روسيات ضد حكم بوتين

أثار اعتقالهن ثم سجنهن، غض��اً كبيراً بين أوساط المدافعين عن الحريات في اوربا والعالم. شخصيات عالمية مرموقة من عالم الفن والموسيقى تَصدت للدفاع عنهن، لإبقاء الاهتمام الإعلامي بقضيتهن مستمراً. المطربة الأمريكية مادونا وشمّت إسم الحركة الفنية التي ينتسبن إليها على جسدها، في حفلها في العاصمة الروسية موسكو قبل عامين. إنهن فتيات حركة “بوسي رايت” الروسية، اللواتي حركن لوهلة ركود المجتمع الروسي، وتَحَديّن السلطة الرسمية، وصرخن في أغانيهن الثورية ضد فاشية حكومتهن وتضييقها الممنهج على المعارضين والأصوات المختلفة. فيلم “بوسي رايت: صلاة للبونك” للمخرجين مايك ليرنر ومكسيم بوزدورفيكين يُقدم التفاصيل المتوفرة إلى اليوم عن قصة هذه الحركة النسويّة، فينطلق في أحداثه من قبل 6 أشهر من اعتقالهن، ثم يرافق محكمتهن العلنية، وينتهي بعد أشهر من انتهاء تلك المحاكمة، ومن دون أن يقدم النهاية السعيدة، التي ينتظرها كثيرون من السينما !

الفيلم التسجيلي هذا، والذي كان قد فاز بجائزة السينما العالمية في الدورة الأخيرة من مهرجان صنداس السينمائي، هو من إنتاج قناة “HBO” الأمريكية، والتي تعد من أهم منتجي الافلام التسجيلية في الولايات المتحدة الامريكية، وإحدى المنصات المهمة لعرض هذه الأفلام في أمريكيا والعالم، اذ تستحوذ الأخيرة على فترات بث ثابتة من البرمجة التلفزيونية للقناة التي تبث عبر الكيبل في أمريكا وكندا وعدد كبير من دول قارة أمريكا الجنوبية، ومؤخراً وصلت بخدماتها الى مجموعة من الدول الاوربية.

رغم أن فيلم ” بوسي رايت: صلاة للبونك ” مُعد أصلا للعرض التلفزيوني على شاشة قناة “HBO”، إلا أنه لا يلتزم بأسلوب التلفزيون، والذي يميل كثيراً للشَّرح والتفصيل، فالفيلم مُقتصد كثيراً بشروحاته، ويغيب عنه صوت المعلق، هو بالمقابل يُقسم الحقبة الزمنية التي يغطيها الى عدة أقسام، سنعرف من أين تبدأ وتنتهي، من عبارات مختصرة توضع على الشاشة، عدا ذلك، سيعتمد الفيلم، على الصورة وتاثيراتها، وحميمية وقسوة الواقع الذي ينقله المخرجان مايك ليرنر ومكسيم بوزدورفيكين، من مواقع الأحداث، وخاصة، من قاعة محكمة الفتيات الروسيات الثلاث، والتي استأثرت على اهتمام إعلامي مكثف وقتها.

قبل غناء فريق “بوسي رايت” في الكاتدرائية الضخمة في قلب موسكو، والذي قاد الى القبض عليهن وبعدها سجنهن، كان للفريق صولات اخرى، مزجت بين الغناء والفن التعبيري الصّادم. يقدم الفيلم التسجيلي مشاهد أرشيفية من سيرة الفريق في العام الذي سبق القبض على عضواته، كالوصلات الغنائية المفاجئة التي قدمنها في أماكن غير مألوفة في موسكو: فوق سطح “الترام” الخاص بالمدينة، في أسواق عامة. في تلك المشاهد، تصعد أعضاء الفرقة المشاغبات، بوجوهن المغطاة بأقنعة أنثوية بالوانها وتصميماتها ،على منصات مؤقته، لينطلق بعدها صوت الموسيقى هادراً، والكلمات كالطلقات. تنتهي تلك المشاهد الأرشيفية غالباً، بالشرطة تقبض على الفتيات وتفرق الجمع المحتشد. جرأة الحركة الفنية لن تقتصر على الموسيقى، فهي ستنظم نشاطاً مستفزاً، يقضي بالبحث على شرطيات روسيات بالزي الرسمي في أمكنة  عائمة، ثم مفاجئتهن بقبلات حميمة، وتصوير كل ذلك، ثم عرضه على شبكة الإنترنيت. هذا الشكل الصادم من الاحتجاج والذي لا يخلو من المزاح، ليس غريبا على دول متحضرة، لكنه سيصطدم بقوة بالهيكلية المُعقدة للمجتمع الروسي.

لا تُفصح الشهادات التي سجلها الفيلم، لآباء وأمهات الفتيات الروسيات المحبوسات الثلاث، عن طفولات غير عادية، بل إن الفتيات كن يُعرفن بالخجل، قبل أن يحدث تغيير ما في حياتهن، دفعهن الى هذا الشكل الصارخ من التعبير. لن نعرف بالتحديد ماهية ذلك الحدث او الظروف التي قادت الى هذا التغيير، لكنه عندما يوضع في مقابل شهادات اخرى قدمها الفيلم، لأعضاء من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، والتي غلب عليها التطرف والكره، يقترب الفيلم عندها من نقل الظروف التي قادت للتشدد على طرفي الاختلاف، ويظهر التقسيم بين شرائح المجتمع الروسي اليوم، بين القديم والحديث، والتجديد والتقاليد، فالكاتدرائية، التي أثار الغناء فيها غضباً شعبياً كبيراً، أعيد بناؤها بعد انتهاء الحكم الشيوعي في أواخر عقد الثمانينات من القرن الماضي، وبعد أن أزالها النظام الشيوعي في بداية القرن الماضي، ليحل محلها لعقود مسبحا عاما للروس. الهِمّة التي أعادت بناء الكنيسة، وتُغذي الأفكار الوطنية والشوفينية وتضغط على الحريات العامة في روسيا، هي التي خَلقت المناخ لولادة حركات معارضة، بالحماسة نفسها.

تستأثر مشاهد المحاكمة العلنية للفتيات على وقت طويل من الفيلم التسجيلي، فهو سيقدم الشهادات الطويلة للمتهمات، ودخولهن وخرجوهن من القاعة، الممتلئة بالصحفيين الروس والأجانب. كاميرا الفيلم ستركز أيضا على الجمهور داخل وخارج المحكمة، والشَّد الذي سينشأ بينه، كالمشهد المعبر لفتاة روسية كانت ترتدي زي الفريق الغنائي، والتي تسلقت جدار السجن، ليتعقبها بالسرعة نفسها شرطي روسي شاب، او المشاهد التي تعقبت خطى كهنة وراهبات، وجدوا في المناسبة، فرصة لتوزيع المواعظ. الفيلم بهذا، يقتفي آثار أفلام تسجيلية متميزة، ببحثه عن بديل موازي، ببنية مختلفة، للصورة الإعلامية الشائعة التي كرستها التغطيات التلفزيونية لأحداث عامة. الفيلم يجد سريعا مساره  ونفسه الخاصيين، ويربط بين المشاهد التي صورها، مع مواد إرشيفية قليلة من التلفزيونات وأفلام الإنترنيت، ليعيد تقديم قصة الفتيات ، ضمن إطاراً لا يكتفي بالقصص الفردية بل يتسع ليطال مشهداً عريضاّ لروسيا والروسيين اليوم..


إعلان