أفلام “أبو نضارة” عودة لاعبٍ غائب

لا يفرض مشروع “أبو نضارة” وجهة خاصة على مقاطع الفيديو/الأفلام التي ينشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعية، بل ينساق أكثر مع التيار الأعظم، الحراك السوري، بعد الثورة السورية، وقد أعيد الاعتبار لكلمة الناس وإن لم يُنصَفوا بعد، أو لم يحققوا ما خرجوا من أجله بشكلٍ كامل.
الكلمة لم تعد للنظام، وإن بقي مستمراً في الوجود حتى الآن، بل فوق ذلك: رغم “نجاحاته”. لقد زعزعت الثورة طريقة القول، ليس فقط كأسلوب، وشكل فني، بل هوَ تغير طال المسألة بكليتها، إلى درجةٍ تغيرَ فيها “القائلُ” عينه.
الرؤية الفوقية، التي كانت تسم نتاجات ما قبل الثورة، من كان “القائل” فيها هوَ “الخالق”، صاحب العمل، ربه، وإن ادعى في بعض الأحيان، تبني صوت الناس، أو القرب منهم، أو الانطلاق من “الانتماء” إليهم. كانت تلك الحالة أشبه بفصام يعيشه ذاك “الخالق”، لا يدرك كنهه، كما يمكننا أن نخمن ونقدر على الأغلب، كمصارع يلكم سراباً.
ببساطة كان سبب ذلك هوَ غياب الناس، عن الحلبة. الطرف الثاني في لعبة الملاكمة المشار إليها، كان غائباً. ستعيد الثورة وخروج الناس إلى المجال العام رسم ” اللعبة الفنية” مرة أخرى، بحيث يعود “الصانع” والمبدع، إلى سياق الانتاج الطبيعي من جديد. وستتوضح للجميع، أي كافة المشاركين في اللعبة، بمن فيهم نحن الآن؛ الكاتب ومن يقرأ، مدى ارتباط تغير الحالة الاجتماعية وأحادية السلطة، بتغير الأشكال الفنية، وطريقة “القول”، إلى درجة نستطيع فيها أن نقول، إن القائل –مرة أخرى- قد طالَ هويتَه التغييرُ.
سنلاحظ في الكثير من أفلام “أبو نضارة”، غالبيتها، أنها تعتمد، على “القائل” المرصود من قبل كاميرا، تعرف موقعها في لعبة ذات قواعد جديدة، لا يغيب فيها أي طرف غياباً مطلقاً. ولا تتجاوز حدودها في رسم الإطار العام، بقدر ما تندمج أكثر في شروط موقعها، وبقدر ما يتيح لها هذا الاندماج تحقيق ذاتها والتفاعل مع السياق الأعظم، الذي يعيد إلى الإيقاع توازنه.
لا يغيب أحدٌ عن أفلام “أبو نضارة”. سنرى أن للكاميرا حضورها، كما للمرصود/القائل، السوري “الجديد”، أي السوري الظاهر/الحاضر. كما أن للنظام حضوره، ولن تعدم ملاحظته (حضور النظام) في الإضاءة المنخفضة، أو في الصوت المحوّر لتمويه شخصية صاحبه، أو في إرباك يصيب الكاميرا جراء رصاصات ترى بريق اصطدامها بشيء ما، وأحياناً يكون النظام هوَ العلة الوحيدة لوجود بعض أفلام أبي نضارة، كفيلم البيضا (قرية البيضا في بانياس) وفيه لا نرى إلا القرية الجميلة وكيف كانت، ومن ثم وبسرعة، تداهمنا وجوه الموتى في المجازر التي ارتكبها النظام فيها، ولا يلبث “المقطع القصير” أن ينتهي. في هذا المقطع، أو الفيلم القصير، سيكون القائل، الذي نراه في أفلام “أبو نضارة” الأخرى: مقتولاً. في هذه “الومضة” التي تتكثف فيها حالتي الحضور والغياب بأشكالهما المتنوعة والمتناقضة، سينقسم كل من الحضور والغياب ويتوزع، على طرفين لا ثالث لهما بالتساوي، كل منهما “غائب”، وكل منهما “حاضر”. يحضر النظام، الغائب عن “المشهد”، بحضور آثاره، المعبرة عنها الجملة المذكورة في النهاية: “البيضا قرية سورية صغيرة زارها جنود الأسد بتاريخ 5/3/2013”. والجثث “الحاضرة” بكل “قوتها”ما هي إلا لأناس “غائبين”.
سوف لن نرى إذاً القائل كلي القدرة في هذه النماذج، ما يقابله في مصطلحات النقد وفي مستوى آخر، الراوي كلي المعرفة، هكذا تتغير هوية صاحب القول السينمائي، بأن تتغير تركيبته من خلال تدخل “أصوات” أخرى، تزداد مساحة الإنسان الحاضر هنا، على حساب العناصر الأخرى، ومن ضمنها، دور صاحب الفيلم القصير عينه في الصياغة العامة. فحتى عندما يحاول انتقاد الثورة يقول ذلك من خلال أحد أبنائها “المرصودين” وتجربته الشخصية فيها، كما في فيلم “سأخون ثورتي” الذي تتحدث فيه إحدى الناشطات عن عملية إعدام “لعوايني” قام بها الثوار لا ترضى عنها، أو فيلم “ليلة الانشقاق عن الجيش الحر” وفيه يحدثنا أحد الثوار عن أسباب عزوفه عن متابعة القتال على “خط الجبهة” وتحوله إلى العمل الإنساني.
لا يعني ذلك –طبعاً- أن الفيلم -في النهاية- لا يمثل وجهة نظر صاحبه هنا، وقوله، بل يمكننا الذهاب إلى ما هوَ أبعد من ذلك، لنؤكد أنه تحديداً “هنا” إنما يمثل الفيلم وجهة نظر مبدعه، تمثيلاً خيراً من الأشكال السابقة في “القول”، بالتخلي عن بعض سطوته لصالح “لاعب” كان غائباً حتى وقت قريب.