“مي في الصيف”.. ولكن ماذا بعد!

أمير العمري

عرض في قسم “آفاق” بمهرجان فينيسيا السينمائي فيلم “مي في الصيف” للمخرجة الفلسطينية شيرين دعبيس التي سبق أن شاهدنا فيلمها الأول “أمريكا” قبل 4 سنوات في مهرجان كان حيث فاز بجائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما.
كان سر نجاح فيلم “أمريكا” ووصوله إلى المشاهدين، إعتماده أولا على سيناريو جيد، منسوج ببراعة، يدور حول شخصية رئيسية لسيدة فلسطينية  قررت أن تهاجر من عمان حيث كانت تقيم، إلى الولايات المتحدة مع إبنها. ويصور الفيلم ما تواجهه من متاعب وصدمات في أمريكا، ثم كيف تثبت أقدامها في النهاية بعد سلسلة من المفارقات التي تعكس إصرارها على تقديم الوجه الحضاري للشخصية الفلسطينية كمثال للحب والتسامح والصلابة والقدرة على التعلم وتطوير النفس واكتساب معارف جديدة في ذلك المجتمع الجديد.
كانت شرين دعبيس تعتمد على حماس وبراعة مجموعة من الممثلين تتقدمهم نسرين فعور التي قامت بالدور الرئيسي بشكل مقنع تماما، وأضفت على الفيلم تلك اللمسة المطلوبة، من المرح والفكاهة. وكان “أمريكا” فيلما يطرق باب السياسة (الصراع العربي الإسرائيلي، الموقف العربي من حرب العراق ورفض السياسات الأمريكية، العنصرية، العلاقة مع الآخر- اليهودي..إلخ) لكنه كان- أساسا- فيلما “إنسانيا” يكشف عن موهبة جديدة يمكن أن تقدم المزيد بشرط أن تمد التجربة الطموحة على استقامتها، ولا تخضع لضغوط من أجل تقديم تنازلات.

مشكلة الفيلم الجديد
أما فيلم شيرين دعبيس الجديد “مي في الصيف” (وعنوانه لا يحمل أي معنى له دلالة محددة) فهو على النقيض من فيلمها الأول، يعاني قبل كل شيء، من ضعف وترهل السيناريو، واحتوائه على الكثير من الحشو والتكرار واللف والدوران حول الفكرة، والتطرق إلى كثير من الأفكار التي لا تتم متابعتها دراميا جتى أن المشاهد يتساءل عن الحكمة أو المنطق من وجودها بالفيلم، إضافة إلى تعدد الشخصيات وتكاثرها وتداخلها على نحو مربك خاصة وأن شيرين لا تتمكن من السيطرة على الأداء كما كان شأنها في فيلمها السابق، خاصة وأنها قررت هذه المرة، عدم الإكتفاء بكتابة السيناريو وإخراج الفيلم، بل أصرت، أو ربما أقنعها البعض، بالقيام بدور البطولة فيه أيضا.
من حيث منطق السرد، يسير الفيلم في الاتجاه العكسي لفيلم “أمريكا”، فعلى حين يبدأ “أمريكا” بوصول بطلته الفلسطينية إلى الولايات المتحدة، يبدأ “مي في الصيف” بعودة بطلته “مي” من الولايات المتحدة إلى عمان حيث تقيم أسرتها المكونة من والدتها (تقوم بالدور هيام عباس) وشقيقتاها: داليا وياسمين، ووالدها المنفصل عن والدتها.
“مي” شابة في منتصف الثلاثينيات من عمرها تقريبا، كاتبة ناجحة نشر لها كتابها الأول (بالإنجليزية) أخيرا، حول الأمثال الشعبية العربية ومغزاها. وهي تعود إلى عمان لكي تتأهب للزواج من الشاب الذي تحبه (زياد) ولكن زياد لايزال في أمريكا ومن المنتظر أن يحضر قريبا لاتمام الزواج. ووالدة مي “نادين” (تقوم بالدور هيام عباس) لا ترحب بأن تتزوج مي من زياد (المسلم) فقد اعتنقت نادين المسيحية الأنجيلية منذ فترة، واصبحت تمارسها بحماسة بل وبنوع من التشدد. وهي تخشى أن تؤثر معتقدات زياد ومكوناته “الإسلامية” على العلاقة مع مي التي تبدو منطلقة لا تعرف قيودا، في حين ترفض مي هذه الوصاية، وتؤكد أن زياد شاب غير متزمت، وأنها ترفض التعصب أو الانحياز الديني.
تواجه مي في عمان، أول ما تواجه، مشكلة الطلاق الذي وقع قبل ثماني سنوات بين والديها. ونعرف أن والدها أمريكي كان يعمل في السفارة الأمريكية في عمان، وأنه تزوج بعد طلاقه من نادين، من امرأة هندية تصغره كثيرا في العمر لكنه- كما نلحظ- مازال يحن إلى حياته السابقة مع نادين، ومع تعاقب الزمن في الفيلم، سوف يستأنف الأب علاقته مع نادين بشكل سري خاصة بعد أن يصاب بوعكة صحية تلزمه فراش المرض في المستشفى، وهناك تتردد عليه نادين سرا في الليل، لكن الزوجة الهندية الحسناء تعلم بالأمر، لكننا لا نعرف ما الذي ستسفر عنه هذه العلاقة الجديدة- القديمة، كما تواجه مي مشاكل عديدة مع شقيقتيها اللتين تتهمانها بالتردد والعجز عن اتخاذ قرار بسبب الخوف، كما أنها حائرة، فهي متمردة ترفض الكثير مما تراه حولها، لكنها تبدو “غريبة” على الواقع الذي عادت إليه وفي الوقت نفسه ربما كانت تخشى أيضا من الارتباط بشخص ينتمي للثقافة الإسلامية السائدة وهي التي تخلصت منذ زمن، من قيود العقيدة الضيقة.

ولو كان الفيلم قد التقط هذا الخيط في شخصية مي وقام بتطويره (من خلال السيناريو) لربما وجدنا أنفسنا أمام فيلم أكثر إقناعا وتماسكا وإثارة للاهتمام، لكن ما يحدث أن مي سرعان ما تستغرق في علاقة عاطفية أخرى مع شاب آخر، تجد نفسها أكثر قربا منه من خطيبها، وتبدأ بالتالي في طرح تساؤلات عما تريده، وما إذا كانت تعرف حقا حقيقة مشاعرها، وينحرف الفيلم ليخرج ببطلاته- الشقيقات الثلاث- إلى ساحل البحر في العقبة، وإلى حمام السباحة في الفندق الفخم الذي يقضيان فيه العطلة وما يحدث هناك من مواجهة مع “داليا” التي تنكر في البداية أنها من المثليات جنسيا، ثم تقر بهذه الحقيقة في النهاية، وننتقل إلى مغامرة مي العاطفية مع الشاب الجديد، الذي تمارس معه الحب أيضا في مغامرة أخرى ليلية في الصحراء.
وتصبح كل هذه التفاصيل عبئا ثقيلا على بناء الفيلم بل تساهم في انحرافه فهي لا تندمج في صلب موضوعه- أوعلى الأقل، لا يتم استغلالها ومنحها دلالات ما، تضيف أبعادا خاصة على شخصية “مي” أو على سياق الفيلم. ويصبح الفيلم في ثلثه الأخير، أقرب إلى أفلام الدعاية السياحية للأردن بوجه خاص وكأنه يقول للمتفرج: ها أنت أيها القادم من الخارج إلى الأردن، يمكنك ان تتمتع بالحرية (حتى حرية ممارسة الجنس في الصحراء) واللهو على الشاطئ، واحتساء الخمر في الحفلات العامة.. دون أن تواجهك أي مشكلة حقيقية. هناك مشهد واحد في الفيلم لمي وهي تمارس هواية الجري صباح كل يوم، وبينما هي تجري في شوارع الحي الراقي الذي تقيم به في عمان بملابسها التي تكشف عن ساقيها، يقترب منها ثلاثة شبان في سيارة يضحكون.. فتشعر بالضيق وتقول لهم: ألم تروا ساقي فتاة من قبل!
هذا كل ما هنالك من مظاهر “مزعجة” في مجتمع عمان.. بل وعندما تذهب مي مع والدتها مضطرة، إلى الكنيسة الأنجيلية لحضور احتفال ما (فهي ترفض أصلا الاحتفالات الدينية)، تجد أن الجميع هناك يعرفونها ويرحبون بها بعد ان قرأوا كتابها وأعجبوا به. ورغم ذلك فهي لا تشعر بالتحقق وسط هذا الواقع.
وينتهي الفيلم بعد أن تفارق الشقيقتان الأسرة لاستكمال الدراسة خارج البلاد.. غالبا في “أمريكا” أيضا.. بينما تبدو “مي” أكثر حيرة عن ذي قبل. لكن المؤكد أنها لن تتزوج من خطيبها زياد.

حيرة البطلة والفيلم

تتعمد شيرين دعبيس الابتعاد تماما عن القضية السياسية.. قضية فلسطين وحياة الفلسطينيين في عمان، وتكتفي بتذكير المشاهدين فقط بوجود إسرائيل من خلال صوت طائرة عسكرية تحلق فجأة فوق الفندق الذي تقيم به الشقيقات الثلاث في العقبة. 
والحقيقة أن حيرة الفيلم تبنع من حيرة بطلته وحيرة مخرجته، فمن الواضح أن شيرين دعبيس تعبر هنا عن مشاعرها وتجربتها الشخصية، وتروي جانبا من حياتها مع أسرتها، إلا أنها تريد أن تطرق كل شيء وتقترب من كل شي: الصراع بين الأديان وبين العقائد والأصول العرقية (الهندية التي ترفضها شقيقتا مي، والأب الأمريكي الذي يعجز عن إقناع بناته بآرائه لأنه فقد ثقتهن أصلا بعد أن خان والدتهما مع امرأة أخرى)، والرغبة في التعرف على الذات، ولكن المشكلة أن هذه الأفكار كلها لا تضيف شيئا إلى الفيلم بل تضعفه وتصبح عبئا عليه وتجعل بناءه مفككا وهشا، يشتت المتفرج عن الفكرة الاساسية ويبعده عن التعاطف مع تلك الشخصيات التي تتحرك امامه في كل الاتجاهات، يحدث ذلك في غمرة الاهتمام من جانب المخرجة- المؤلفة، بتحويل الكثير من المواقف التي كان يمكن أن نخرج منها بفكرة
ما، إلى مجرد مشاهد للإضحاك أو للمبالغات الميلودرامية المفتعلة، بل والتوجه لتوظيف الخلفية العامة التي لاشك أنها أختيرت بعناية وترتيب، من أجل الدعاية السياحية، في سياق موسيقي يضفي ذلك الطابع الذي يغلف عادة المواد الدعائية المصورة ومسلسلات التليفزيون المضحكة.
ومن ضمن مشاكل الفيلم أيضا أن شيرين دعبيس الممثلة- تسقط بعد الثلث الأول من الفيلم- في الأداء النمطي، بل وتصبح كل تعبيرات وجهها واحدة.. تفتقد للحيوية والتنوع. ويلاحظ أن هناك إفراطا في التركيز على وجهها من خلال لقطات الكلوز أب. صحيح أنها تمتلك وجها جذابا وحضورا خاصا كان يمكن أن يستفاد منه، لكن فن الأداء التمثيلي شيء آخر.
جدير بالذكر أن الفيلم من انتاج قطري أردني لبناني أمريكي.


إعلان