الرئيس عبر عدسات الحاشّية
لا يُشبه الفيلم التسجيلي الأمريكي “نيكسون خاصتنا” السواد الأعظم من الأفلام التسجيلية التي تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية. الفيلم الذي أنتجته القناة الإخبارية المعروفة “سي أن أن” ومن إخراج الأمريكية بيني ولين، هو بعيد كثيراً أيضا عن المواد التسجيلية التي تنتجها تلك القناة التلفزيونية الأمريكية، فهو أقرب في بنائه وجرأته الفنية، من الأفلام الاوربية التسجيلية منه للسينما الأمريكية، فالأخيرة وصلت بسبب تأثيرات التلفزيون الأمريكي، الى شكل فنيّ صار معروفاً بخصائصه وبنائه، كحضور المعلق الصوتي، وإرتكازه على المقابلات المباشرة، وإسهابه في الشرح، في مقابل تراجع الحضور المُبتكر للصورة وغياب التجريب الشكليّ والبنائي.
يَعتَمد الفيلم التسجيلي في معظمه على أفلام صورت بكاميرات 8 ملم، للرئيس الأمريكي المثير للجدل ريتشاد نيكسون، في فترة حكمه للولايات المتحدة الأمريكية، والتي امتدت بين عامي 1969 و 1974. صَور الأفلام ثلاثة من مساعدي الرئيس، من الذين رسموا سياسية الدولة في تلك السنوات. ليس من المعروف تماماً، الأسباب التي تقف وراء التصوير، فالأرشفة لم تكن وحدها الغرض الوحيد، خاصة مع المحدودية المعروفة للتصوير بكاميرات 8 ملم، كطول المادة المصورة المحدد، والذي لا يزيد عن 5 دقائق للفيلم، وغياب الصوت عن تلك الأفلام، الأمر الذي يُرجح دافع الترفيه، فالمساعدون، الذين كانوا يقضون أيام طويلة مع الرئيس في جولاته، وجدوا في تصويره، او تسجيل مشاهد كوميدية لكواليس فريق الرئيس، فرصة لقتل الوقت وإطلاق المُزحات، وكما تظهره بعض المشاهد المصورة.
هذه الأفلام الخاصة، حُبست لأكثر من أربعين عاماً في أدراج المخابرات الأمريكية (أف بي أي)، والتي إستحوذت عليها، بعد فضيحة “ويترغيت” الشهيرة، التي أجبرت الرئيس الأمريكي على تقديم استقالته في عام 1974. ليس من المعروف أيضا، لماذا قامت “أف بي أي” بمنع وصول هذه الأفلام الى الجمهور الأمريكي او الأعلام، فهذه الأفلام، والتي تشبه الأفلام المنزلية العادية، لا تتضمن او تكشف عن خبايا او أسرار عن الحياة السياسية الخاصة للرئيس الأمريكي وخاصيته، الأمر الذي يرجح إن قرار الحظر على هذه الأفلام لم يخضع لمراجعة حقيقية من قبل “أف بي أي”، وإن الحجز عليها، كان قراراً إدارياً صرفاً، شمل وثائق عديدة تخص الرئيس الأمريكي، منها تسجيلات لمكالمات هاتفية لنيكسون مع معاونيه، بثها الفيلم التسجيلي هذا، كجزء من تقديمه فترة الخمس سنوات المثيرة من الحياة السياسية الأمريكية.

يكاد فيلم ” نيكسون خاصتنا “، أن يكون نسخة امريكية من الفيلم التسجيلي ” السيرة الذاتية لنيكولاي تشاوشيسكو” للمخرج الروماني أندريه اوجيكا (عرض قبل عامين)، والذي قدم في ثلاث ساعات طويلة، سيرة الزعيم الشيوعي نيكولاي تشاوشيسكو، من تسلمه السلطة، وحتى محاكمته ومقتله في نهاية حكم الشيوعية في بلده. المفارقة أن الفيلمين يلتقيان، في الزيارة الشهيرة التي قام بها نيكولاي تشاوشيسكو الى الولايات المتحدة الأمريكية في مطلع السبعينات من القرن الماضي، والتي كسر فيها جليد العلاقات بين الأخيرة والدول الشيوعية الاوربية. لن تكون المشاهد التي يقدمها الفيلمان ذاتها، فكل منها، صوّر بكاميرات وزوايا مختلفة، فتلك التي تخص التغطية التلفزيونية الحكومية الرومانية وقتها، انشغلت بتعظيم صورة رئيسيها، وقيمه المناسبة، فيما كانت المشاهد الأمريكية التي صورها مساعدي الرئيس الأمريكي، مهتزة صورياً، غير مهتمة بتسجيل كل شيء، تدور، أحيانا بلا هدف واضح، في أجواء القاعة، التي شهدت المؤتمر الصحفي للرئيسين في البيت الابيض.
تَحفل السنوات الخمس التي صورها مساعدا الرئيس نيكسون بالأحداث، فهي تبدأ مع الإحتجاجات الشعبية الواسعة ضد حرب فيتنام، وتنتهي بفضيحة “ووترغيت”، عندما تَكَشَّفَ أن مساعدين للرئيس ( ومنهم إثنين من الذين صورا مادة الفيلم) ضالعين بالتجسس على مكاتب الحزب الديمقراطي (سينالان عقوبة السجن فيما بعد). في السنوات الخمس تلك، سينهي نيكسون حرب فيتنام، وسيزور الصين في رحلة تاريخية. يُكمِل الفيلم مادته الصورية عن الحقبة التي يتناولها، بمشاهد إرشيفية تلفزيونية، لكنه يتجنب المشاهد المعروفة من برامج التاريخ التلفزيونية، فيختار مثلاً المادة الأصليّة الغير مصححة لونياً، لمقابلات تلفزيونية مع مساعدين لنيكسون. كما يقدم الفيلم بعضاً من المكالمات الهاتفية السريّة التي أجراها نيكسون مع مساعديه، وفيها تتكشف جوانب من شخصيته، كالمحادثة التي ينتقد فيها مسلسل تلفزيوني أمريكي، لأنه يراه يُروج للمثليّة الجنسية، ومكالمة أخرى يتهجم فيها على الصحافة في بلده. هذا الوجه القاسيّ لنيكسون، يُقدم في الفيلم جنبا الى جنب، مع آخر للأب الحنون، والفخور بزواج ابنته، والذي تم في حفل خاص، صور أيضاً وقتها من قبل مساعدي الرئيس.
لا يَسير فيلما ” نيكسون خاصتنا ” او ” السيرة الذاتية لنيكولاي تشاوشيسكو ” على خطوط سرديّة واضحة، هما ينطلقان من بداية زمنية محددة ( تَسلم الرئيسان دفة الحكم ) وينتهيان مع انتهاء حكمها. بين البداية والنهاية، يبدو محتوى الفيلمين، وكأنه متاهة من الصور والانتقالات غير المفهومة بين المادة الأرشيفية التي اعتمدا عليها. تثير هذه النوعية من الأفلام، التي تُنجز بالكامل في غرف المونتاج السينمائي، ومعتمدة بالكامل أيضا على وثائق صورية صورت منذ زمن بعيد، أسئلة عن الهدف او الغاية من إعادة توليف صور ومشاهد الماضي بهذا الشكل.
إعادة تدوير الصور التلفزيونية والفيلمية، والذي تقوم به أفلام تسجيلية مثل ” نيكسون خاصتنا “، هو اشتغال مُتجدد جدليّ عن علاقة الصورة بالمشاهد، وإمكانية قراءة العصر الذي أتت منه الصورة، بإعادة معاينتها مجدداً، من دون ضغوط الآنية والموقف الجاهز. هذه الأفلام لم تكن لتنجز، لولا توفر خزين صوري كبير للشخصيات العامة، والذي بدأ في التراكم في النصف الآخير من القرن الماضي، ما يقوم به مخرجو هذه الأفلام هو طرح أسئلة ضمنية عن عصر الشخصيات التي يتناولها، مستعنين بإرشيف كبير جداً من الصورة، الذي وإن بدا في حالتي الرئيسي ريتشارد نيسكون و نيكولاي تشاوشيسكو، إنه تم التحكم فيه بصورة كبيرة، من قبل الأجهزة الإعلامية الرسمية المحيطة بهم، الا أن الفيلمين يكشفان عن لحظات إنسانية وأخرى قاسية غير معروفة عن شخصياتهما.