إعادة إحياء “لورنس العرب”: عملية الإنقاذ 2/2
لم يكن أحد قد فحص النسخة السلبية (النيجاتيف) الأصلية من الفيلم منذ أن حفظت في العلب داخل مخازن شركة كولومبيا قبل 25 عاما. وعندما فتحت العلب وجد أن النسخة السلبية (مقاس 65 مم بالأبيض والأسود التي تصبح 70مم بعد ضم شريط الصوت إليها) في حالة سيئة للغاية، فقد وجد أكثر من ألف “وصلة” بين كادرات الفيلم قد تمزقت، لكن الأخطر الأكبر أن النسخة السلبية كانت قد قطعت في أجزاء مختلفة منها، نحو مائتي مرة من أجل تحقيق التأثيرات المطلوبة من مزج واختفاء تدريجي بين المشاهد في المعمل، وغير ذلك.
قرر فريق العمل إرسال النسخة السلبية إلى معامل شركة مترو في أمريكا. أما شريط الصوت المغناطيسي الذي عثر عليه، فقد أرسل إلى مقر شركة هاريث حيث تم فحصه وتفريغ مقاطعه المختلفة، ووجد أن زمن عرضه يبلغ 202 دقيقة.
وشحنت كميات كبيرة من المواد الأخرى والشرئط والنسخ التي عثر عليها من الفيلم في ألمانيا وبريطانيا وهولندا، وأخذ بانتين يفحص كل هذه المواد، وبدأت عمليا إعادة بناء الفيلم في ضوء كل ما هو متوفر من مواد.
استخدم فريق العمل مئات الآلاف من الأقدام من المواد المصورة (السلبية- نيجاتيف) مقاس 65 مم، التي لم يكن يوجد على أي منها علامات تشير إلى ترتيبها أو علاقتها داخل سياق الفيلم، ولقطات أخرى لم يسبق استخدامها، ومئات الصناديق التي تحتوي على لقطات وأجزاء محذوفة من نسخ مقاس 35 مم، ونسخ سريعة أو ما يسمى rushes وهي نتاج التصوير اليومي وتأتي عادة إلى المعامل للتحميض، ومئات الآلاف من الأقدام لشريطي الصوت والصورة.
توفرت أيضا نسختان (موجبتان) من مقاس 70 مم، واحدة ناطقة بالألمانية، والثانية ناطقة بالإنجليزية مع ترجمة هولندية على الشريط نفسه. واتضح أن النسختين يبلغ زمن عرض كل منهما 202 دقيقة. وقد قام الفريق بتصنيف كل هذه المواد وترتيبها وحفظها بطريقة تمكن من الاستفادة منها.

ووصلت أيضا نسخة احتياطية من شريط الصوت يبلغ زمنها 202 دقيقة ووجدت علامات عند الكثير من النقاط الفاصلة بين بعض الكادرات استنتج من شكلها أنها قد تكون النقاط التي حدث عندها قطع ما، أي اختصار لبعض اللقطات. وعندما أديرت في أجهزة الصوت لاختبارها تبعثرت المادة المؤكسدة الممغنطة الموجودة على سطح الشريط وتحولت إلى تراب، وتسببت في تعطيل رءوس الأجهزة.
ورغم أن الملاحظة المرفقة معها كانت تشير إلى أنها نسخة احتياطية إلا أن فحصها في معامل الصوت في شركة جولدوين أثبت أنها النسخة الأصلية لشريط الصوت للفيلم، ويقع في 202 دقيقة. لكن لم يكن ممكنا استخدامها فقد انتهت تماما.
قبل الاستمرار في عملية الإنقاذ والاستعادة كان لابد من طبع النسخة السلبية. قام المعمل بإجراء بعض الإصلاحات في النسخة بقدر الإمكان إلى أن أمكن إعداد نسخة عمل 70 مم منها.
كانت الألوان في النسخة المطبوعة تميل إلى اللون الأصفر إلا أن صبغات ايستمان كولور لم تتحلل تماما عبر السنين بل شحبت فقط. وقد أمكن تصحيح الألوان، بل وأمكن أيضا إخفاء الجروح أو الخطوط التي تشوه بعض المشاهد عن طريق تغطيتها بمادة سائلة معينة. وبعد طبع نسخة سلبية أرسلت إلى الولايات المتحدة.
هناك اتضح أنه تم عمل اختصار في النسخة السلبية مرتين من قبل لكن أمكن تحديد مكان اللقطات التي كانت قد استبعدت في السبعينيات واستعادة معظمها.
استعان هاريث بالمونتيرة آن كوتس التي عملت في مونتاج الفيلم عام 1962 مع ديفيد لين، وبالتالي أمكن معرفة أماكن لصق اللقطات التي استبعدت واستعادة الكثير من أجزء الفيلم القديم، وهي عملية استدعت أيضا تدخل المخرج مارتن سكورسيزي في العمل بشكل مباشر. لكن اقتضى الأمر الاتصال بمخرج الفيلم ديفيد لين الذي قام بالاشراف على إعادة تسجيل الكثير من عبارات الحوار في الفيلم بعد أن أقنع بيتر أوتول وأليك جينيس وأنطوني كوين وآرثر كنيدي بالعودة إلى تسجيل العبارات الناقصة التي لم يعد لها وجود بعد أن مسحت تماما في نسخ الصوت القديمة التي عثر عليها.
جاء أليك جينيس وبيتر أوتول إلى الاستديو مع ديفيد لين في لندن وتعاونا بكل بساطة في تسجيل حوارهما الناقص. وأعاد أنطوني كوين تسجيل السطرين الناقصين من حواره في الفيلم، في نيويورك قبل أن يرحل إلى أوروبا، أما كنيدي فقد أمكن العثور عليه في ولاية جورجيا حيث لحق به باينتين وقام بتسجيل الصوت بواسطة جهاز تسجيل من نوع ناجرا. أما جاك هوكنز فكان قد توفي في أواخر الستينيات متأثرا بمرض سرطان الحلق، لذلك استعان لين بالممثل الذي أصبح متخصصا في القيام بدور البديل (الصوتي) لهوكنز لتسجيل المقاطع المستعادة التي كان يتكلم فيها.
وفي أبريل 1988 ذهب ديفيد لين إلى لوس أنجليس لكي يشاهد في غرفة المونتاج النسخة الأولية الأكثر اكتمالا من فيلمه الذي أخرجه قبل أكثر من 25 سنة. وكان يتعين عليه أن يقر النسخة الجديدة لكنه ظل مترددا، يتساءل عما إذا كانت بعض اللقطات المضافة لا فائدة منها وما إذا كان من الضروري إجراء اختصار جديد.
أعدت نسخة 70 مم من الفيلم مع نظام صوت دولبي، وعرضت عرضا خاصا في قاعة أكاديمية علوم وفنون السينما في هوليوود. كانت لحظة تاريخية. لقد تمت استعادة الفيلم إلى النسخة التي تقع في 202 دقيقة. وعرضت النسخة المستعادة في ديسمبر 1989 بمناسبة مرور 25 عاما على ظهور الفيلم.
عودة البحث والإنقاذ
هل انتهى مشوار لورنس مع التكنولوجيا الجديدة؟

لم تصمد تلك النسخة طويلا. كان من الضروري أن يعاود البحث مجددا في عام 2011 عن باقي الأجزاء المفقودة من النسخة الأصلية التي تقع في 222 دقيقة. كانت ألوان النسخة السلبية المستعادة، أي نسخة 1989 قد بدأت في التحلل، وبدأ الصوت يتآكل. وكانت شركة سوني التي اشترت كولومبيا وآلت إليها بالتالي أصول كولومبيا من الأفلام بما فيها “لورنس العرب”، عازمة على إعادة إطلاق نسخة جديدة كاملة شاملة من الفيلم بمناسبة مرور 50 عاما على ظهوره.
مرة أخرى يتم استدعاء آن كوتس Anne Coates المونتيرة المرموقة وهي الوحيدة التي ظلت على قيد الحياة من الفريق الذي عمل مع ديفيد لين عام 1962. وباستخدام نسخة 1989 عملت كوتس مع فريق خبراء المعامل الرقمية الحديثة digital في شركة سوني لمدة شهرين، من أجل ضمان استعادة الألوان وكثافتها ونسبة تركيز الضوء في الفيلم إلى ما كانت عليه عند ظهوره. وكانت مهمة كوتس إصلاح الأجزاء التي لم يتمكن فريق هاريس عام 1989 من إصلاحها بسبب عدم توفر الوسائل التكنولوجية التي أصبحت متوفرة حاليا أي التكنولوجيا الرقمية المتقدمة.
قام الفريق بعمل مسح رقمي للنسخة الـ65 مم الأصلية (70 مم بعد إضافة شريط الصوت) لرصد كل العيوب الكامنة في الكادرات واللقطات بما في ذلك عيوب الألوان والتشققات والخطوط وغيرها.
ونجحت التجارب المختلفة في النهاية في استعادة 20 دقيقة أخرى كان من المستحيل أن تعود إلى الفيلم مجددا إلا بفضل التكنولوجيا الجديدة وإرادة فريق الخبراء وحماسهم للفيلم الكبير.
وتسمى التقنية التي استخدمت في استعادة الفيلم إلى حالته الأصلية 8k وهي أرقى درجات النقاء التي تتحقق من خلال التعامل الرقمي مع الفيلم، وقد خفضت عند طبع نسخ من الفيلم إلى k4 وهي درجة نقية جيدة لا مثيل لها من قبل. الآن أصبح “نيجاتيف” لورنس العرب محفوظا في نسخة رقمية ومخزنا كإشارات ضوئية على جهاز الكومبيوتر، وطرحت الشركة في الأسواق أخيرا نسخة من الفيلم على أسطوانات البلوراي (الأشعة الزرقاء) ذات الصورة التي تتمتع بجودة عالية ودرجة نقاء كبيرة.
من ضمن الأشياء التي كانت قد استبعدت من النسخة الأصلية للفيلم بعد عروضه الأولى في 1962، إسم أحد كاتبي السيناريو وهو الأمريكي مايكل ويلسون، بينما اكتفى صناع الفيلم باسم الكاتب البريطاني روبرت بولت. وقد عاد اسم ويلسون إلى النسخة الجديدة باعتباره مشاركا في كتابة السيناريو.
النسخة الكاملة التي عرضت أخيرا تسبقها افتتاحية موسيقية تستغرق 4 دقائق على شاشة سوداء. وينقسم الفيلم إلى قسمين، تفصل بينهما استراحة. وفي نهاية القسم الأول فاصل موسيقي (على شاشة سوداء) يسمح للجمهور بالخروج تدريجيا، وتسبق القسم الثاني من الفيلم أي مع عودة الجمهور إلى قاعة العرض، مقدمة موسيقية خلابة على شاشة سوداء أيضا مع دقات طبول مميزة.
أما عن الفيلم نفسه فهذا موضوع آخر.