“جانجو طليقا”.. تارنتينو محرر السينما والعبيد (1)

 
أمير العمري

لاشك أن فيلم “جانجو طليقا” Django Unchained   ليس فقط أفضل أفلام مخرجه كوينتين تارانتينو منذ فيلمه ذائع الصيت “خيال رخيص” Pulp Fiction كما يرى كثيرون، بل إنه أفضل افلام تارينتينو على الإطلاق.
والسبب أن تارنتينو هنا لا يلعب بالشكل ويتلاعب به فقط، كما كان دأبه دائما في سائر أفلامه، بل يتجرأ أيضا ويقترب كثيرا، ربما كما لم يحدث من قبل في فيلم “هوليوودي” تقليدي، من موضوع شديد الحساسية في التاريخ الأمريكي المعاصر هو موضوع العبودية واستعباد السود في الجنوب الأمريكي تحديدا.
يقول تارانتينو في حوار صحفي نشر قبل عرض الفيلم، إن فكرة الفيلم جاءته بينما كان يؤلف كتابا عن المخرج الإيطالي سيرجيو كوربوتشي Sergio Corbucci . ولاشك أن تارنتينو شاهد فيلم كوربوتشي الشهير “جانجو” (1966) وهو أحد أكثر أفلام الويسترن الاسباجيتي تحقيقا للنجاح الجماهيري، وتأثر به كثيرا بل واقتبس منه أيضا بعض الأفكار.
في هذا الفيلم نرى بطلا غامضا لا اسم له (على غرار كلينت إيستوود بطل سيرجيو ليوني في “حفنة دولارات” ثم “مزيد من الدولارات”) ينزل بلدة تتصارع فيها جماعتان: عصابة مكسيكية تقتل من أجل الحصول على الذهب، وعصابة من البيض الذي يرتدون القلنسوات الحمراء على غرار الكوكلوكس كلان.. يريدون القضاء على عصابة المكسيكيين. والبطل الذي يسعى للانتقام من عصابة البيض الذين قتلوا زوجته،  يجر خلفه من البداية كفنا أي صندوقا خشبيا كبيرا، وسرعان ما يحاول تأليب الجماعتين ضد بعضهما البعض لتحقيق هدفه وهو ينجح في إنقاذ امرأة بيضاء من فتك عصابة أغطية الرأس الحمراء، ثم يكشف في النهاية عن كنزه المخفي داحل الكفن الخشبي لنكتشف أنه مدفع رشاش ضخم يطلق مئات الرصاصات في الدقيقة!

كوينتين تارانتينو

كان بطل كوربوتشي رجلا أبيض، فيه من الغموض بقدر ما فيه من النبل، فهو ينحاز لجانب الحق ضد الشر، ويبدو أيضا كما لو كان مدفوعا بالانتقام لما تعرضت له زوجته على أيدي عصبة الأشرار. وقد اسند كوربوتشي دور البطولة في فيلمه هذا إلى فرانكو نيرو، ذلك الممثل الناشيء ذو العينين الزرقاوين الجامدتين على نحو غامض، الذي أصبح فيما بعد أحد كبارالنجوم في السينما الإيطالية.
امتدت سلسلة أفلام “جانجو” واستمرت في أفلام رخيصة التكاليف لسنوات طويلة (حتى 1987) وبلغت 30 فيلما تدور حول نفس الفكرة، أي البطل الخارق الذي لا يقهر، نصير البؤساء، وإن لم يكرر دي نيرو الدور سوى مرة واحدة في “جانجو يعود” إخراج نيللو روساتي، وهو عمليا خاتمة أفلام السلسلة.
تيمنا بجانجو القديم يستعين تارينتينو بفرانكو نيرو في دور ثانوي كضيف شرف في الفيلم، في إطلالة مدهشة بعد أن أصبح كهلا في الثانية والسبعين من عمره حاليا!

جانجو الأسود
إلا أن تارنتينو على العكس من كوربوتشي جعل بطله “جانجو” عبدا أسود في الجنوب الأمريكي، يخوض مغامرة ضخمة مع رفيقه (الدكتور شولتز) طبيب الأسنان الألماني الأصل، الذي هجر مهنته وأصبح يطارد المطلوبين للعدالة الفيدرالية الأمريكية، لكي يقتلهم ويعود بجثثهم لمبادلتها بالمال!

بعد أن يساعد جانجو شولتز في الكشف عن ثلاثة أشقياء وقتلهم، يمنح شولتز جانجو حريته ومبلغ 75 دولارا – كما وعده، ثم يعقد معه اتفاقا على أن يصبح شريكا له في عمله، وينتقل الاثنان من ولاية إلى أخرى، يحققان النجاح ويجنيان الثروة، وأخيرا يقرر شولتز أن يساعد رفيقه الذي يطلق عليه “جانجو فريمان” أي جانجو الحر، في تحرير زوجته من العبودية بعد أن يعرف أنها في ضيعة الأرستقراطي الإقطاعي “كاندي” (ليوناردو دي كابريو)  الذي يمتلك ضيعة ضخمة وعددا كبيرا من العبيد والجواري. وهناك تقع الكثير من المفارقات والمواجهات العنيفة ويلقى شولتز حتفه بينما يتمكن جانجو من النجاة بصحبة زوجته برومهيلدا.

هذه هي الحبكة الرئيسية للفيلم. لكن الفيلم تفاصيل وليس فقط حبكة عامة. وما يجعل من هذا الفيلم عملا كبيرا ليس سطحه الخارجي اللامع المثير، بل مكوناته وقدرة مخرجه وكاتبه (تارنتينو) في التلاعب بالأسلوب، مسلطا الأضواء على الكثير من الأفلام التي أحبها، مستخلصا منها ما يناسبه، فهو أولا يستعيد أجواء أفلام “الويسترن سباجيتي”، تلك النوعية من الأفلام التي أنتجت في إيطاليا وصوّر معظمها في إسبانيا، في الستينيات. وكانت هذه النوعية تختلف تماما عن أفلام الويسترن الأمريكي في اهتمام مخرجيها بالقضايا السياسية بشكل مجازي، فقد كانت تلك الفترة فترة الاهتمام الكبير بالماركسية والأفكار اليسارية وبزوغ دور الحزب الشيوعي الإيطالي (أكبر الأحزاب الشيوعية الأوروبية وقتها)، وكان معظم السينمائيين الإيطاليين البارزين من اليسار، وكانوا يهتمون بقضايا الفقراء ونقد السيطرة الرأسمالية حتى لو جعلوا المكسيكيين مثلا مرادفا للطبقة الفقيرة، وجعلوا الرأسماليين المتوحشين هم “رعاة البقر” المغامرين الباحثين عن الذهب أو عن استغلال الفقراء وسرقتهم، ولكن “البطل” الأسطوري- الذي كان يحمل أيضا سمات المخلص المسيحي، كان يتمكن من تنظيمهم وقيادتهم للتصدي للأشرار أو يقضي هو عليهم بحنكته وصبره وشدة بأسه.

تارنتينو يستعيد ذلك التقليد في استخدام هذا “النوع” genre للتعبير عن أفكار سياسية (تقدمية). وفيلمه يمكن النظر إليه على أنه صراع بين المقهورين (جانجو وزملاؤه العبيد وزوجته المستعبدة) والأمريكيين البيض الأثرياء الذي يراكمون الثروات ويمتلكون الإقطاعيات باستغلالهم لجهد وعرق هؤلاء العبيد. إن “جانجو طليقا” يمكن النظر إليه على أنه فيلم عن ذلك التوحش الرأسمالي الذي يدفع أيضا إلى ابتكار الكثير من أشكال التسلية التي تعكس نزعات همجية متوحشة سادية مغرقة في العنف: على السطح هناك الرقة والعذوبة في الاستقبال عندما يحل شولتز وجانجو ضيفين على ضيعة الرأسمالي (أو الإقطاعي) كاندي (دي كابريو)، حيث تستقبلهما شقيقته “لارا” بكل رقة وترحيب ونعومة، في اتساق مع ما هو معروف عن تقاليد الجنوب الجنوب الأمريكي في الكرم والحفاوة وحسن استقبال الضيوف، لكن تحت السطح هناك رغبة شرسة في انتهاز الفرصة، للحصول على أكبر المكاسب، في إنجاز صفقة ما تضمن تحقيق المال الذي هو الأهم.

عن العنف والملكية
الغرب عند تارينتينو متوحش، قاس، فظ، يمتلئ بالعنف والاستغلال في أبشع صوره. وهناك تناقض هائل بين تلك الصورة الرائعة الجذابة للمناظر الطبيعية، للحقول، للجبال، وبين ما يكمن هناك من عنف هدفه الحصول على المال وتراكم رأس المال. فالسيد الاقطاعي “كاندي” غليظ، متشكك، فظ في البداية، ولكنه يتحول إلى كائن مضياف رقيق مجامل بعد ان يقول له شولتزز إنهما جاءا لعقد صفقة معه.

ومن ضمن أشكال التسلية التي ابتدعها كاندي دفع عدد من العبيد على قتال بعضهم البعض حتى الموت. ويطلق تارنتينو على هذا النوع من العبيد “ماندينجو” Mandingo في استعادة واستلهام لفيلم بالعنوان نفسه ظهر عام 1975 من إخراج ريتشارد فليشر وبطولة جيمس ماسون وسوزان جورج وكان من أكثر الأفلام عنفا لدرجة أنه منع في الكثير من البلدان وظل ممنوعا في بريطانيا مثلا لخمسة وعشرين عاما!
العنف الذي يستمتع به كاندي يظهر في أبشع صوره عندما يطلق كلابه المتوحشة لتنهش لحم عبد كان يرغب في التراجع عن المصارعة حتى الموت خشية من المصير الذي ينتظره.
يدخل شولتز وجانجو في روع مضيفهما أنهما يرغبان في شراء عبد مقاتل من نوع الماندينجو مقابل أكبر مبلغ يخطر على البال في ذلك الوقت، أي 12 ألف دولار في حين أن ثمن العبد في أفضل الحالات لم يكن يتجاوز- كما يقال في الفيلم- 300 دولار!
والهدف هو تدبير خدعة لإنقاذ برومهيلدا – زوجة جانجو- التي تتكلم الألمانية بعد أن تعلمتها على أيدي الأسرة التي اشترتها من قبل. ويعرض شولتز الرغبة في الحصول عليها بالثمن المعتاد، بدعوى أنها ” تجعله يشعر بالألفة مع لغته الأصلية التي يحن إليها كثيرا”!
يعمل لدى كاندي الإقطاعي زنجي يدعى ستيفن، هو رئيس الخدم في المنزل الكبير في الضيعة الإقطاعية التي تمتلئ بالحقول الشاسعة، هذا الزنجي رسم تارنتينو ملامح شخصيته على غرار شخصية “العم توم”، أي ذلك الأسود الذي يوظف بكل صدق وإخلاص، خدماته للسيد ويقدم له كل عون ويقف معه رغم كل ما يراه من ظلم وقسوة شديدة، لكنه على العكس من العم توم الطيب، يبدو ستيفن أكثر قسوة من السيد نفسه في تعامله مع عبيد وإمات القصر كما نرى. لكن ستيفن هو أيضا الذي يكشف “الخدعة” وبالتالي يفشل الرجلان في الحصول على ما يبغيان إلا بعد أن يوافق شولتز على دفع 12 ألف دولار مقابل برمهيلدا تحت التهديد بالسلاح. لكن الأمر لا ينتهي سوى بحمام من الدم حيث يموت شولتز ويلقى كاندي مصرعه، وينجح البطل في الفرار مع زوجته بعد أن يفجر المنزل. 


إعلان