سامي التليلي : أنا لا أؤمن بالموضوعية في الوثائقي

سامي التليلي مخرج شاب تونسي لفت إليه الأضواء بعد حصول فيلمه الوثائقي الأول “يلعن بو الفسفاط” على جائزة الإخراج في مهرجان أبو ظبي السينمائي الأخير. يتميز سامي التليلي بالتزامه الفني والإيديولوجي الذي لا يخفيه ويعتبره محركا مهما لمواقفه ولتصوراته الجمالية. ولكنه يعتبر أن الثبات على المواقف الفكرية لا يعني التضحية بالرؤية الجمالية للعمل الفني. تناول فيلمه انتفاضة الحوض المنجمي 2008 التي يعتبرها أغلب التونسيين ومنهم سامي، أنها كانت الشرارة الأولى للثورة على نظام بن علي. إذ تمكنت تلك الانتفاضة من تكسير حاجز الخوف بعد ستة أشهر من الرفض والحصار. عقبتها تحركات في مدن تونسية أخرى تتوجت باندلاع الثورة التونسية يوم 17 ديسمبر وانتهت برحيل بن علي يوم 14 يناير…
بعد فوزه بالجائزة مباشرة عاد التليلي إلى قرية الرديف حيث انطلقت الانتفاضة وأصر أن يكون عرضه العالمي الأول من هناك. في هذا الحوار يعبر سامي التليلي عن رأيه في السينما وفي الوثائقي وفي المواقف الفكرية والسياسية والجمالية.
 
أنت قادم من نوادي السينما وتجربة السينما الهواة في تونس وهي تعتبر المخزن الاستراتيجي للإبداع السينمائي التونسي كيف تقيم لنا هذه التجربة وما آفاقها بعد الثورة

انضممت الى هاتين الجامعتين في سن صغير، عمري لم يكن يتجاوز حينها 16 سنة، بدأت في الجامعة التونسية لنوادي السينما ثم انضممت للجامعة التونسية للسينمائيين الهواة، لم أكن وحدي، كان معي رفاق درب..
كانت تجمعنا أحلام وهموم عدة، هوس السينما و لكن الايمان بثقافة بديلة والحلم بوطن اجمل، في الحقيقة عندما انضممنا لهاتين الجامعتين، لم تعد لهاتين الجامعتين وهجهما وإشعاعهما كما كان الحال في السبعينات او الثمانينات حيث كان عدد المنخرطين يفوق عشرات الالاف.
الوضع معنا كان مختلفا، نحن جيل الألفيات، هذا لم يمنعنا من مقاومة الرداءة و الانحطاط  الذيْن كانت تتركز عليهم دكتاتورية بن علي.
أنجزنا افلاما عديدة دخلت تاريخ سينما الهواة  والسينما في تونس بصفة عامة و قاومنا و لم نرضخ و هذا هو الاهم لم تكن تجربة وردية لكنها من  أحلى تجارب حياتي ، لها الفضل في ان أكون ما انا عليه الآن، و الأحلى انها كانت مع رفاق درب، بعضهم كان معي في نوادي سوسة كصبرين هريرة و شفيق عصمان وجودة عصمان و الآخرون في نوادي أخرى كأمين الغزي و وليد الطايع و غسان عمامي. أتذكر انه مع أمين الغزي قمنا بوضع شعار لجنوننا : ” الفن لمقاومة العفن!”
هاتين الجامعتين كان لهما دور اساسي في مقاومة الدكتاتورية، الآن دورهما اهم مما مضى لكن يجب على مناضليها القاعديين اعادة النظر في عدة اشياء وإعادة ترتيب البيت، هذا اساسي و مستعجل للعب دور في مرحلة تونس ما بعد 14 جانفي.

• “يلعن بو الفسفاط” قصة معاناة لمدة قرن من الزمان تفجرت حممها في 2008 فما هي القصة التي تريد أن تحكيها لنا؟
قصة وطن يتنكر لأبنائه و يكرّم الخونة..! قصة ثورة تلتهم أبناءها! قصة منطقة اعطت بلا حدود لوطنها، اعطت ثرواتها و خيرة أبنائها، من معارك التحرر الوطني الى معركة بناء الدولة الحديثة واقتصادها، مات ابناؤها برصاص الاستعمار وفي دواميس المناجم ومات ابناؤها في دواميس مناجم دولة “الاستقلال” يستخرجون فسفاطا ينتفع به غيرهم و مات ابناؤها برصاص دولة “الاستقلال”  أيضا..
انتفاضة الحوض المنجمي (التي امتدت من 5 يناير 2008إلى يونيو 2008) هي اختزال لكل هذه المأساة. ومعالجة الفيلم لها معالجة بعيدا عن لغة الأرقام والإحصائيات، تركنا الأرقام والاحصائيات لبن علي وخلفائه، أردناها معالجة تتنصر للإنسان، فقط

اخترت الوثائقي لتعبر عن هذه القضية هل كان اختيارا فنيا مبدئيا أم اضطراريا نظرا لصعوبة الروائي ماديا وإنتاجيا..

لا كان خيار فنيّا..! لأنه بالنسبة لي الوثائقي هو الاختيار الفنّي الذي يتلاءم أكثر مع الطرح الذي اريده للفيلم!..
الكل تحدث عن احداث الحوض المنجمي و أبدى رأيه في ما حصل الا المعنين أنفسهم؛ الا اصحاب القضيّة..  موقفهم مما حصل؟ .. ! هم الذين كانوا يكتوون بنار المحرقة. أردتهم أن يتحدّثوا لا ان أتحدث باسمهم..

أحداث 2008 في الرديف لها زخمها في الذاكرة النضالية التونسية ومليئة بالتفاصيل مما يصعب على المخرج اختيار شخوصها وأمكنتها فكيف تخطيت هذه الصعوبة

هنا يكمن دور الكتابة السينمائية ! ان لم تكن كتاتبك صارمة و إن الم تكن تعرف ماذا تريد وما الفيلم الذي تريده ستضيع بوصتلك ويكون فيلما فسيفسائيا بلا روح.
من الاول كنت وعيا بصعوبة المهمة وأنه علي أن أحسن اختيار الطرح السينمائي الملائم.
قربي من القضية وعلاقتي الوجدانية بها، كوني ابن المنطقة وملم بواقعها دون نسيان.. ومعرفتي الشخصية بعدد من مناضلي الحوض المنجمي كان له دور حاسم في اختيار المعالجة الدرامية للفيلم.
دون ان ننسى انه هناك معطيات موضوعية نتعامل معها. فانتفاضة الحوض المنجمي هي ما يقارب عن 300 تونسية وتونسي مثلوا امام المحاكم و قضوا احكاما تترواح بين شهر مع تأجيل التنفيذ و 10 سنوات نافذة، هناك ما سمي بمجموعة الـ36 وهي المجوعة التي حملتها السلطة مسؤولية ما حدث و تم التنكيل بها في محاكمات قروسطية والاهم من ذلك انه هناك مدينة كاملة هبت و خرجت للشوارع . منطقيا لا يمكن لك ان تصوّر مع مدينة كاملة ولا حتّى مع 36 شخص والا ستكون “خلطة” سينمائية و ليس فيلما سينمائيا.
المهم بالنسبة لي أن أحكى القصة التي أردتها أن تُحكى وعلى هذا الاساس تمت الاختيارات الفنية و الدرامية

سامي التليلي أثناء التصوير

سينما وأدب “المناجم”، سينما وأدب مفعم بالإيديولوجيا فأيهما غلب على فيلمك الرسالة الجمالية أم المحتوى الإيديولوجي الذي تؤمن به ؟ وبالتالي هل أردت أن تؤرخ أم تبدع أم تنتصر ؟؟
الاثنين! انا منحاز! منحاز لناسي ! منحاز لثوّار بلادي! منحاز لآلام و جراح بلادي و جهتي!
انا لا أؤمن بالموضوعية! الموضوعية وهم! و في كثير من الاحيان تستعمل كغطاء لستر غياب المواقف وغياب المسؤولية، ورقة التوت يستعملها البعض لتبرير استقالتهم من واقعهم و من واقع مجتمعاتهم و بلدانهم!
انا اؤمن بالحرفية، السينما عمل فنّي! و بقدر ما يكون العمل ثريّا على المستوى الفنّي بقدر ما يكون ناجحا!
رسالتك لن تصل مادام عملك رديئا سينمائيا و فنّيّا! اذا اردت ان تنتصر لقضية ما، فعليك أن تبدع!
أمامك فيلم، هناك بناء درامي وسرد وسيناريو وإخراج فني ومعايير جمالية، ان غاب كل هذا فلن تنتصر لقضيتك، بل قد تسيئ اليها و يكون لعملك مفعول مضاد!

إصرارك على أن يكون العرض الأول بعد الجائزة في قرية الرديف التي كانت مسرح أحداث 2008 وصورت فيها فيلمك، لو تصف لنا ردة فعل المشاركين في الفيلم عندما شاهدوه وسمعوا بالجائزة.. هذا يطرح علاقة السينما بالتنمية بشكل عام ؟
فرحوا كثيرا، اتصلت بهم مباشرة بعد نزولي من منصة التتويج في أبو ظبي وسعدوا كثيرا لهذا، خاصة ان وكالات الانباء العالمية تناقلت كثيرا الكلمة التي القيتها عند تسلّم الجائزة والتي ذكرت فيها انه لولا الرديف لما حصل في تونس ما حصل. مع تفاعل الصحافة العالمية مع الفيلم احسوا ان قضيتهم عادت للواجهة خاصة في الوضع الحالي الذي تعاني فيه قضية الحوض المنجمي من تهميش رسمي يرونه متعمّدا ويرون أن البعض يحاول تغييب نضالات المنطقة وطمس الحقائق التاريخية وإعادة كتابة التاريخ لا لشيء إلا لكونهم كانوا خارجه حينها.
العرض الوطني الاول للفيلم في الرديف كان من أحلى لحظات حياتي، لا يمكن لي ان أنسى ابدا التفاعل الذي ابداه الحاضرون مع الفيلم ورفعم للنشيد الوطني عند نهاية الفيلم.
إصراري لم يقتصر فقط على ان تحتضن الرديف العرض الوطني الاول بل أصررت ايضا على ان تحتضن قاعة السينما القديمة بالرديف العرض، هذه القاعة مغلقة منذ 28 سنة وفتحت خصيصا للغرض وذلك بفضل مناضلي الحوض المنجمي.
هذه القاعة لها رمزية كبيرة لدى سكان الرديف، فعمرها يتجاوز 100 سنة هذه القاعة كانت تحتضن أنشطة نادي السينما بالرديف، والذي لا يعرفه الكثيرون أن مناضلي الرديف كانوا من روّاد والناشطين الفاعلين بنادي السينما بالرديف.

حصولك على جائزة الإخراج في مهرجان أبوظبي في أول عمل عالمي هل ينبئ بميلاد جيل جديد من الوثائقيين التونسيين

أعتقد انه من المبكر الحديث عن جيل جديد. صحيح هناك اعمال جيدة للغاية “فلا?ة 2011” لرفيق العمراني و “يا من عاش” لهند بوجمعة، هناك بوادر ظهور سينمائيين برؤية أخرى واستتيقا أخرى، لكن مازلنا في مرحلة التأسيس، و قد يموت المولود في المهد، يجب التأكيد! حين ينجز كل منا على الاقل 3 افلام ذات مستوى عال، حينها نستطيع الحديث عن جيل جديد

كيف غاب فيلمك من أول دورة لقرطاج بعد الثورة ؟؟
هو لم يغب.. كان حاضرا و لكن خارج المسابقة.. و هذا اختيار من ادارة المهرجان.. ما يمكن ان اجزم به هو ان الاختيار لم يكن لأسباب سينمائية او فنيّة بل كان لأسباب سياسيّة.
والدليل أن الافلام التي مثلت تونس في مسابقة الافلام الوثائقية لم يكن لها اي صدى و لم يتفاعل معها لا الجمهور ولا النقاد .
و هذه هي المصيبة، ان نجد انفسنا سنتين بعد ما يسمى بالثورة امام نفس الممارسات البالية المتخلفة والتي جعلت الثقافة والفن في تونس في مثل هذا الوضع المتردي، كأن تقيم مهرجانا سينمائيا ويكون الاختيار وفق معايير غير سينمائية.
هذا الاختيار اثار دهشة الجميع بما فيهم لجنة التحكيم نفسها.
على كل انا موقفي واضح، لا ولم و لن أخضع للمقايضة، و حرية فكري غير قابلة للمساومة، و بالنسبة لي كلمة شكر من أم شهيد أو من أي مناضل من مناضلي الرديف أفضل من كل مهرجانات و مسابقات العالم.

في رأيك، هل الثورة التونسية ستصحبها ثورة ثقافية وخاصة سينمائية..
في اعتقادي الثورة الثقافية تمهد للثورة السياسية والاجتماعية و ليس العكس!
في تونس هناك غليان فكري لدى الشباب، في الشعر والموسيقى والسينما ولكن هذا الغليان يعاني من غياب المنهجية و التنسيق.
في صورة حصول هذا فحتما ستكون ثورة بأتم معنى الكلمة، و لن يركبها السماسرة والدجالون !

مشروعك القادم؟
فيلم وثائقي طويل، سيكون مختلفا عن “يلعن بو الفسفاط” لكن بنفس الروح!
في الفيلم الجديد سيكون المجال اكبر للتجريب السينمائي لان طبيعة الموضوع تسمح بذلك.


إعلان