“قصة سورية قصيرة” مواجهة الرصاص والمباشرة
درويش درويش
من التجارب المبكرة بُعيد بدء الثورة السورية كان فيلم قصير بعنوان “قصة سورية قصيرة”. الفيلم مبكر أيضاً من ناحية التوجه نحو الخيار الإبداعي في صناعته مستقياً زخمه أيضاً من المواد الخام. تلك المواد التي راح السوريون أنفسهم يصورونها ليوثقوا الجرائم المرتكبة بحقهم، فتصبح دليل إدانة المجرم العلني الذي لا يخفي نفسه بدوره.
اختار صانعا الفيلم، داني أبو لوح ومحمد عمران، الرسم، رسم شخصيات “السوريين”، على قطعة ورق مقوى، الناس العاديون، ومن ثم “تحريك” هذا الرسم، لكن هذه المرة ليس كالتحريك العادي، بل باستخدام تقنيات “الستوب موشن”، “تقوم” الشخصيات من سطح الورق المقوى ثنائي البعد، لتقف رويداً رويداً، وتصبح في النهاية عمودية على السطح الأصلي، رافق ذلك غناء وموسيقا أوبرالية “بعيدة” عن المناخ الواقعي للناس المقصودين.
يبدو ذلك لوهلة كالهروب من “المباشرة”، التي تسود، أثناء لحظات التوتر القصوى، في المحاولات “الفنية” لمقاربة الواقع. عندما يكون للحدث سطوته المسيطرة والمرتفعة عن كل شيء آخر.
هكذا أجّلا دخول أول المشاهد المأخوذة من كاميرا الثوار، إلى ما بعد “قيامة” الشخصيات المرسومة، بما يحاكي فنياً نهوض الشعب السوري من ثباته نحو الحركة، وبما يحاكي أيضاً شكل التجمع في المظاهرة “السورية” عينها، يحرص صاحبا الفيلم على التركيز على الفردية في تصوير “حراك” الجموع، وهوَ ما يحسب لهذه التجربة، وهوَ من أهم عناصر الجمالية فيها.

إذ يتجلى ذلك بأن يبدأَ النهوضَ فردٌ واحد ليتبعه الآخرون، ليس دفعةً واحد، ولكن بتدريج محسوب إيقاعياً، ومن خلال التقطيع والكوادر التي تأخذ كل شخصية على حدة وتبرزها دون تواجد عناصر أخرى أو شخصيات أخرى في الكادر. دخول المشهد الواقعي المذكور آنفاً يأتي بعد أن يكتمل النهوض، ليصور ردة فعل النظام على المتظاهرين بإطلاق النار مباشرة عليهم، وليطلق متظاهر -والدم على يده- صيحته: “حسبنا الله ونعم الوكيل” بمرافقة الموسيقا الخلفية للفيلم. نتابع لقطات عُرفت وانتشرت في حينه، أهمها قمع مظاهرة “الزبلطاني” في دمشق والمتظاهر الذي يفتح ذراعيه مواجهاً الرصاص بصدره العاري.
يبدو حرجاً أمر استخدام المادة الوثائقية في خطة كهذه، توجد “مسافة” كبيرة تفصل “المتجاورات” هنا، من حيث طريقة التصوير والرصد، إذ أن الاختلاف ليس فقط بين “التصوير” بالرسم ومن ثم “تحريكه” وبين الواقع المادي، بل هوَ أيضاً بين ما هوَ فني وينحو إلى التجريد وأحياناً إلى الرمزية المفرطة، وبين المادة التوثيقية البحتة، بما هي تسجيل لحدث واقعي، غير فني. من مخاطر هذا التجاور التسبب بفجوة تحدثُ جفوة وغربة، بين مكونات العمل نفسه من جهة وبين العمل والمتلقي من جهة أخرى. هذا ما سوف يسببه أيضاً الشعور بالقسرية الناتجة عن أي خلل يؤدي إلى الإيحاء بإلزامية هذا التجاور.
هذا التجاور تجاوزَ حدَه هنا عن التتابع مونتاجياً، ليتحول إلى تتطابق أو تراكب بدمج المشاهد مع بعضها، أو فوق بعضها، كما حصل بدخول القدم “العارية” لتدهس “الشخصيات” الواقفة، وتعيدها بقسوة إلى حالة ثنائية البعد، أي إلى الرسم المسطح السابق عينه، قبل بدء النهوض/الثورة، يحدث ذلك بالتزامن مع لقطة لمرور دبابة من دبابات النظام في العمق. هكذا يصوَّر القمع الذي تعرض له الشعب السوري بعد نهوضه، ليعزز لدينا التساؤل عن الخيار الفني في وضع المشهدين “مع” بعضهما، ما يعيدنا مجدداً إلى السطوة المذكورة أعلاه.
بعد نجاح القدم في إعادة الشخصيات إلى حالتها المسطحة، لا تلبث هذه أن تعود مجدداً إلى النهوض، برغم ما أحدثته القدم من تشويهات في أجساد الناهضين. وسينتهي الفيلم بإطلاقة نار علينا من رجل أمن لتعتم الشاشة.
سيحسب لهذه التجربة جرأتها في تناول الواقع وما حاولت أن تنجزه من جمالية خاصة تميزها عن باقي التجارب، ولكنها ستُسَاءَل أيضاً عن مدى ثقتها بذاتها وقناعتها بما اختارته، وعن مدى تحررها من سطوة الواقع عليها.