحشيّة مماثلة بتلك التي صوّر فيها وحشية القتال في «إنقاذ المجنّد رايان» مع إختلاف بيّن: في الفيلم السابق تستمر الموقعة نحو ثلث ساعة. في هذا الفيلم لا تتعدّى الدقيقة. فقط من باب منحنا، من حق المرء أن يعتقد، طعماً للحرب وتمهيداً عينيّـاً لما شهده لينكولن منها.
إذ يختار السيناريو والإخراج وبالتالي الفيلم بأسره الإنتقال إلى مشاهد التحضير للقرار التي تقع إما في بيت الرئيس أو في مقر الكونغرس آنذاك، تتوالى المشاهد بصيغة تقريرية مثيرة للضجر. هذا الفيلم، أراد أو لم يرد، يتحوّل إلى درس في التاريخ من حيث لا تريده أن يكون. وإذا ما أضفت إلى هذا الدرس حقيقة أن أستاذه (سبيلبرغ) يستند إلى سيناريو لا يوفّـر ما هو جديد أو مثير فإن الناتج هو كل ذلك الترقّـب والإنتظار. وحين يقع تتساءل “ثم ماذا؟”. هناك محطّـات معهودة للمخرج فهو يصوّر لينكولن كما يصوّر سبيلبرغ كل شخصية أب في أفلامه متدفقة الحنان. لكن حسنات الفيلم الفعلية هي محض فنيّة من تصوير ذي إضاءة واقعية وحركة محدودة تدفع للتأمل، وموسيقى (لجون وليامز) تتخلّـى عن اللحن الهادر والمضج صوب ترانيم بسيطة.
لكن إلى جانب أن الفيلم يبقى فاتر المضمون قائماً على سعي الرئيس لجمع ما يكفي من الأصوات لتمرير مشروع تحرير العبيد، لا يوجد في العمل طرح واقعي أو سياسي للمشكلة. وإذا كان هذا الغياب مقصود لأن غاية سبيلبرغ ليست في الواقعية أو في التحليل السياسي (وهذا من حقّـه) الا أن الإمساك بتلابيب الواقع لا علاقة له بالواقعية وتقديم الحقيقة ليس بالضرورة حديث في السياسة. إنه أمر موثوق أن أبراهام لينكولن كرر أكثر من مرّة أنه إذا ما رأى أن  إنهاء الحرب الأهلية ممكن بشرط تخلّـيه عن مشروعه لتحرير العبيد فإنه سيفعل ذلك. بكلمات أخرى، كان لينكولن، حسب وثائق مشهودة، مستعداً للتراجع عن مشروعه هذا إذا ما كان الثمن إنهاء الحرب الأهلية في زمنه. أما وأن الحرب الأهلية كانت أصعب من أن تنتهي بتراجع حول موضوع واحد، وأن موقف القوّات الإتحادية المؤيدة للينكولن في ساحات القتال كان أفضل من موقف القوّات الكونفدرالية الإنفصالية التي كانت تقف ضد تحرير العبيد، فإنه لم يكن أمام لينكولن سوى المضي في محاولة إصدار ذلك القانون.

المخرجان سبيلبرغ و تارنتينو

ليس في الفيلم ذلك السبب الذي يجعلك مقتنعاً أن معالجة سبيلبرغ للينكولن بكل ذلك الإجلال والإحترام أمر لابد منه، لكن الفيلم يبدو كما لو أنه من إنتاج آل لينكولن وعليه أن يخلو من أي شائبة.
فيلم كونتين تارانتينو متحرر من هذا الإلتزام، وليس فيه أي ذكر للينكولن، لكنه يدور حول تحرير العبيد على شكل أو آخر.
إنه فيلم خيالي تماماً تقع أحداثه قبل عامين من الحرب الأهلية (أي في سنة 1858): شولتز (كريستوفر وولتز) أوروبي يعمل صياد مكافآت (يقتل المطلوبين للقضاء مقابل مكافأة) حرر عبداً أسمه دجانغو (جايمي فوكس) من العبودية لكي يساعده للوصول إلى أشقياء لا يستطيع الوصول إليهم من دونه. نصف الفيلم الأول مغامراتهما معاً والنصف الثاني حين يصلا إلى مزرعة كالفين كاندي (ليوناردو ديكابريو) حيث تعمل زوجة دجانغو التي كان البيض فصلوهما عن بعضهما البعض. لكن شولتز ودجانغو لا يستطيعان دفع فدية للحصول على الزوجة على نحو مباشر  وكان لابد من التمويه فابتكر شولتز خطّـة حاول فيها إيهام كالفين بأنه يريد عقد إتفاق عمل بمبلغ 12 ألف دولار على أساس تمرير الطلب الثاني (والحقيقي) كملحق. لكن الخطّـة تُـكـتشف ويتبع ذلك فعل إنتقام شديد يقوده دجانغو ضد كل بيض تلك المزرعة وضد رجل أسود فيها (رئيس الخدم ستيفن كما يؤديه سامويل ل. جاكسون الأكثر عنصرية من البيض) إنقاذاً لزوجته.
فيلم تارانتينو خيالي بأكمله. لم يحدث شيء من ذلك وليس هناك من أسس واقعية الا حقيقة أن الأفرو-أميركيين كانوا رقيقاً بالفعل. لكن أن يكون الفيلم ترفيهاً خيالياً (وهو أيضاً من حق المخرج) لا يجب أن يعني التعامل مع التفاصيل بحرية. ليس فقط أن دجانغو يتصرّف بثقة لا تتناسب وخلفيّـته، بل يرتدي نظارات شمسية. وكلمة Nigger تتردد تحديداً 92 مرّة… لكن هل تكررت مرّة واحدة خلال تلك الفترة؟
سأشرح ما أعنيه: Nigger هي كلمة تحقير أطلقها البيض على السود منذ مطلع الأربعينات في القرن العشرين وليست من بنات القرن التاسع عشر. طبعاً هي مسحوبة من كلمة Negro وهي الكلمة التي كانت تستخدم في الفترة التي تدور أحداث الفيلم فيها. لكن تارانتينو الذي يستخدم كلمة Nigger في كل فيلم من أفلامه، لم يجد مانعاً من إستخدامها حيث لم تكن حيّـة بعد. هذا لا علاقة له بـ “خيالية” الفيلم أو الحكاية، بل بالضوابط التي لابد منها خصوصاً وأن أبعادها اليوم عنصرية ويعتبرها السود شتيمة يعاقبون عليها بتحقير مضاد في أضعف الحالات، ولا تسل عن أقصى الحالات.
لم أجد في فيلم ستيفن سبيلبرغ سوى درس منقوص في التاريخ ولم أجد في فيلم كوينتين تارانتينو أكثر من معالجة خرافية. فيلم يقول هذا ما حدث وآخر يقول هذا ما لم يحدث. لا الأول لديه قبضة حقيقية على كل الصورة ولا الثاني ترفيهاً كاملاً. على ذلك كلا الفيلمين نال الكثير من تقريظ النقاد الأميركيين وكل منهما داخل بعدّته ومفهومه إلى لعبة الأوسكار. لنرى أي معالجة للتاريخ العنصري هو الذي سيرضي الغالبية البيضاء من المقترعين في أكاديمية العلوم والفنون السينمائية.


إعلان