الهوس التسجيلي بجريمة “ممفيس”
عشرون عاما مَّرت على الجريمة الشهيرة في مدينة ممفيس في الولايات المتحدة الأمريكية، عندما قُتِل في ظهيرة صيفية، ثلاثة من الأصدقاء الذين لم يتجاوزوا الثامنة من العمر، قرب نهر صغير، كانوا يقودون دراجاتهم الهوائية بجواره، وتَمَ التَمثيل بجثثهم بطرق مُروعة. بعد أيام من الجريمة، تم القبض على ثلاث من المراهقين، من أبناء المنطقة نفسها، وتم توجيه تهمة القتل ل��م، وصدر بحقهم عقوبات تترواح بين الإعدام والسجن مدى الحياة. هذه بداية القصة فقط، فالاهتمام الإعلامي الكبير سيبدأ بعد الحُكم، عندما تصدى مخرجون أمريكون لمهمة التحقيق في الجريمة، النتيجة كانت مجموعة من الأفلام التسجيلية المثيرة للجدل، والتي قادت الى حركة اجتماعية للدفاع عن المتهمين، تعد الأشهر في الولايات المتحدة الأمريكية في العقود الثلاث الأخيرة، فالمتهمون تحولوا الى رموز غريبة، في مجتمع تتضاءل فيه الحركات الشبابية الفرديّة، ويتجه بحزم للتضييق على المختلفين عنه.
من الذي سبق الآخر؟ هل تناولت السينما التسجيلية الجريمة، بسبب الإهتمام الإعلامي والشعبي بها، أم السينما التسجيلية كانت هي نفسها، من صَبَّ الزيت على النار المُشتعلة ؟ من الصعب الحصول على إجابة سريعة، فالأمر يستلزم استطلاعا دقيقا بين مجموعة المهتمين بالجريمة. قناة ” HBO” الأمريكية كانت السباقة، فمنحت التمويل للمخرجين جو برلينغير وبروس سينفسكي، لإخراج فيلم تسجيلي بعنوان “الفردوس المفقود” في عام 1996. الفيلم هذا سيتحول الى سلسلة، ستعود كل بضعة سنوات، لتزور الجريمة مُجدداً، متفحصة المُعطيات الجديدة التي تظهر على سطح الأحداث كل عام تقريباً، فعُرض في عام 2000 الجزء الثاني منها (الفردوس المفقود.. الإكتشاف)، وفي عام 2011 الجزء الثالث (الفردوس المفقود.. الأعراف)، والأخير، نال قبل عامين على ترشيح جوائز الأوسكار في فئة الأفلام التسجيلية.
لا تَغفل المخرجة الأمريكية امي ج. بيرج في فيلمها الجديد، الدور الذي لعبته سلسلة “الفردوس” التسجيلية، في كشف بعض ملابسات الجريمة، فتُشير للسلسلة، وتقدم مشاهد سريعة منها، في فيلمها “غرب ممفيس”، والذي عرض هذا العام، لينضم الى مجموعة الأفلام التسجيلية التي تناولت الجريمة. لكن المخرجة تأخذ مساراً خاصاً في التحقيق، فتعود الى بدايات الجريمة، وتستعيد مجدداً التفاصيل، التي يقشعر لها الأبدان، لطرق التمثيل بالأطفال، ثم تواصل بحثها المُفصّل، الى أن تصل الى عام 2011.
التفاصيل التي لم تستطيع سلسلة “الفردوس” على ضمها لأجزائها، كانت من نصيب فيلم “غرب ممفيس”، فالأخير قَدَمَ مقابلة مع المخرج النيوزلندي المعروف بيتر جاكسون ( مخرج سلسلة ملك الخاتم)، والذي انضم مبكراً الى الحركة الجماهيرية للدفاع على المتهمين. كذلك سيقدم فيلم “غرب ممفيس” اللقاء الجماهيري الكبير الذي عقدته جمعية الدفاع عن المتهمين قبل بضعة أعوام، وتحدث فيه مشاهير، منهم النجم السينمائي جوني ديب، الذي قرأ رسائل أرسلها احد المتهمين (داميان إيكولز) من زنزانته، الى خطيبته، والتي تَعرف عليها بعد الحكم عليه، وتزوجها بعد سنوات من سجنه.
ما الذي دفع مشاهير وناس من مختلف الطبقات الإجتماعية للدفاع عن متهمين بجريمة مقززة ؟ فيلم “غرب ممفيس” لا يطرح أسئلة مباشرة عن الدوافع، لكن اللقاءات ستكشف إن المتهم داميان إيكولز، هو الذي سيطلق ذلك الغضب المكتوم عند كثيرين، تجاه ما يرونه من تغييرات حادة في مجتمعهم. فداميان إيكولز المنطوي على ذاته، والذي يحب الموسيقى واللباس المختلف، يُشبه مُعظم الذين دافعوا عنه من الفنانين والناس العاديين، وكان بالإمكان، وحسب وصف جوني ديب، أن يكونوا هم أنفسهم ضحايا للنظام الإجتماعي، الذي لم يَعد يُطيق التعامل مع الأفراد المختلفين والذين يسيرون عكس السائد إجتماعياً.

يعود الفيلم التسجيلي الطويل زمنياً، الى مجموعة الثغرات التي تضمنتها المحاكمة وقتها، وكيف إن الحكم استند على اعتراف أحد المتهمين بالجريمة، رغم أن هذا الأخير يعاني من تخلف عقلي بسيط، ورغم أن الشرطة لم تَعثر وقتها على أي آثار للحامض النووي للمتهمين في موقع الجريمة. بعد ذلك يتجه الفيلم، الى التحول المُهم في مسار الحكاية، عندما وجهت واحدة من أمهات الاطفال، الإتهام الى زوجها بقتل الأطفال الثلاث، وهي الإتهامات القائمة لليوم.
مع الاهتمام بتفاصيل الجريمة، سيخصص الفيلم دقائق طويلة للسيدتين اللتين ارتبطا عاطفياً باثنين من المتهمين. هما من الذين جذبتهم المحاكمة وأغضبهما الظلم الذي تعرض اليه المتهمين، لتبدا المراسلة مع إثنين منهم، المراسلات قادت الى علاقات عاطفية انتهت بالزواج. سيمنح هذا الجانب من الفيلم فرصة للتدقيق في الجانب الإنساني لإثنين من المتهمين، وخاصة داميان إيكولز، الدائم التفكير بحال العالم، والقاريء النَهِم، الذي ألهم مئات وربما الآلف للوقوف في صفه، ودعم القضية معنوياً ومادياً.
الفيلم في جزء كبير منه، هو كولاج لعشرات المواد المصورة بتقنيات مختلفة، لكواليس المحاكمات، ولقاءات أجرتها محطات تلفزيونية مع المتهمين وعوائل الضحايا طوال العشرين عاما الماضية. هذا المزيج، والذي يغلب على الأفلام التحقيقية التسجيلية، سيقطعه مشاهد صُورت برويّة، خصيصاً للفيلم، لشخصيات من محيط الجريمة، وخاصة لواحدة من أمهات الأطفال، والتي يُمكن تتبع حياتها عبر المشاهد الصورية التي صورتها كاميرات التلفزيون والسينما في العقدين الأخريين. فيلم “غرب ممفيس” يُجرب أيضا مع مشاهد طويلة ساكنة لمحيط الفقر الذي تعيش فيه عوائل الضحايا لليوم، فينقل بحساسية جيدة ثُقل الوقت على العوائل المثكولة، والمتهمين على حد سواء.
لم تصل قضية “ممفيس” الى نهاية سينمائية درامية، فالمحكمة وصلت في عام 2011 الى تسويّة مُعقدة، تشترط إطلاق سراح المتهمين، باعترافهم بالجريمة، وإعتبار فترة السجن التي قاربت العشرين عاماً كعقوبة كافية. يوافق إثنان من المتهمين، فيما يرفض ثالثهم، لأن أي إعتراف تحت أي شروط، سيترك المجرم الحقيقي حراً على حسب قوله. بالنهاية يوافق ليخرج المتهمون الثلاثة، والذين يقتربون اليوم من منتصف أعمارهم، الى الحرية. ستكون كاميرا المخرجة امي ج. بيرج بانتظارهم، وسترافق داميان إيكولز بأيامه الإولى كرجل حُرّ، فيما يبقى لغز الجريمة الأصلية بدون حَل، ولم تقد كل الجهود التي قدمتها الأفلام التسجيلية الى كشف الفاعل الحقيقي، والذي ربما يعني إن السينما التسجيلية ستزور موقع الجريمة مجدداً في المستقبل.