رحيل المخرج الياباني ناغيسا أوشيما
قال ما كان يريد قوله وما عليه أن يقول
ندى الأزهري
لا يمكن لاسم المخرج الياباني ناغيسا أوشيما أن يرد دون أن تلحق به “امبراطورية الحواس”، فيلمه الأشهر وأحد أكثر الأفلام اثارة للجدل في تاريخ السينما، والشريط الذي “أفزع الرقابة” في كل انحاء العالم.
المخرج الذي انطفأ منذ أيام في مستشفى بطوكيو عن عمر ناهز الثمانين، ولد عام 1932 في مدينة كيوتو العاصمة القديمة لليابان و درس الحقوق في جامعتها قبل أن يلتحق باستوديوهات شوشيكو كمساعد مخرج. فيلمه الأول” مدينة الحب والأمل” الذي أنجزه عام 1959 كان ميلودراما قاسية عن حياة مراهق. في السنة التالية وضعه “حكايا الشباب القاسية” بموضوعه واسلوبه الإخراجي الجديد كأحد رواد الموجة الجديدة. لكن أوشيما البعيد عن التصنيفات الكاره لها، المتمرد في بلد يرسخ بثبات تحت تقاليده، كشف عن نزعته لاثارة الجدل و فكره الحر وشخصيته الاستقلالية في فيلمه التالي “ليل وضباب في اليابان”(1960) الذي تناول فيه حركة تمرد الشباب العشريني ضد المجتمع وهذا على خلفية تجديد المعاهدة الأمنية بين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية التي تسببت سنوات عشرة قبلها بمظاهرات عنيفة في اليابان. كان الفيلم سبب غضبه من شركة شوشيكو وانفصاله عنها بعد أن سحبت الفيلم من دور العرض ثلاثة أيام بعد عرضه.

طوال سيرته المهنية تعامل اوشيما مع المواضيع المثيرة للجدل وخاصة الجنس والجريمة، ومن الشهوة إلى العنصرية مرورا بالمثلية و قانون الإعدام، حطم أوشيما كل الثوابت وأثار الفضائح في بلد محافظ شديد التمسك بالتقاليد والمظاهر. بيد أن قصصه، المأخوذة في أغلبها من قصص واقعية، كانت سبيله لانتقاد هذا الواقع ولدفع اليابانيين إلى النظر في المرآة كما صرح يوما. انتقد عنصرية مواطنيه في ” الوقوع في الأسر” 1961 المأخوذ عن رواية لكينزابورو أوي الحائز على نوبل وتطرق فيه إلى وقوع أسرى من الجنود الأمريكيين الأفريقيين وقت الحرب الثانية في يد اليابانيين في قرية صغيرة، كذلك في “الموت شنقا” الذي انتقد فيه حكم الإعدام والعنصرية اليابانية تجاه الأقلية الكورية في اليابان.
لكن لا جدال في أن فيلمه “امبراطورية الحواس” 1976، الذي كان ثمرة تعاون مع المنتج الفرنسي أناتول دومان الذي عمل مع الموجة الجديدة الفرنسية، كان السبب في شهرته العالمية. صور أوشيما في الفيلم بكل حرية كل ما لا يروق للرقابة من محرمات الجنس، وللمرة الأولى في اليابان تصور مشاهد جنسية كاملة….اثار الفيلم بعد عرضه في مهرجان “كان” موجات من الاستهجان واتهم بالفحش والفجور ولاسيما في الولايات المتحدة ولم يعرض سوى في فرنسا ومنع عرضه في عدة بلدان، ولم يعرض بنسخته الكاملة في اليابان حتى اليوم بل عرضت نسخة ناقصة منه عام الفين. الفيلم المأخوذ عن قصة حقيقية صدمت اليابان في الثلاثينات يصور علاقة سادية مازوشية بين خادمة وسيدها، وعشق في حده الأقصى وعلاقة تقارب في عنفها الهوس…. عامان بعد فيلمه هذا نال جائزة الإخراج في مهرجان كان عن “امبراطورية الشغف”.
لكن أسلوب أوشيما ولغته السينمائية يدفعانه أبعد من الواقعية فاعتنائه بالشكل جعله مجددا قياسا إلى ما كان سائدا في أفلام الخمسينات السياسية الملتزمة. كما أن أفلامه هي ثمرة تفكير عميق وتأمل في مشكلات الرؤية الأخلاقية والحركات السياسية في بلده، وقد عبر من خلالها عن قلق واستيهامات اليابان المعاصر و الأضرار التي تركتها في النفسية اليابانية عهود سابقة من الاقطاعية والخضوع وأيضا الحرب العالمية الثانية.

أوشيما الذي كان منجذبا أكثر نحو السينما العالمية أكثر منه نحو السينما اليابانية، حقق في 1986 “ماكس حبيبي” مع شارلوت رامبلنغ حول هوى برجوازية انكليزية بشمبانزي. لكن هذا الفيلم كما افلامه اللاحقة لم تلق نفس النصيب من النجاح، وقد أصيب بجلطة دماغية في 96 ، إنما لم يمنعه كرسيه المتحرك من تحقيق فيلمه الأخير “تابو” الذي صوره عام 1999 وشارك فيه الممثل والمخرج الياباني الشهير تاكيشي كيتانو. يكشف الفيلم خبايا أكاديمية الساموراي في عهد ميجي(1868-1919) من خلال اهتمام يبديه ساموراي بطالب جديد.
قدم اوشيما حوالي الخمسين فيلما بين الروائي والوثائقي القصير والطويل وعمل بعضها للتلفزيون، وكان أشهرها” 100 عام من السينما اليابانية” الذي حققه عام 1994 والذي صرح بشأنه” أتمنى ان تتخلص تلك السينما من يابانيتها”، بحسب ما ذكرت صحيفة نيويورك تايمز في مقالة عن المخرج.
كان أوشيما في الاعوام الأخيرة ضيفا دائما على برامج المنوعات اليابانية في التلفزيون وكان لا يهادن ولا يتوانى عن التصريح بما يرغب وكان له ذلك وكما قال أحد محاوريه في تغريدة نقلتها وكالة الأسوشيتدبرس ” كنت أخشاه ولكنه كان كأخ علمني الكثير من الأشياء. اوشيما لم يكن يكترث اطلاقا بالتابو أو بكل ما يناسب (…) قال ما كان يريد قوله وما كان عليه أن يقول. من الصعب أن نجد شخصا مثله بعد الآن”.
تفقد السينما بموت أوشيما “المواطن في جمهورية السينما” صوتا جريئا طليعيا وسينمائيا خلاقا..