حين تؤجل السينما فصل الخريف في أصيلة..

تعرف مدينة أصيلة في شمال المغرب (أنظر مقال الأسبوع الماضي) إيقاعات متعددة تجانسا مع فصول السنة. فهي مدينة مختلفة في فصل الصيف عن باقي الفصول حيث تستقبل فيه وفودا كبيرة من المغاربة في إطار ما يُعرف بالسياحة الداخلية بفضل شاطئها الواسع والطويل الذي يتربع عند حضن المدينة، إنها الفضاء الممكن للفئات الاجتماعية المتوسطة من أجل ممارسة حقها في العطلة بما تُتيحه من تسهيلات مالية وكذا بقربها من مدينة طنجة التي لا تبعد عنها إلا 30 كلم. حيث يمكن زيارتها مع الإقامة بأصيلة. يزورها المغاربة من مختلف الجهات. إذا كان الشاطئ هو العنصر الجذاب في هذه السياحة الداخلية فقد لعبت الثقافة والفنون دورا مركزيا في التعريف بالمدينة قبل ربع قرن من خلال موسمها الثقافي السنوي الذي ينعقد خلال فصل الصيف والذي كان يمتد سابقا طيلة فصل الصيف قبل أن تتقلص مدته في السنين الأخيرة. كما حقق الموسم الثقافي للمدينة مكتسبات في البنية التحية ذات أهمية في الفعل الثقافي والفني لا تتوفر عليها بعض المدن الكبيرة. تتحول أصيلة برمتها إلى معرض مفتوح بأوراش تشكيلة في الهواء الطلق حيث تتزين جدرانها بلوحات تعبر عن جميع المدارس القائمة في العالم، وفي ذات الوقت تحضر الكلمة الموزونة والمحكية إلى جانب الفكر والنقد والمساءلة العلمية فيها كلها مرورا إلى الرقص والغناء والموسيقى ليلا.

بعد فصل الصيف وقبله، تفرغ المدينة من حيويتها وثقافتها وفنونها لتختفي نهائيا من تقاسيمها لتتحول إلى مدينة شبح فارغة تتوقف فيها الحركة لتصبح ملك سكانها الأصليين بسكونهم وتأملهم. وكأن المدينة تفضل أن تكون عطلتها في فصل الخريف كالطبيعة نفسها لتغيير ملامحها. لكن إيقاع المدينة تغير هذه السنة بقادم جديد إليها المتمثل في التظاهرة السينمائية للفيلم الوثائقي تحت عنوان “أوروبا ـ الشرق” التي انعقدت دورتها الأولى في لُب فصل الخريف لإعادة أو استمرار الحفل الثقافي/الفني بهذه المدينة لإزالة تلك النمطية التي ارتبطت بها وطرد منها الخمول الذي يغلفها في مثل هذه الفترات وكأنها مدينة لا تعرف الحياة إلا في فصل الصيف، فقد تأكد بأنه بالإمكان أن تعيش إيقاعا جديدا سواء في الخريف أو الشتاء أو الربيع إذ لكل فصل من الفصول محتواه الثقافي.

أعاد مهرجان أوروبا ـ الشرق للفيلم الوثائقي الحياة إلى أصيلة بنكهة خاصة وسمحت أيضا للجمهور المحلي باكتشاف السينما الوثائقية حيث وفرت له إمكانية الخروج من دائرة البيوت نحو الفضاءات السينمائية التي خلقها المهرجان سواء كفرجة أو ثقافة بالنقاش حول الأفلام وفي الندوات. ومكنت بعض التلاميذ المدارس المحلية بالمدينة من المساهمة في الورشات التي تفتح لهم الأجزاء الأولى من  أسرار فنون السينما لتخلق عندهم شغب المعرفة في المستقبل في هذا المجال الفني والثقافي. ولوحظ أيضا خلال أيام المهرجان إقبال النساء على العروض، منهن في سن متقدم، وهو ما حَوََّلَ المهرجان للقاء حميمي في مدينة حميمية.

أراد المهرجان أن يكون ثقافيا في الدرجة الأولى ولكن في ذات الوقت خلق أنشطة مُحفزة في برامجه لتشجيع السينما الوثائقية من خلال مسابقة رسمية بجوائز رمزية مهمة. ترأس لجنة التحكيم المخرج المصري أحمد محفوظ نوح، وهو أيضا مدير قناة الجزيرة الوثائقية التي قدمت دعما مهما للمهرجان، حيث أسفرت نتائج هذه اللجنة عن الجوائز التالية:

كتاب د عبد الله أبو عوض

• الجائزة الكبرى وهي جائزة قناة الجزيرة الوثائقية بقيمة 25000 درهم التي ذهبت إلى الفيلم الفرنسي “التطهير العرقي” للمخرج غيوم دريفوس
• جائزة لجنة التحكيم كانت من نصيب المخرج الإيطالي الشاب جيسيبي كارييري عن فيلمه “في رحم سريبينكا” (أنظر قراءة لنا في الفيلم صدرت في موقع الجزيرة الوثائقية في شهر أبريل الماضي) وقيمتها 10000 درهم
• أما جائزة السيناريو فقد حصلت عليها المخرجة المغربية الشابة سناء اليونسي عن فيلمها المتميز “أربعون سنة من العزلة”، قيمتها 5000 درهم
• جائزة الإخراج هي لصالح فيلم “عندما يأتي الظلام” للمخرجة اللبنانية سينتيا شقير وقيمتها 5000 درهم
• وجائزة النقد التي بدورها لا تتجاوز 5000 درهم هي من حق المخرج الجزائري العربي بن شيحة عن فيلمه “الجزائر ودوغول والقنبلة”.

عرف اليوم الثاني من المهرجان انعقاد الندوة الفكرية تحت عنوان “الاستشراق في الفيلم الوثائقي” وهو موضوع جد مهم وفي غاية الأهمية إلا أنه لم يحض بما يستحقه من التحليل والدراسة والنقد والبحث حيث سادت حوله الخواطر والانطباعات ورؤوس الأقلام في صيغ أسئلة عامة دون التعمق فيها أكاديميا ما دام المهرجان يريد أن يكون له هذا البعد الأكاديمي. لذلك من المقترحات الملحة للمهرجان أن يكون عنوان الندوة نقطة دائمة في المهرجان بالدورات المقبلة – إذا قبل المنظمون مني هذه الملاحظة – للعودة إلى نفس الموضوع بجدية أكثر وبتحديد عناصرها مسبقا واعتبار ندوة هذه السنة (الأولى) مجرد توطئة للمستقبل تحدد خريطة الطريق للنبش في خباياه التي مازالت عصية على الكثيرين حيث يقع الخلط حتى في المفاهيم ومنهجية تناوله (ولا بأس من توفير ترجمة محترفة في مثل هذه المواضيع الحساسة لأنها لا تتطلب فقط نقل الكلام وإنما محتواه الأصيل).

وواكب المهرجان أول إصدار له من لدن الجمعية المنظمة له “الجمعية المغربية للدراسات الإعلامية والأفلام الوثائقية” بعنوان “مقدمة في صناعة الفيلم الوثائقي” وهو للأستاذ الباحث عبد الله أبوعوض المنسق العام للجمعية والمدير المالي للمهرجان. كتاب رحل في تاريخ الفيلم الوثائقي والتعريف به ليصل بنا إلى عصرنا الحالي الذي ظهرت فيه تجليات وثائقية متعددة بفضل تبني التلفزيون لهذا الجنس السينمائي في علاقته مع الإعلام والتلفزيون والتخييل والفروقات القائمة في كتابة الفيلم الوثائقي.


إعلان