” جيش الخلاص”.. ومشاكل المتاجرة بالتخلف!
أمير العمري
مشكلة بعض الذين يتطلعون إلى عمل الأفلام في العالم العربي، أنهم يجدون أن الحكومات العربية لا تساعد الباحثين (ولو على سبيل الهواية) إلى التحقق من خلال تصوير أفلام سينمائية ولو باستخدام كاميرا الفيديو الرقمية، في الوقت الذي أصبح فيه كل من هب ودب، يرغب في أن يصبح “مخرجا”.
وأصبحت مهنة الإخراج هي المهنة التي تجتذب الشباب أكثر من غيرها من فروع العمل السينمائي، فلا يقابل المرء كثيرا من الشباب الذي يتطلع مثلا إلى أن يصبح كاتبا للسيناريو أو مهندسا للديكور أو مؤلفا لموسيقى الأفلام، لذلك تتكرر الأسماء التي تعمل في هذه المجالات، وتكرر أيضا نفسها كثيرا من فيلم إلى فيلم آخر، فالكاتب أصبح يكتب نفس السيناريو، مع تنويعات أخرى، أو يقتبس، أي يسرق بفظاظة من الأفلام الأجنبية دون أن يعتبر أحد أن ما يفعله سرقة بل “شطارة”، فنحن عموما “ثقافة” مجاملة أو متغاضية أو تفضل أن تتجاهل الحقائق على أن تواجهها بشكل علمي مواجهة صحيحة وتضع الظاهرة في إطارها، وتحللها وتناقشها، فقد أصبح لدينا ميل إلى تفضيل المصلحة والمنفعة الشخصية المباشرة، على الصدق وقول الحق، ولعل أفضل مثال على ذلك، ما ينتشر في قنواتنا الفضائية من برامج وفقرات حول السينما والنشاط السينمائي وإنتاج الأفلام، فكل ما يصور على شرائط أصبح يشار إليه باعتباراه فيلما، وكل من يعرف كيف يفتح فتحة العدسة أو يحرك كاميرا بالزووم، تارة إلى الأمام، وتارة أخرى إلى الخلف، أصبح مصورا كبيرا، وكل من يقف أمام الكاميرا أصبح نجما في المسلسلات التي تتوالد وتتكاثر بلا هدف أو منطق.. وهكذا!

ولكن نتيجة الرغبة المستمرة في أن يعثر من لا موهبة لهم على فرصة لاخراج فيلم وعرضه أيضا في أكبر المهرجانات السينمائية في العالم، أصبح هناك من الشباب العربي، من تخصص في البحث عما يمكن أن يجذب الممول الغربي، ومؤسسات الدعم السينمائية الغربية التي أصبحت أيضا ترحب بأي كتابة تلمح فيها رفض للمجتمع العربي وقيمه وأفكاره ومفاهيمه والتمرد عليها، بدون أن يكون وراء هذا الرفض والتمرد، فلسفة ما، أو فكر طليعي جديد يحمل لنا موقفا فنيا وفكريا جديدا، يدشن، ولو على استحياء، منهجا جديدا في السرد، أو شكلا جديدا للصورة السينمائية، بل لم يعد الأمر يتجاوز مجرد الرغبة في الصدمة والادهاش والإعلان الفج المباشر، عن الرفض، حتى لو بلغ هذا الرفض أي درجة من درجات التطرف.
سينما الإرهاب
في الثمانينيات مثلا كان الرائج على صعيد الغرب والتمويل الأجنبي (الفرنسي بوجه خاص) تصوير الفولكلور والشعوذة وختان الفتيات. ولذلك سادت هذه الصور والأنماط في الكثير من الأفلام التي كانت تنتج في بلدان المغرب العربي خصوصا، وبعض بلدان المشرق العربي أيضا. وفي التسعينيات ظهر المنجم الجديد الذي لا ينضب أمام الكثير من شباب السينمائيين الذي يتيح الحصول على تمويل غربي لأفلامهم، هذا المنجم تمثل في ظهور موجات الإرهاب باسم الإسلام، بعد ما جرى في الجزائر تحديدا.
وفي الألفية الثالثة بدءا من عام 2000، تخصص كثير من المخرجين العرب، ومنهم أسماء كبيرة مرموقة، في موضوع واحد فقط هو الإرهاب باسم الإسلام، ليس بحكم أهميته، بل لأنها أصبحت “الوصفة” المضمونة للحصول على فرص التمويل والتوزيع والعرض على شاشات كبرى المهرجانات السينمائية مثل كان وفينيسيا وبرلين. وأصبحت هذه المهرجانات ذات السمعة العالمية الكبيرة، ترحب بأي فيلم من هذه الأفلام التي تصور إرهابيا إسلاميا يرتدي تلك الملابس الخشنة، بسحنته المخيفة، يقيم مع مجموعة من النساء اللاتي يغطين أجسادهن بالملابس السوداء والنقاب وهن يتسللن تحت جنح الظلام إلى الكهوف التي يقمن فيها في أعالي الجبال، وأصبح تصوير العنف والقتل والانفجارات وعمليات الاختطاف والمساومات ومطاردة الارهاب في الجبال يشغل المساحة الأكبر في الأفلام التي تتاح لها فرصة التمويل الأوروبي والعرض بالمهرجانات الدولية.
ومازال هذا النوع من “أفلام الإرهاب الإسلامي” مسيطرا بدرجة كبيرة على خيال صناع الأفلام خاصة من الشباب الباحث عن فرصة، أو الفتيات اللاتي يروين بعضا مما تعرضن له من تجارب شخصية في بلادهن، ولكن ظهرت إلى جانب سينما الإرهاب المعلبة ذات القوالب النمطية المعروفة، موجة أخرى بادئة على استحياء، تتمثل فيما يمكن أن نسميه “أفلام الجنسية المثلية” أو ما يعرف في الثقافة العربية السائدة بـ”الشذوذ الجنسي”. هذه الأفلام يصنعها تحديدا مخرجون عرب يقيمون في بلدان أوروبية ويتلقون دعما وتشجيعا من المؤسسات الغربية.
لقد أصبح من المعتاد حاليا أن تجد من يصور شخصا أو أكثر في فيلمه، من أولئك المثليين الذين يضطرون إلى الفرار من المجتمع العربي (الريفي غالبا، الخشن في مظهره، المتزمت في أفكاره وقوانينه) إلى المجتمع الغربي المنفتح الذي يبيح الحرية بكل أشكالها.
وحتى لا يفهم هذا الكلام بشكل خاطئ، أستدرك فأقول إنني لا أعترض على تصوير كل أنواع المشاكل والعلاقات الإنسانية في الأفلام طالما أن تصويرها وتجسيدها سينمائيا، يأتي في إطار “رؤية” أو “تأمل” فني، أو “فلسفة” ما، تتناول ما يدور في جانب من جوانب المجتمع وتحاول تحليله أو متابعة علاقته بغيره من الظواهر الأخرى، الاجتماعية والثقافية.

أما ما نراه حاليا فهو مجرد تصوير سطحي مجرد من أي قيمة فنية أو فكرية، فهو يكتفي بالوقوف على سطح الظاهرة ولا ينفذ إليها ليقدمها في سياق إنساني.
أحدث هذه الأفلام التي ينطبق عليها هذا التوصيف، الفيلم الذي عرض في قسم “آفاق” في مهرجان فينيسيا (البندقية) السينمائي الأخير، وهو بعنوان “جيش الخلاص” Salvation Army وهو من الإنتاج الفرنسي بالكامل، لكنه مصور في المغرب باستثناء الجزء الأخير الذي يستغرق مساحة زمنية محدود منه، فقد صور في جنيف بسويسرا. والفيلم ناطق باللغة العربية في 90 في المائة من مشاهده، ومعظم الممثلين الذين يشاركون فيه من الممثلين العرب المغاربة. ومخرجه يدعى عبد الله الطايع، وهو مغربي شاب كتب قصة فيلمه هذا ونشرها في كتاب على شكل رواية تسجيلية، وهو الذي أعد سيناريو الفيلم عن كتابه هذا الذي يروي فيه بوضوح تجربته الشخصية في المغرب قبل أن يهاجر ليعيش في فرنسا.
والمؤكد أن عبد الله الطايع عرف كيف يستخدم موضوع المثلية الجنسية جيدا، ويسوق لكتابه هذا، وهو الأول، لكي ينشر ويوزع ثم يعد عنه هذا الفيلم ويعرضه أيضا في مهرجان فينيسيا، أعرق مهرجانات السينما في العالم، وبعده ذهب إلى مهرجان تورنتو الكندي، وكله بمساعدة الموزع الفرنسي للفيلم.
ما هو الموضوع؟
يصور الفيلم كيف تنمو مشاعر الجنس المثلي عند فتى صغير يدعة أيضا “عبد الله”.. مراهق في الخامسة عشرة من عمره، يعيش وسط أسرة فقيرة مكونة من 4 بنات و3 أولاد والأبوين. الأب يضرب زوجته ويعاملها بغلظة ووحشية، فهو يريد أن يعاشرها جنسيا دون رغبة منها، والأم تحنو فقط على ولدها الأكبر “سليمان” الذي تعتبره الزوج البديل، وعبد الله يتطلع إلى شقيقه الأكبر سليمان بحب ومشاعر غامضة لا يستطيع أن يفهمها، لكن الواضح أنه يجد نفسه أكثر في صحبة الرجال، ونراه يستسلم لمداعبات البقال، ثم يذهب طواعية مع رجل يكبره كثيرا في العمر والو يستغل ميوله الجنسية المبكرة، إلى موقع مهجور، حيث يمكن ان نتخيل بعد ذلك ما سيحدث بينهما، وإن كنا لا نره. لكن مشاعره عبد الله تظل متجهة نحو شقيقه.
يذهب الإخوة الثلاثة معا الى المدينة (الدارالبيضاء)، لا نعرف لماذا ربما لقضاء بعض الوقت فقط، وفي غرفة الفندق يجلس عبد الله يحدق في سليمان وهو مستلق الى جواره، وعلى شاطئ البحر، يدور بينهما حوار يشي بالاختلاف بين شخصيتيهما، حول اللغة الفرنسية. سليمان يقرأ كتابا بالفرنسية ويتحدث إلى شقيقه باللغة نفسها في حين يرفض عبد الله أن يتجاوب معه ويصر على الاجابة باللغة العربية، ويدور حوار يكشف رفض عبد الله لما يعتبره لغة “الطبقة الأعلى” في حين أنه – كما يقول لشقيقه- يرى أن الطبقات الدنيا مثل طبقتهما، يجب أن تتكلم بالعربية. ينهي سليمان المناقشة بأن يقول لعبد الله إنه سيعرف في المستقبل أهمية الفرنسية!
مشهد طويل لا معنى له، سوى ربما التأكيد على ما سيواجهه عبد الله فيما بعد عندما تمر السنون ويكبر عبد الله ويذهب الى سويسرا لنعرف أنه كان قد إرتبط في علاقة مع رجل سويسري، يعمل بالجامعة، يلقاه عبد الله هناك عندما يذهب للتسجيل في الجامعة نفسها بغرض الدراسة.. ولا نعرف كيف تمكن أصلا من الحصول على تأشيرة لدخول سويسرا.. ونفهم من الحوار المتوتر بينهما أن صديقه السويسري تخلى عنه في مرحلة ما في علاقتهما ولم يشأ أن يساعده بل كان يستغله فقط جسديا، وأن عبد الله يحاول الآن أن يثبت له أنه يمكنه أن ينجح بدون مساعدته.. مكالمة هاتفية من هاتف عمومي في الارع، مع والدته في المغرب يطمئنها عليه، ثم بحث عن مأوى بينما تهطل الامطار وسير بلا هدف في الشوارع إلى أن ينتهي به الأمر الى أحد منازل ما يسمى بـ”جيش الخلاص” أي تلك الجماعة الخيرية المسيحية الشهيرة، وهناك يجد المأوى والرعاية اللتين فقدهما بين أهله وفي وطنه.
من الحياة في المجتمع الإسلامي الفقير حيث يعاني عبد الله من تدهور العلاقات ومن الفقر والفاقة والتهميش، ومن غياب الحرية، إلى السكينة والسلام والهدوء في دار جيش الخلاص!

الفيلم يقع في 80 دقيقة. مشاهده طويلة، متكررة، للأطفال في أسرة عبد الله وهم يتناولون الطعام جلوسا على أرضية غرفة حقيرة قذرة، يضعون جميعا أيديهم في الصحن نفسه، أو يتحلقون معا في جلسة المساء في غرفة ضيقة خانقة على الأرض لمشاهدة التليفزيون. أغنية عبد الحليم حافظ القديمة “أنا لك على طول خليك ليا” تلفت نظر بطلنا الصغير بوجه خاص وتعلق في ذاكرته دون أن يكون لها معنى خاص. وهي الأغنية التي تظل في ذاكرته بعد مرور السنين وبعد أن يصبح شابا أنهى دراسته في المدارس الثانوية وذهب الى سويسرا للدراسة الجامعية. وفي المشهد الأخير من الفيلم يلتقي في دار “جيش الخلاص” بشاب مغربي.. يقول له إنه قبل أن يتكلم معه يريد أن يغني فيطلب منه عبد الله أن يغني له أغنية عبد الحليم القديمة.. وينتهي الفيلم!
الواضح أن مساعدي الإخراج من الطاقم الفرنسي الذين حاولوا مساعدة عبد الله الطايع على صنع فيلمه هذا باستخدام تجربته الخاصة التي نشرها بالفرنسية، فشلوا في العثور على جانب يثير الاهتمام في تلك القصة التي لا تروي في الحقيقة شيئا، ولا تشرح شيئا، ولا تعبر عن شيء جوهري.. بل كل ما في الأمر أن “عبد الله” يشعر مبكرا بأنه “مختلف” في توجهه الجنسي، ويترك نفسه لمن يعابثه من الكبار أيا كانوا، فلا إختيار له في حين ان هذا لا يعتبر حسب معايير الثقافة الغربية المتحررة نفسها، اختيارا حرا بل اعتداء جنسي على طفل مراهق أي قاصر، حتى لو لم يشكو المعتدى عليه. وبالتالي ليس من الممكن اعتبار أن الفيلم يدخل ضمن سياق “سينما الاعترافات” على غرار أدب الاعترافات في رواية “الخبز الحافي” لمحمد شكري مثلا.
ولا يبدو مفهوما لماذا يشعر عبد الله- بعد أن كبر وتغيرت ملامحه وأصبح اكثر تماسكا وقوة- بكل هذا الغضب تجاه صديقه السويسري الذي يقول له إنه مازال يحبه.. وما الذي جمعهما أصلا، وهل كانت علاقة انتفاعية: أنت تعطيني ما أريد، وانا أمنحك المال الذي تكمل به تعليمك مثلا وتستقل في حياتك؟ الفيلم لا يكشف شيئا من هذا، والمشاهد التي أريد لها أن تكشف لنه عن ميول عبد الله الجنسية المثلية، تقدم على استحياء كبير.. باستخدام الإيحاء فقط كأنما يخشى الطايع من صدمة المتفرج المغربي حيث يصرح في حوار له نشر بنشرة المهرجان بأنه يرغب في عرض فيلمه في المغرب، ويتباهى بانه سيكون الفيلم الأول الذي يقدم بطلا من المثليين.
إننا أمام “حالة” فيلمية جامدة، لا تتطور، ولا تكشف عما يثير الاهتمام سواء على الصعيد الاجتماعي أو النفسي- أو الفلسفي الوجودي. وعلى الصعيد السينمائي يبدو الإيقاع شديد البطء والترهل، والتكوينات رديئة بل ومعظم اللقطات سطحية تصور على خلفية جدران بيضاء أو زرقاء كما لو كنا أمام فوتوغرافيا رديئة، وهناك افتعال واضح في تصوير الأسرة المغربية الفقيرة، وغياب للتحكم في أداء الممثلين، وضعف في البناء نفسه الذي يجعل الفيلم من الممكن ان ينتهي في أي لحظة أو يستمر هكذا، لساعات. فكل شيء في هذا الفيلم يأتي كيفما أتفق!