عن قائمة بروكرست السينمائية … وأشياء أخرى
فجر يعقوب
ليست القائمة التي أدرجت من قبل على مواقع الكترونية وتنسب لنفسها أحقية التثبت من مكانة النقاد السينمائيين في العالم العربي و” أهميتهم” بحالة تحض على قراءتها من زاوية أنها تطرح شيئا مهما. هذا موضوع مضجر للكتابة عنه لاشك، ولكنه يتيح قراءة أحوال النقد والسينما معا من زاوية مواربة لم يفكر بها صاحبها نفسه.
لنعترف أولا أن السينما العربية ليست بخير، أو لنقل أنه ليس هناك كم انتاجي يفترض بالمشرف على هذا القائمة أن يسعى إلى استصدار حكم قيمة من خلال تصنيف النقاد الآن، لأنه في هذه الأحوال يفسح المجال لنوع افتراضي مكلف من الاقصاء وهو نوع ليس مسموحا به، ليس لأنه أسقط من حساباته أسماء قد تبدو له و لغيره فاعلة ومنشطة في أوضاع سينمائية مختلفة وليست مغرية كثيرا في واقع الحال للوقوف عليها والتباهي بها من خلال قائمة محبطة ربما لم يكن ممكنا أن تجد فسحتها الحقيقية في النشر لولا تداعيات العالم الالكتروني الذي سمح بهذه النوعية من الأحكام.
يكاد المرء يجزم هنا، أن بعض الأسماء التي حظيت ب” كرم ” المعدّ كانت تضحك في سرها، على نوعية التصنيف، فهي تدرك هشاشة الحالة التي تنتمي إليها، لأنه من غير المعقول أن يضع ” مؤلفها ” قائمة بأهم عشرة نقاد هزوا العالم السينمائي العربي بأدواتهم وكتاباتهم وبعض هذه الأسماء ماتزال عالقة في ” معراج ” لغة الضاد، وبالكاد يمكنها أن تغير من معصياتها على هذا الصعيد.

وإن بدا أن القائمة استوفت شروط الأحكام وبيّنت على أكثر من صعيد ثقافي واجتماعي أن هذه هي الأسماء التي يجدر متابعتها دون سواها، فإن ” صاحبها ” يجب أن يعي أنه يرتكب خطيئة مبيتة ضد السينما نفسها، فلايجوز اطلاقا التعثر من ( باب العثور ) بأسماء دون سواها لمجرد أنه لايستسيغ هذا أو ذاك، فأول درس في السينما يفصح عن نفسه أمام كل مجتهد هو الرحابة التي تتيحها أمام جمهورها ونقادها وصنّاعها على حد سواء، وإن تردد في أروقة ” النقد الضيق ” أن الأمور لاتبدو هكذا، فإن ثمة خلل هنا يتحكم بهذه الدروس التي ماتزال تتردد منذ أن اخترعت آلة السينما نفسها، حتى وإن بدا أن هناك شبهات، فهذا ليس مصدره إلا الضيق الذي يعبر عنه البعض حين يدّعي لنفسه، مالايمكن أن يحظى به، ليس بسبب وجود قوانين مرعية هنا، فالقانون الوحيد الذي لايسمح هنا بالاقصاء والالغاء والتهميش هو الرحابة الشاسعة التي يتيحها الشريط السينمائي حين يدور في العتمة، فتطل تلك الأمداء الواسعة التي لايمكن نكرانها أو تجاهلها بغض النظر عن طبيعة الأسماء المرافقة، وهي ليست فن مماحكة أو ادعاء هنا، مع ملاحظة أن معظم مايكتب لايتعدى هذا الواقع الانشائي الذي يتغزل به صاحب القائمة، ناهيك عن خطل تدعيه هذه القائمة لنفسها حين تقوم بعملية خلط مقصودة لأسماء بعينها، على أن يقوم صاحبها بحركة أخيرة محسوبة حين يسقط اسمه منها مدعيا نسيانه فيما هو يدرك تماما أنها لعبة غير جديرة بالقائمة أو صاحبها الذي يفترض سلفا علو شأنه النقدي بين أقرانه، وهو شأن لانحسب أن ثمة من ينافس عليه، فإن كانت السينما العربية بمثل هذه الأحوال من التردي والعجز ،والكتابة من حولها تعيد ” علك ” ماتنتجه بعض الصحف الفرنسية أو الانجليزية التي تجري ترجمتها على عجل، فإن الانتساب لها يصبح غير ذي شأن، فالعالم الرقمي على وسعه يبدو أحيانا غير مهم أو هو غير جدي إلى الحد الذي يسمح بمباهاة من أي نوع، ذلك أن القوائم التي يمكن أن تحاكي شأنا ثقافيا كثيرة ويمكنها أن تسقط من حساباتها من تشاء وتضيف إليها من تشاء.
هل هي فلسفة النقد السينمائي اذن التي تتيح للبعض التعالي على وظيفة السينما نفسها حين تسقط من حساباتها سعة الأفق وقيمة الادراك التي تتعدى القيمة التي ينجر إليها البعض من باب التهميش المعتاد في الأحوال الثقافية العربية ؟
ليس الأمر كذلك بالتأكيد. الفلسفة تفترض عمقاً أكبر لاتجد القائمة نفسها فيه أو متربعة عليه. ليس هنا السر في ذلك، فالسينما بنك أسرار قد لايجد ” المشرف ” على قائمته سرا هنا أو سرا هناك، وقد يجد أشياء مريعة بين هذه الأسرار حين يتحول إلى جسارة مشابهة ،ولكنه من المؤكد لن يحاكي حتى جسارة قاطع الطريق اليوناني بروكرست حين يتحول إلى شبيه. السينما لاتقبل به. لاتعترف بهويته. قاطع الطريق يظل ينام على طويته بأن ينتج ضحية شبيهة به. السينما لاتعترف بهذه النهايات. لاتعترف بضحايا من غير جسارات نقدية حقيقية، أما تلك التي يظل ينسبها بروكرست لنفسه، فلاتغادر حكاية السرير الذي صنعه بيديه وازميله الحاد ورفعه إلى أعلى الجبل، فمن كان طويلا من ضحاياه قام بقطع ساقيه حتى يتلاءم مع السرير، ومن كان قصيرا يسهر على محاولة ” تطويله وتثويبه ومطّه ” ليصبح مساويا للسرير ، وأما إن كانت الضحية مطابقة للسرير، فإن قاطع الطريق اليوناني بروكرست في الأسطورة اليونانية كان يعتقد أن قائمته من الضحايا كانت تتطابق مع الحقيقة نفسها. هذا في أحوال الأسطورة ، أما في أحوال السينما العربية التي لا تبحث في الواقع عن قائمة بأهم عشرة نقاد سينمائيين هزوا عرشها فالأسطورة لاتقول شيئا في هذا الصدد. بعد ذلك يمكن قراءة القائمة ثانية ليكتشف المرء كم هي في حال مناسبة للجزع، ليس بسبب سوء أحوال السينما العربية التي يطل عليها البعض من بعض العواصم الغربية للنبش بين السيقان ، وانما لسوء القيمة التي يمكن أن تنضاف إليها مثل هذه القوائم العرجاء التي لاتصلح حتى لأحكام بروكرست نفسه إن أراد يوما محاكمة ضحاياه بطريقته السيئة الذكر!