اللعبة السادية للنقاد، ونزق الوعيّ السينيفيليّ
صلاح سرميني ـ باريس
“جرت العادة في الصحافة السينمائية أن يسأل المهتمون بالسينما بعضهم بعضاً عن أفلامهم المُفضلة، لعبة سادية تقتضي إقصاء عدد هائل من الأفلام رآها المرء على مدار عام كامل، لمصلحة لائحة صغيرة من العناوين ستصمد في العقل والوجدان أكثر من سواها…”.
هكذا بدأ “هوفيك حبشيان” تحقيقه المُمتع عن حصاد السينما في عام 2012 (صحيفة النهار ـ 10 يناير 2013) مُتورّطاً، ومُورّطاً مجموعةً من النقاد العرب في هذه اللعبة التي يعترف بأنها “سادية”.
هو ناقدٌ سينمائيّ لبنانيّ، عاشقٌ نهمٌ للسينما، متعدد الثقافات، واللغات، متحررٌ من كلّ التابوهات لا يحبّ أن نتحدث عن أصوله الأرمنية (ولن نتحدث)، ويُفضل بأن يعيش كونيّ الانتماء.
يُقيم في أروقة المهرجانات أكثر من بيته البيروتيّ، ومابين واحد، وآخر يقضي محطاته في المدن الأوروبية يكتشف صالاتها، ودكاكينها السينمائية.

قبل أن أعرفه، كنت أعتقد بأنه امرأة مئوية العمر، ولكنني فُوجئت يوماً أبيض، وأسود بأنه ثلاثينيّ، وبعض السنوات، لا يعبأ كثيراً بمظهره، يحشر في ساقيه بنطلون جينز مقطوع، ويتباهى بقبعةٍ رخيصة الثمن يحاول البعض سرقتها، وفي أحسن الأحوال استعارتها.
علاقاته الاحترافية، والإنسانية جيدة مع الجميع ناقص “صفر”، تتخطى ثقافته السينمائية حدود النسبة المُعتادة في المشهد النقديّ العربي، يلتهم كلّ ما يتسنى له من الأفلام، وأعتقد بأنه لا يُفضل نوعاً على آخر، ولكننا تدربنا على قسوته “حبتيّن” مع السينما العربية، المصرية منها خاصة، التي جلبت له بعض حساسياتٍ شوفينية يضعها خلفه، فهو مشاهدٌ محترفٌ يتعامل مع الأفلام بغضّ النظر عن جغرافيتها، رُبما لا يتوجه هوسه السينمائيّ نحو نوعية معينة (السينما التجريبية)، أو جغرافيا محددة (السينمات الهندية الجماهيرية)، وهذه ليست نقيصة، أو عيباً خطيراً، ولكنه لا يعتبر نفسه أمير زمانه، هو واحدٌ من النقاد العرب الأكثر قابلية للحوار، المُناقشة، والجدل.
وبطرافةٍ شبيهة بوخزاته “الفيس بوكية”، إذا تصوّرنا استفتاءً عربياً من أجل تنصيب الناقد الأنشط، أتوقع ـ مع القليل من احتمالات الخطأ، والبهارات ـ بأن تكون النتيجة لصالحه مناصفةً مع آخرين ليس من اللائق ذكر أسمائهم كي لا نحصد معاً غضب الذين يحلمون بهذه المرتبة، ويخططون لاغتياله… كتابةً.
هذا النوع من التحقيقات الذي أجراه بجهدٍ يستحق الثناء هو عادةٌ سنويةُ “علنية” تلجأ إليها الكثير من الصحف، والمجلات المُتخصصة في العالم (باستثناء البلاد العربية، لأنها شبه غائبة، والمقالات التي تظهر في صحافتها خبرية أكثر منها تحقيقات، وإحصائيات جادة).
ومع ذلك، يمكن اعتبار المُبادرة التي أقدم عليها بأنها الأكثر إثارة للانتباه من عموم المقالات الأخرى التي تعكس وجهة نظر “سادية”، …”ذاتية”.
وهنا، تطمح هذه القراءة إلى تسجيل ملاحظاتٍ رُبما تتحول إلى موضوع للمناقشة، والتفكير بجدية الفكرة نفسها، مع قناعتي بأنها لن تؤدي إلى أيّ نقاش، ورُبما تحصد بعض الاستياء، والاستهجان، وهو مناخٌ عامّ بدأنا نتأقلم معه، ونتعايش.
وانطلاقاً من معرفتي بالمشهد النقديّ العربيّ، أجد هذا الاستفتاء، أو غيره، لا يعكس نوعية الحصاد السينمائي السنويّ العالمي، حيث، وببساطةٍ شديدة، عندما يُرشح أحدنا أفضل أفلام عام 2012، فهو في الحقيقة يشير إلى الأفضل من عموم مشاهداته، وهي عادةً تلك التي شاهدها الناقد قبل فترة وجيزة، وما يزال يتذكرها، ورُبما لم يشاهد من السينما العالمية إلاّ دزينة، وهنا يمكن طرح الأُحجية التالية :
ـ من هو الناقد العربي ـ على سبيل المثال ـ الذي شاهد عموم الأفلام الفرنسية المُنتجة في عام 2012 ؟
سوف تكون الإجابة ـ بدون أخطاء مُحتملة ـ، لا أحد (ولا حتى كاتب هذه السطور)، ولكنني، في المقابل، أعرف بأنّ الكثير من النقاد الفرنسيين يشاهدون كلّ الأفلام التي عُرضت في الصالات التجارية الفرنسية، وفي حالة استفتاء، أو حصاد، تأتي نتائج قراءاتهم السنوية أكثر جدية، ومصداقية، من يدري، رُبما هناك فيلمٌ ـ من أيّ جنسية كانت ـ تحفة لم ينتبه إليها أحدٌ من النقاد العرب الذين يشاهدون عادةُ ما يُتاح لهم من الأفلام التي وصلت إلى صالات بلادهم، أو في بعض المهرجانات السينمائية، وخاصة الكبرى المُفضلة لديهم.
عندما يُبادر ناقد سينمائيّ عربيّ إلى الكتابة عن أفضل الأفلام العربية، فإنه من المُفترض، ويتحتم عليه، بأن يشاهدها كلها، أو معظمها (كيف ؟، هذه مشكلته)، إذاً، هو يقترح أفضل فيلم من “بعض” الأفلام التي تسنى له مشاهدتها، ورُبما لا تتعدى العشرات.
وإذا افترضنا استفتاءً عن السينما العربية، سوف نكتشف بأنّ النقاد العرب لم يشاهدوا أكثر من 10 بالمائة من عموم الإنتاج العربي خلال عام، هذا الأمر الواقع ليس ذنباً يحملونه على أكتافهم، لأنّ هذا الإنتاج لن يُعرض في أيّ بلد عربيّ، بينما في فرنسا، يمتلك المواطن العاديّ، والناقد المُحترف فرصة مشاهدة عموم إنتاج بلاده (إذا رغب، وامتلك الوقت، والعزيمة).

وإذا اعتقدنا بأنّ إنجاز هذا النوع من الاستفتاء هو من مهام جمعية احترافية، أو إتحاد، من المفيد التذكير بأنّ كلّ المبادرات العربية التي حاولت إنشاء مثل هذه التجمعات فشلت، وآخرها “الإتحاد الدولي لنقاد السينما العرب”، وأول من أفشلها هم النقاد أنفسهم، وقد وصل الطيش عند البعض منهم إلى طرح السؤال التالي:
ـ لماذا يُبادر نقادٌ مهاجرون إلى إنشاء إتحاد ؟ …نحن نقاد الداخل الأجدر بالتأسيس، …
حسناً، تركناهم يؤسّسوا “إتحادهم” الذي كان في بداية الإعلان عنه يختلف في آلياته، وأهدافه، ويوماً بعد يوم، وجدنا بأنه أصبح نسخة طبق الأصل عن مبادرتنا.
وكالمُعتاد، لم يحدث أيّ شيءٍ، وبدورنا، نحن، الذين نعيش خارج جغرافية بلادنا، ابتعدنا عن ذاك الهزل، واكتفينا وقتذاك ببعض وجع الرأس، وعدنا إلى مواقعنا سالمين، حيث كلّ واحد منا منخرطٌ في نقابة وطنية، أو إتحاد عالميّ، ولدينا ما يزيد عن حاجتنا من الأفلام، المهرجانات، والثقافة السينمائية.
يقترب هذا النوع من الاستفتاء من فكرة الجوائز التي تمنحها المهرجانات العربية تحت عنوان:
ـ جائزة أفضل مخرج عربي.
ـ جائزة أفضل فيلم عربي.
ولكن، من الطريف بأنّ هذه الجوائز تختلف من مهرجانٍ إلى آخر، إذاً، أيّ فيلم هو الأفضل من عموم الإنتاج العربي؟
بينما، المُفترض أيضاً (ويتحتمّ علينا) بأن نتحلى بالتواضع السينمائي، ونفهم بأنّ هذه الجوائز تخصّ مهرجاناً محدداً.
هي جائزة أفضل فيلم عربيّ في مسابقة المهرجان، وهذا لا يعني بأنه أفضل الأفلام العربية المُنتجة في تلك السنة.
هذا التمويه يطال الكتابات السينمائية التي يشوبها نوعٌ من التعالي، الغرور، والنرجسية التي تستخدم الحديث عن الفيلم، وتحشو في طياته مديح الذات النقدية، كأن يستهلّ أحدنا مقالته بالجملة التالية :
ـ من أفضل/أجمل الأفلام المعروضة حالياً في ..
ـ من أفضل/أجمل الأفلام التي شاهدتها….
طيب، حسناً، طالما أنه الفيلم الأفضل/الأجمل، سوف نكتفي بهذه الجملة، ونتوقف عن القراءة.
هذا الناقد، مقالةً بعد أخرى، سوف يفقد مصداقيته، ويتحول إلى آلة كتابة عن الأفلام، فهو أولاً لم يشاهد كلّ الأفلام المعروضة في المكان الذي يعيش فيه، وثانياً، لأنه لخصّ رأيه في الجملة الأولى، وأفقدنا متعة القراءة، والاكتشاف.
يعكس هذا المنهج التبسيطيّ بعض الأساليب الكتابية التي تُميز ناقداً عن آخر.
بالنسبة لي، الناقد الأفضل هو الذي لا يرتكز على حدوتة الفيلم، ويلفّ، ويدور حولها، ولا يأخذ سرد الحكاية في مقالته أكثر من بعض السطور، و”هوفيك حبشيان” يتجاوز بمهارة هذه المسالك المُهلكة.
هناك نشرةٌ سينمائية فرنسية اسمها “بطاقات السينما”، يساهم في تحريرها مجموعة من النقاد المُتطوعين أعرف جيداً بأنهم يمنحون تقييماتهم الآنية، والسنوية بناءً على مشاهدة كلّ الأفلام التي تُعرض في الصالات التجارية، بينما لن نجد ناقداً عربياً واحداً يشاهد كلّ الأفلام العربية، ومع ذلك، عندما يأتي موعد الاختبارات السنوية، يُدلي برأيه انطلاقاً من دزينةٍ شاهدها خلال 2012 .
الفرق بيننا، وبينهم، بأنّ نقاد “بطاقات السينما” على سبيل المثال، أو أيّ مجلة فرنسية أخرى، يرشحون أفضل الأفلام التي عُرضت في فرنسا، وليس أفضل أفلام عام 2012 بالمُطلق، وهي خطوة أكثر جدية، ولكن، يجب الاعتراف بأنّ مشاهدة الأفلام متاحة لهم حتى قبل عرضها في الصالات التجارية.

وكما أشرتُ أعلاه، هذه القراءة ليست أكثر من تساؤلات، وهي لا تعني إطلاقاً بأنّ أحداً ما على خطأ، حيث أنه، وبشكلٍ عام، توجيه الجمهور نحو السينما هو بحدّ ذاته إيجابيّ.
ومن جهةٍ أخرى، أو نفس الجهة، ليس من الضروري أن يكون هناك مؤسّسات استفتاء سينمائية (ولن تُوجد) كي تكون نتائج الحصاد دقيقة، ولكن، الأكثر بساطة، أن يحظى الناقد العربي على كمّ كبير من المُشاهدة كي تمتلك ترشيحاته المصداقية التي تستحقها، لأنّ هذا النوع من الاستفتاء يختطف انتباه القارئ/المتفرج، ويجعله يسير في اتجاه الذوق العام السائد، والحصيلة النهائية سوف توّجهه نحو أفلام بعينها، ورُبما تُبعده عن أخرى تستحق المُشاهدة.
وما يحدث في أوروبا/النموذج لا يأتي عن طريق مؤسّسات، ولكن مبادرات من مجلات متخصصة، ونقاد يتابعون كلّ صغيرة، وكبيرة في بلادهم، وهي في محصلتها تعكس المزاج العام (كما يقول الناقد السوري “إبراهيم حاج عبدي”).
واحدةٌ من البديهيات، بأنّ البلدان العربية لا تُوفر السينما لمواطنيها، فكيف توفرها لنقادها، ويصبح الحصول على الثقافة السينمائية مبادرة من كلّ واحد منهم حسب الموقع الجغرافي الذي يعيش فيه، ومصادره الخاصة، وهي عادة أفلاماً مقرصنة، وما هو متاحٌ في المهرجانات، وكلّ واحد وُفق قدراته، ونشاطه، وكلما زادت مشاهداته أصبح أكثر حرفة، ومهارة، وهو حال “هوفيك حبشيان”.
هامش : عنوان هذه القراءة مُستوحى من الكلمات التي يستخدمها “هوفيك حبشيان” في كتاباته.
• تعليق من “هوفيك حبشيان” :
ـ قرأتُ ما كتبته، شكراً جزيلاً، جميل،… أنت حرّ أن تكتب ما تشاء، مع أنني أفضلّ بأن لا تذكر بأنني من أصلٍ أرمنيّ، أكره هذا الشيء، ولكن لا أسمح لنفسي بأن أتدخل في ما كتبته.
ورداً على الفقرة الأولى من تعليقك حول ما إذا كان ممكناً لناقدٍ أن يشاهد القليل، ويعطي رأيه:
أنتَ محقّ في ما تقوله، ولكن، هذا شيء لا يمكن تفاديه، وفي كلّ المجلات التي تقوم بهذا النوع من التقويم في نهاية عام، يكون التقويم بناءً على ما شاهده الناقد، وكلما كانت مشاهداته أكثر كلما جاء خياره أكثر دقة، وقيمة، ولكن المشكلة مع نقاد منطقتنا هي أنهم يعيشون في بلدانٍ لا يُعرض فيها الكثير من الأفلام غير الأميركية ولا يُتاح لجميعهم المشاركة في المهرجانات، لكن، في المقابل، أرى أنهم يستعينون بالأفلام المقرصنة، الخ…
في النهاية، الفرق في ما تقوله هو كالفرق بين أيّ شيء، وآخر.