بن محمود : قوة الفيلم الوثائقي في هدايا التصوير

محمود بن محمود من السينمائيين التونسيين المخضرمين الذي تنقل بين مدارس سينمائية مختلفة وتلقى تعليما أكاديما وهو الآن يدرس السيناريو في بلجيكا. منذ أكثر من عقد لم يخرج له فيلم سينمائي إلى النور وقبل الثورة التونسية بأيام خرج له فيلم الأستاذ الذي يطرح قضايا من أجلها ثار الشعب التونسي على الدكتاتورية. 

الكثير من الجمهور والنقاد السينمائيين العرب لا يعرفون الكثير عن ظروف إنتاج شريطك السينمائي الأخير “الأستاذ” فهل تتحدث لنا عنها؟
هذا الفيلم كتبته سنة 2008 وقدمته للدعم لدى وزارة الثقافة التونسية بعد أن أبدى منتج تونسي استعداده لخوض المغامرة والمشاركة في إنتاجه لأن الفيلم طابعه سياسي ويتحدث عن التعذيب أيام حكم الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة، ولم تكن هناك تقاليد في تونس لإنتاج مثل هذا النوع من الأفلام، لكن لجنة الدعم السينمائي لم تجتمع للنظر في دعم الفيلم فبقي المشروع بين الرفوف، وبعد ذهاب وزير الثقافة الأسبق السيد محمد العزيز بن عاشور وفي عهد وزير الثقافة الذي جاء بعده وهو السيد رؤوف الباسطي اجتمعت اللجنة وأبدت بعض التحفظات عليه وطلبت موافقة سياسية على تمويله بيد أن الوزير قرأ سيناريو الفيلم بنفسه وتحمل مسؤولية دعمه ماديا، ورغم ذلك فإن وزارة الثقافة عطلت تصوير الفيلم بعدم منحه رخصة للتصوير في سنة 2010 بدعوى مخالفة الخطة المالية لإنتاج الفيلم. لكننا كنا نعرف أن وزارة الثقافة هي التي تراجعت عن التزاماتها معنا فحدثت ضجة إعلامية غطتها قناة الجزيرة في وقتها فتراجعت وزارة الثقافة ووافقت من جديد على “ميزانية” الفيلم فمنحنا رخصة التصوير، لكن الفريق التقني وطاقم الممثلين الذين شاركوا في إعداد الفيلم كانوا قد انصرفوا إلى فيلم آخر بعد تعطل المشروع فلما سمعوا بالترخيص له بالتصوير طلب الجميع مني انتظار ربيع سنة 2011 لتصوير الفيلم لكن زوجتي البلجيكية ألحت عليّ بالإسراع بتصوير الفيلم وكأنها كانت تستشعر اندلاع الثورة التونسية في نهاية سنة 2011 وقد تم الشروع في تصوير الفيلم وتعويض الفنيين والممثلين بشكل سريع وانتهى التصوير “الماراثوني” خلال أيام قليلة كنا نشاهد فيها المظاهرات وهي تتزايد في منطقة قفصة بالجنوب التونسي بعدما أحرق الشاب التونسي محمد البوعزيزي نفسه يوم 17 ديسمبر 2010 خلال قيامنا بتصوير بعض مشاهد الفيلم.

سمعنا أنه حدثت “طرائف” سياسية خلال تصوير هذا الفيلم؟
فعلا ولعل من بين الطرائف الكثيرة التي حدثت خلال إنتاج هذا الفيلم أنه في أحد أيام التصوير وجدت أن جميع الممثلين البدلاء قد انصرفوا عنا فأسرع فريق الفيلم إلى استبدالهم بحوالي 80 شابا من خريجي الجامعات العاطلين عن العمل فلما وجد هؤلاء أن الفيلم يروي أحداث الإضرابات والاعتصامات التي حدثت في تونس سنة 1977 خلال تأسيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان فرحوا كثيرا وتحمسوا للعمل معنا بمقابل زهيد جدا لأن البلاد كانت وقتها تموج بالاعتصامات والإضرابات الحقيقية.

هل تعتقد أن السلطات التونسية قبل الثورة سمحت بتصوير فيلم “الأستاذ” لأنها كانت تريد استغلاله لأنه كان يفضح القمع في عهد بورقيبة؟

 أنا مقتنع بأنه من المعقول القول بأن السلطة السياسية قبل الثورة كانت تريد استغلال هذا الفيلم وتوظيفه لصالحها من أجل أن تقيم الدليل للتونسيين والعالم على أن تونس آنذاك ليس فيها استبداد وأن فيها مساحات للحرية وأن المبدعين غير مقموعين وأن المواضيع السياسية غير محظورة، لكن من غير المعقول القول بأن السلطة السياسية قبل الثورة كانت تريد توظيف الفيلم ضد فترة حكم بورقيبة أو استهدافه من خلال هذا الفيلم.

أنت تعتبر من رواد “مدرسة النص” في مجال السينما فهل مازال النص فعلا هو الأساس في العملية السينمائية أمام التطور التكنولوجي الهائل؟

أنا أمتلك وعيا حادا بأهمية النص السينمائي وأُدرِّس هذه المادة في الجامعات البلجيكية، وقد نشأت تحت تأثير “الموجة السينمائية الجديدة” خلال سبعينات القرن الماضي التي تولي أهمية أكبر للصورة والإخراج والأداء على حساب السيناريو، لكن مع بداية الثمانينات عدت إلى الاهتمام بمفهوم السرد السينمائي أو “الصنعة السينمائية” وهو ما يشغلني إلى اليوم. وما ينقصنا فعلا اليوم هو الاهتمام بالنص لأن الولع بالتكنولوجيا في تصوير الأفلام لا يعني شيئا باعتبار أن تلك التكنولوجيا متوفرة لكل السينمائيين لكن النص ليس كذلك. وعموما فإن النص السينمائي الجيد هو الضمانة الأولى لنجاح الفيلم، ولا يمكن لإخراج ممتاز أن يغطي على نص رديء ولا يمكن لنص رديء أن ينتج عنه إخراج جيد. والأميركان احتلوا العالم السينمائي بإتقانهم صنعة السرد السينمائي زيادة على الصورة والاستعراض والتمويل الكبير والإخراج المبهر. إن مشكلتنا الأساسية هي غياب النص السينمائي الذي يحكي سردا وقصصا تشد الناس إلى السينما وليست مشكلتنا في غياب التمويل أو نفور الناس من السينما فقط.

محمود بن محمود

وما هي مشاكل النص السينمائي في السينما العربية؟
هناك مرحلتان يمر بهما النص السينمائي ضرورية لكننا في تونس مثلا وفي غيرها من البلدان العربية لم نعترف بهما حتى الآن لأن المخرجين يسعون وراء الدعم المالي وليس وراء جودة النص وبالتالي جودة الفليم السينمائي. المرحلتان هما مرحلة الإعداد أو كتابة النص وتحويل القصة إلى مشاهد قابلة للتصوير السينمائي ثم مرحلة الإنتاج، وللأسف فإن السينمائيين لا يعرفون أنه بالإعداد الجيد للنص فإنهم يضمنون أنه سينافس غيره بجدارة للحصول على تمويل جيد له وهو ما يعني إنتاجا لذلك الفيلم في ظروف جيدة وبالتالي نجاحا ماليا وفنيا مضمونا له.
إن كتابة النص هو بمثابة “حمل” حقيقي ففكرة الفيلم تبقى تختمر في الرأس وفي المشاعر لمدة أشهر وربما أكثر لكن عندما تكتمل الحبكة السينمائية في لحظة ما يكون “الوضع”. والولادة عملية مرهقة حيث يصبح من الممكن كتابة نص فيلم في أكثر من 100 صفحة مثلا في أيام قليلة، وهنا أريد أن أذكر طرفة عجيبة وهي أن الكاتبة المعروفة أغاتا كريستي كانت تكتب قصصها في حوالي 300 صفحة خلال 3 أيام فقط وكانت بسبب ذلك لا تنام ولا تفعل شيئا غير الكتابة لأن كل شيء اكتمل في ذهنها ولم يبق غير “وضع” ذلك على الورق. وبعد هذه المرحلة يأتي دور المنتج الذي يطّلع على النص فيقرر أن مشروع الفيلم خرج من طور الإعداد إلى طور الإنتاج.

هل يمر الفيلم الوثائقي بهذه المراحل نفسها أي الإعداد والإنتاج؟
لا يمر الفيلم الوثائقي بهذه المراحل أو على الأقل بنفس الدرجة، لأن قوة الفيلم الوثائقي تكمن في “الهدايا” التي يحصل عليها المخرج خلال عملية التصوير، والفرق شاسع بين النص الأول والتجربة الميدانية التي يخوضها المخرج مع المشاركين في الفيلم لأنهم ليسوا ممثلين ولا يوجد نص يتحكم في أدائهم بل هم من يتحكمون في مسار الفيلم ويفرضون تعديل نص ذلك الفيلم الوثائقي، وليس تغيير مساره العام أو الغاية النهائية فيه طبعا، في كل مرة يقدمون فيها شيئا جديدا غير متوقع لا في النص ولا في ذهن المخرج. إن الفيلم الوثائقي يتعرض لـ”رياح” من كل جانب وهو يخسر في بعض الأحيان شيئا من مكوناته الموجودة في النص لكنه يربح دائما “هدايا” تأتيه خلال عملية التصوير، ولا يوجد أي سيناريو لفيلم وثائقي يهرب من هذه المعادلة، كما يجب على ممول الفيلم الوثائقي الإقرار بتلك التعديلات والتغييرات ومتابعة التمويل بحسب ما تقتضيه التحولات التي تحدث في الفيلم لأن ذلك من طبيعة الوثائقي نفسه.

أستاذ محمود أنت مخرج لأفلام روائية وأكاديمي ومخرج لأفلام وثائقية وكاتب متخصص في السيناريو فهل هناك حدود فاصلة بين الروائي والوثائقي في مستوى اللغة السينمائية؟

ليس هناك فرق كبير بين لغة الوثائقي ولغة الروائي سينمائيا لكنهما يتبادلان التأثير والتأثر، وأنا شخصيا أرى أن الفيلم الوثائقي ساعدني كثيرا في إخراج الفيلم الروائي لكن العكس كان صعب التحقق، وأهمية تأثير الفيلم الوثائقي تكمن في أنه يعلّم المخرج كيفية التأقلم مع المتغيرات ليكون مرنا أكثر مع السيناريو الذي تم إعداده مسبقا للفيلم الروائي فيتم إدراج مادة جديدة لم تكن موجودة فيه سابقا وينفتح باب الارتجال بل وإعادة الكتابة أصلا إذا لزم الأمر.

هناك من يعتبر أن الفيلم الوثائقي “يقول الحقيقة” فهل هذا صحيح؟

لا هذا غير مقبول، لأنه ما دام المخرج يقدم الأحداث من زاوية خاصة يختارها وما دامت هناك خطة في المونتاج لتقديم حدث على حدث آخر أو إلغاء حدث ما أو التركيز عليه فعن أي حقيقة نتحدث إذن؟ وهذا ليس خيانة للحقيقة بل تصرف فيها.


إعلان