اسمي هممم

عدنان حسين أحمد
لم يحظَ فيلم “اسمي هممم” للمخرجة الفرنسية أنييس تروبليه الذي عُرِض ضمن مسابقة “آفاق جديدة” لمهرجان أبو ظبي السينمائي السابع إلاّ على تنويه خاص وذلك ” لكسره جدار الصمت حول موضوع حسّاس ومحظور برؤية فنية أصلية” فيما ذهبت الجوائز الرئيسة لهذه المسابقة إلى أفلام أضعف بكثير من باكورة أفلام أنييس تروبليه القادمة من تصميم الأزياء إلى الفضاء السينمائي الساحر الذي نختبر فيه أرواحنا وعقولنا وعوالمنا الجوّانية المحجوبة عن الأنظار.
إنّ فيلماً من نوع “اسمي هممم” يعرّينا تماماً ويضعنا في مواجهة أنفسنا أمام المرايا مُظهِراً عيوبنا وشوائبنا من دون رتوش. كما أنه يكشف بالمقابل تجلياتنا الإنسانية النبيلة فنطمئن أن الحياة مازالت بخير وأنها تسير في الاتجاه الصحيح. ويمكن تلمّس هذا التناقض الفظيع بين وحشية والد سيلين “جاك بونافي” الذي كان يواقع ابنته الكبرى ذات الاثني عشر عاماً، ورقّة سائق الشاحنة الأسكتلندي بيتر “دوغلاس غوردون” الذي كان يغمرها بحنان غير مسبوق مُجسّداً دور الأب الحقيقي الذي كانت تفتقده سيلين وتتمناه أن يكون موجوداً في حياتها اليومية.

انتهاك المحارم
لا شك في أن أنييس تروبليه تنتقد زنا المحارم بشدّة، وتدينه كفعل إجرامي، وتعترف بوجوده كظاهرة مرَضية شاذة ينبغي معالجتها وإنقاذ الأطفال من مخاطرها النفسية الرهيبة، لكنها بالمقابل تكشف ملامح انهيار الأسرة الفرنسية خاصة والأوروبية بشكل عام، هذا الانهيار الذي يشوّه مظاهر العلاقة المقدسة بين الأب وابنته، والتي تفضي بالضرورة إلى تفكيك المجتمع، وتقويض منظومته الأخلاقية التي تضمن للأطفال والقاصرين حياة كريمة لا يعتورها المسّ والإيذاء والإساءة.
يحرّض هذا الفيلم من طرف غير خفي إلى خطورة البطالة وأهمية العمل الجوهرية في حياة الإنسان. فوالد سيلين عاطل عن العمل، وكسول، ولا يريد أن يحرِّك ساكناً كي يجد فرصة عمل تؤمن له حياة كريمة يشعر فيها أنه يقدّم شيئاً لزوجته وأطفاله الثلاثة الذي قد يصبحون كلهم ضحايا لشذوذه الجنسي الذي لا تُحمد عقباه. ففي الوقت الذي كانت زوجته تعمل طوال النهار في بار، كان هو يتحيّن الفرص كي يقود سيلين إلى الطابق الثاني ليشبع رغباته الجنسية الحيوانية، فيما يتخلى عن زوجته ولا يمارس معها الحُب إلاّ لماما. فلا غرابة في أن تبوح له بأن شاباً معجباً قد قال لها أنها ما تزال جميلة مُذكِّراً إياها بأنوثتها المهملة من قبل زوجها في الأقل، هذا الكائن الذي استفاق في داخله وحش مرعب فانحرف صوب ابنته القاصر التي لم تجتز عامها الثاني عشر بعد.
لم تعتقد سيلين أول الأمر أن ما يفعله والدها معها هو جريمة يحاسب عليها القانون، بل أنها كانت تظن أن الآباء يفعلون الشيئ نفسه مع بناتهم، لكنها ما إن أدركت هذا الخلل الفظيع حتى رفعت سبّابتها مهددة إياه بالقول: “إياك أن تمسّ أختي الصغرى”. فها هي تمارس دور الأم في الحفاظ صغارها، مثلما هي تطعمهم كل يوم، وتساعدهم في حلّ واجباتهم المدرسية. وحينما تسنح لها أول فرصة لزيارة الساحل الأطلسي في سفرة مدرسية حتى تهرب وتنفذ بجلدها مع سائق شاحنة أستكتلندي سيحبها مثل أي أب حقيقي يحنو على أطفاله حيث يطعمها السندويتشات طوال الطريق ويقتني لها الملابس وفراشي الأسنان، ويعاملها كابنته لاعنا والدها الذي كان يتحرّش بها كلما عنّ له ذلك.

الفقد والتعويض

يأخذ الفيلم شكل أفلام الطريق ولابد له أن يؤثث هذه المسافة الزمنية الطويلة التي تمتد من ساحل الأطلسي إلى مدينة بوردو فيسرد لها بيتر حادثة وفاة أسرته بحادثة مفجعة تركت أثراً كبيراً في نفسه، لكن الحياة يجب أن تستمر، وقد وجد في سيلين تعويضاً عن ابنته الراحلة فأغدق عليها كل أشكال الحنان الذي يكنّه في داخله. لقد اكتشف بيتر أن سيلين قد قيد متابعة الشرطة في كل مكان وقد رأى صورها على شاشات التلفزيون وفي الساحات العامة الأمر الذي يدفع أحد المواطنين الفرنسيين لأن يخبِّر الشرطة التي تتابعه وتقوده إلى التحقيق حيث تكشف التقارير الطبية أن سيلين غير باكر فتتوجه أصابع الإتهام إليه، لكنه يمتنع عن الكلام، بل يقرر في لحظة مفاجئة أن يهجم على سكين فتح ظروف الرسائل الموجودة أمام المحقق ويطعن نفسه في القلب كي يظل هو المتهم الأول والأخير في عملية فض بكارة سيلين، فيما ينجو الأب وهو الجرم الحقيقي الذي يأخذ ابنته إلى جدار الاعتراف كي يقول لها بأنه لن يؤذيها بعد الآن لذلك حملها على صدره مثلما كان يفعل ذلك في سنوات طفولتها المبكرة متجهاً إلى المنزل كي يبدأ حياة جديدة خصوصاً وأن الأسرة برمتها لم تعرف بأمر علاقته المشينة مع ابنته. فعلى الرغم من أن سيلين قد طلبت غير مرة من جدتها أن تأخذها معها إلى بيتها، لكن الجدة لم تضع في حسبانها أن ابنها كان يعتدي على حفيدتها بين أوان وآخر.

المقاربة النفسية
لم يسبق لتروبليه أن أخرجت فيلماً طويلاً لأن “اسمي هممم” هو باكورة أعمالها الروائية الطويلة ولم يكن في رصيدها الإخراجي سوى بضعة أفلام قصيرة تتراوح مددها بين ثلاث وخمس دقائق، فلاغرابة أن يلتفت إليها النقاد والمشاهدون على حد سواء. ففي هذا الفيلم قصة إنسانية محبوكة بقدر عالٍ من الدقة تكشف عن موهبتها الشخصية ككاتبه سيناريو أيضاً حيث اشتركت مع جون بول فارغو في كتابة هذا السيناريو المتقن ونجحت في تحقيقه سينمائياً بعد أن عززته بلغة بصرية جميلة شديدة التعبير. وربما منحها “الطريق” الذي سارت فيه الشاحنة من الساحل الأطلسي إلى مدينة معطيات جمالية أضفت على قصة الفيلم شعرية خاصة لا يمكن تفاديها أو إهمالها. فمشاهد الحطب المشتعل في الليالي الباردة، ورقصات الكابوكي اليابانية في الغابات التي تلتف إلى جانبي الشارع العام، والمقاهي والبارات التي تؤثث هذه الأمكنة كلها قد أسهمت بشكل أو بآخر في تعميق الخطاب البصري المتقن الذي يكشف عن مخرجة متمكنة من فنها، وتعرف ماذا تريد. بقي أن نقول إن المخرجة قد اعتمدت المقاربة النفسية للكشف عن دواخل الشخصيات برمتها، وربما وضعت شخصية الأب تحت المجهر من دون أن تنسى التركيز على شخصيتي سيلين الضحية، وشخصية بيتر الذي أعده ضحية مركّبة لأنه مات من أجل سيلين وأسرتها بشكل عام لأنه لم يرد لها أن تتقوض، وربما كان موته هو حياة جديدة لسيلين قبل أن انعطافة جديدة للوالد الذي قرّر أن يتوب مع سبق الإصرار.


إعلان