القفص الذهبي: حين نهاجر من النفايات..إلى النفايات
قراءة في الفيلم الفائز بجائزة الاسكندر الذهبية
رامي عبد الرازق
من بين خمسة عشر فيلما هم حصيلة التجارب الروائية الاولى والثانية لمخرجيها ضمن المسابقة الدولية للأفلام بالدورة الرابعة والخمسين لمهرجان سالونيك الدولي استطاع فيلم القفص الذهبي للمخرج المكسيكي دييجو كيومادا دييز ان يحصد اربعة جوائز على رأسها جائزة الاسكندر الذهبي كبرى جوائز المهرجان كاحسن فيلم وجائزة احسن إخراج للمخرج الشاب الذي تتلمذ على يد مواطنه انرياتو وتوني سكوت وسبايك لي واوليفر ستون، وجائزة الجمهور الي يمنحها تصويت المشاهدين عقب عروض الافلام وجائزة حقوق الانسان عن احسن فيلم استطاع ان يعبر عن معاناة مجموعة من البشر في ظل الحضارة الحديثة.
من النفايات إلى النفايات
ثلاثة مراهقين في الخامسة عشر من عمرهم، يكادوا يكونوا اطفالا على اعتاب الشباب، خوان وسارة وصموئيل ولاحقا سوف ينضم لهم شاووك الهندي الطيب، وعلى غرار القاعدة الدرامية التي تقول انه لا تبدأ القصة إلا عندما يكون شخصية رئيسية او اكثر قد اتخذت قرارا مهما قبل بداية الأحداث نراهم وهم يستعدون للرحيل في مشاهد مكثفة الدلالة عن اسباب الرحيل وملابسات القرار المتخذ.
بالنسبة لسارة سوف يكون عليها في مشهد ما قبل التيترات ان تتخلص من انوثتها التي لا تزال في طور النمو، تتابعها الكاميرا في لقطات شبه توثيقية وهي تلف صدرها بقطعة من القماش كي تضغطه ليبدو كصدور الذكور وترتدي ملابس فضفاضه، انها عملية التخلص من الجنس، من النوع التي تجعل الكل فوق سطح القطارات المسافرة بطول القارة الاتينية مجرد بشر لا فارق بين ذكر وأنثى فكلهم معروضون للانتهاك في أي لحظة.

انا خوان فبعد أن يخبئ المال الخاص به في عروة البنطالون يخرج من زقاق منزله الفقير ويمر بازقة متداخله كانها متاهة لا نهاية من العشوائية والدمامة الاجتماعية وصولا إلى الشارع الرئيسي المكدس بعشرات الأطنان من النفايات التي تبدو وكانها تشكل بدن المدينة وجدارن منازلها.
عقب 100 دقيقة من هذا المشهد سوف يقف خوان وحيدا مرة اخرى بين النفايات ولكن على بعد مئات الأميال من نفايات جواتيمالا، سوف يغلق المخرج قوس النفايات التي تشكل اسباب الهجرة في مستواها الشعري بقوس اخر من النفايات ايضا ولكنها نفايات الحيوانات الأمريكية التي يعمل خوان في تنظيفها باحد المجازر بعد اكتمال رحلة الهجرة”السعيدة”وكأن قدره او مصيره هو ان يهاجر من النفايات إلى النفايات رغم كل ما خسره وانهار بداخله.
هذا ما يعرف دراميا بالبناء المحكم، ولا نقصد به تماثل مشاهد البداية والنهاية-النفايات- ولكن في تكاملها، ووجود علاقة جدلية بسهم ذو راسين ذهابا وايابا ما بين الرحلة التي سوف تقوم بها الشخصيات داخل الفيلم وبين بدايتها ونهايتها.
ان خوان الذي يبدو في المشهد الاول هاربا من النفايات المادية والمعنوية التي تملاء بلده الفقير يذهب إلى قارة اخرى كي يعمل في ازاحة نفايات اشخاص اخرين فيالها من فكرة عبثية تملاء الوجدان بعمقها، وذلك عقب الرحلة التي سوف يفقد فيها خوان بداية صمويل الخائف من الشرطة ثم سارة على يد عصابات الافيون ثم حريته على يد تجار الرقيق ثم ماله في مقابل اطلاق سراح رفيقه الهندي ثم اخيرا رفيقه نفسه الذي يقتل برصاصة من قناص على الحدود الأمريكية وكأنه حيوان بري اخطاء في دخول احد المراعي الخاصة فأردي من فوره بلا ديه ولا تحذير.
هذا على احد المستويات، على المستوى الثاني فأننا نلاحظ ان المخرج تعمد ان تقتصر الرحلة في مرحلها الاولى على الشابين والفتاة خوان والهندي وسارة بعد رحيل صموئيل ومن المعروف ان رجلين ومرأة كفيلين بصياغة كل الدراما في العالم، ان خوان يبدو في احد مستوياته اقرب لقابيل في حبه لسارة وغيرته عليها من علاقتها بالهندي الطيب الذي يحلم بالوصول إلى أمريكا ومشاهدة نتف الثلج النظيفة الصغيرة التي تهبط لتمس يديه المفتوحتين.
وخوان وسارة والهندي في مستوى اخر هم شخص واحد تقريبا هم خلية واحدة تمثل الانسانية الفقيرة المعذبة في قاع الحضارة الحديثة التي تهرس النفوس وتجعل البشر ارخص من الهواء وتحديدا فأن سارة تحمل بلورة هذا المجاز الدلالي فهي فتاة في من داخلها لكنها ولد في مظهرها الخارجي وأن كانت تلك الذكورة الظاهرية لا تعفيها من الاختطاف على يد عصابات الافيون في مصير اسود نعلمه جيعا وندركه من صرخاتها المستغيثة بيما تحملها العربة المكتظة بذئاب من اشباه الرجال.
اثناء الرحلة سوف تفقد سارة نفسها بأن تختطف وتضيع في نهاية مفتوحة مرعبة من تصور احتمالاتها وسيفقد الهندي حياته وسيفقد خوان ماله وكرامته وحبيبته وانسانيته كل هذا من اجل أن يذهب كي يزيح النفايات في القفص الذهبي الكبير”امريكا”.

القفص الذهبي
تكتسب الدراما قوتها من كم الدلالات التي تفجرها في ذهن ووجدان المتلقي اثناء السرد خاصة لو انها دراما غير تقليدية لا تقوم على حبكة عادية البناء بل على رحلة مفتوحة تتخذ من نوع”فيلم الطريق”اطارا لها، لا يوجد قصة يمكن اختصارها في بداية ووسط ونهاية ولكن يوجد احداث وتفاصيل واشارات بصرية ودرامية تشكل في النهاية مضمون التجربة وسر قوتها.
ما هو القفص الذهبي؟ واين يقع داخل الاحداث!!
القفص الذهبي هو مصطلح مجازي لا يتخذ دلالاته سوى عبر لقطات ومشاهد الفيلم التي تصور لنا دول امريكا الأتينية الفقيرة من عيون المراهقين الثلاثة- رمز المستقبل- وهم يغادرونها في هجرة تبدو شرعية جدا من وجهة نظرهم لانهم يحلمون لحياة أفضل في الشمال حيث لوس انجلوس/أمريكا.
لماذا اختار المخرج ثلاثة مرهقين في مقتبل العمر ولم يختر شبابا في اعمار متقدمة او رجال ونساء في شرائح اكبر، أن المراهقين هم رمز المستقبل الذي يغادر والذي لا تعنيه قوة الطبيعة وجمالها في تلك البلاد بل يراها مع كل هذا الجمال الطبيعي والثروات الطبيعية المنهوبة من قبل انظمة سياسية واجتماعية فاشية وفاشلة مجرد قفص ذهبي ضخم على استعداد لان يتخلص من(جنسه كسارة أو ماله وكرامته وحريته كخوان او حتى حياته كالهندي) في مقابل مغادرته.
ان العنصرية التي يعامل بها خوان رفيقهم الهندي متهما اياها بالجهل والتخلف والغباء طوال الوقت ما هي إلا ملمح بسيط من ملامح السرطان الأجتماعي الذي ينهش تلك البلدان، وفوق القطارات المغادرة التي يقبع على عرباتها المئات وربما الآلاف من امثال ابطالنا الثالثة تتوه الملامح الشابه والمراحل العمرية في خليط من البشر مختلفي الاعمار والصفات والاشكال والانواع من سكان البلاد الاتينية بشكل يشعرنا وكأنها هجرة قومية وليست محاولات تسلل فردية بحثا عن مغامرة أو فرصة افضل للعيش.
من هنا تتخذ مشاهد الطبيعة الساحرة التي يمر عبرها القطار دلالاتها السياسية والاجتماعية والوجودية على حد سواء، انها ليست عين سياحية التي تنظر ولكنها عين لم تعد ترى في هذه الطبيعية سوى حدود وجبال تفصلها عن حلمها بنتف الثلج السعيدة التي سوف تستقبلهم بها امريكا على حد تصورهم.
ينتقل المخرج عبر تتابع اللقطات في مشاهد القطار العابر للبلاد والتي تتكرر كثيرا خلال الرحالة لتصبح احد الموتيفات البصرية الأساسية بين وجهة النظر الذاتية للمهاجرين ووجهة النظر الموضوعية العامة للكاميرا/السارد، نظرات بلا روح تؤكد على معنى موت المشاعر تجاه وطن لا مكان فيه وعلى الشعور بالأختناق رغم الأفق الواسع والهواء العالي.
ولكن لا يتوقف المخرج عند تلك الدلالات التي تخص واقع الهجرة الغير شرعية ولكنه يتجاوزها إلى المحطة الأخيرة امريكا نفسها، فعندما يصل خوان إليها وحيدا هاربا من القتل على الحدود، بلا مال ولا كرامة ولا حبيبة ولا صديق فجاة تبدو له امريكا من خلف الشباك الحديدية التي يحرص المخرج على أن تقف الكاميرا خلفها وكأنها هي الاخرى-اي امريكا- مجرد قفص ذهبي اخر ولكن ذهبيته لا تأتي من طبيعته الساحرة وثرواته المنهوبة ولكن من وجود فرص عمل في قلبه المدخن الذي تمثله لقطات المصنع الذي ينظر إليه خوان من خلف السياج الفاصل.
تكتمل دلالة القفص الذهبي الأمريكي بمشاهد المصنع التي تعتبر ذروة طويلة زمنيا نتابع من خلالها عمليات السلخ والتقطيع والفرم وكأنه ما يحدث بالضبط لهؤلاء المهاجرين غير الشرعيين الذين ينتهون إلى مجرد عمال تنظيف لفضلات المصنع ونفاياته مثل خوان والتي تبدو وظيفة غير ادمية وتحتاج إلى بشر من نوعية خاصة او ربما من نوعية أدني قليلا.

نتف الثلج السعيدة
ليست دول امريكا الاتينية الفقيرة فقط هي القفص الذهبي الذي يحاول ابطالنا الهرب منه ولكنها امريكا ايضا التي يحاولون الهرب إليها، عندما تسأل سارة رفيقها الهندي الطيب عن سر رغبته في الذهاب إلى امريكا رغم انه لا يتكلم الانجليزية ولا يعرف عن امريكا شيئا فأنه يشير إلى السماء وينصع لها بيديه الشابتين علامات الثلج الصغير ناطقا اسمه بلغته الهندية التي لا تفهمها الفتاة ولكننا في المشهد الأخيرة للفيلم وتحديدا اللقطات الاخيرة منه يقف خوان اسفل نتف الثلج المتساقطة في اول شتاء يمر عليه بأمريكا بعد ان صار مجرد مهاجر اخر غير شرعي في قفص ذهبي كبير، يمد خوان يديه ويداعب بأسى هذه النتف الصغيرة التي تهبط في صمت وكأنه ادرك اخيرا معنى الكلمة التي كان رفيقه الهندي يرددها ولكن خوان يرددها بمزيج من الحزن والسخرية السوداء وكأنه ادرك اخيرا انها مجرد وهم لن يلبث ان يذوب في الصباح مع اشراقة الشمس، لم يتلق خوان نتف الثلج بسعادة كما كان ينتظر هو وسارة ورفيقهم لقد فقد كلاهما عبر الرحلة وها هو وحيدا يستقبلها على كفه كأنها سراب لن يتحقق ابدا.
الكاميرا مهاجر رابع
عندما نقول أن الكاميرا تصاحب الشخصية فانه يبدو عادة تعبير مجازي، ولكن افلام قليلة هي التي تحاول تفعيل هذا الوصف بأن تضع الكاميرا كشخص ثان او ثالث او رابع وسط شخصيات الفيلم كي تبدو وكأنها احدهم بالفعل، ليست راو عليم او عين خارجيه – إلا في لقطات قليلة جدا- ولكن باستثناء ذلك يمنحنا المخرج حذاءا كي نسير به وسط مجموعة المراهقين المهاجرين كأننا واحد منهم.
قد يتساهل البعض في التعبير عن وجود الكاميرا وسط شخصيات الفيلم بالحديث عن كونها كاميرا الحقيقة أو وثائقية التناول- خاصة ان الفيلم السابق للمخرج كان فيلما وثائقيا قصيرا- ولكن المسألة تتجاوز فكرة الوثائقية او الحقيقية إلى الرغبة في نقل الشعور الداخلي والافكار الخاصة بالمجموعة إلى داخل ذواتنا وافكارنا.
نحن معهم عندما تداهمهم الشرطة في شوارع المدن التي يمرون بها، مستوى الكاميرا في مستوى قاماتهم التي لم يكتمل نموها بعد، تكوينات حرة تفرضها اللحظة الدامية للضرب والسحل والتجريد والاهانة والقسوة الغير مبررة، الكادرات الثابتة قليلة جدا وقصيرة زمنيا ومكثفة، تتابع الكاميرا حكيها للتفاصيل عبر التركيز على العيون والنظرات، النتيجة تسبق السبب في معظم الأحيان كما اقترح يوما روبير بريسون في احد ملاحظاته السينماتوغرافية الشهيرة، نحن نرى النظرة بداخل عين احد الشخصيات، عميقة، متألمة، او منشرحة ، او غامضة وحائرة، ثم تنتقل بنا اللقطة التالية إلى السبب وهكذا.
نحن معهم فوق القطار وهم يتأملون وجوه المسافرين معهم في الطريق من قفص متحقق إلى قفص مُنتظر، يتأملون الأرض التي فقدوا ايمانهم بها والتي تلفظهم نحو مجهول لا تلونه سوى احلامهم التي لن تحدث ابدا.

حركة كاميرا خشنة تشبه قسوة الطريق الذي يجتازوه، غير مستقرة مثل اهتزازات القطار الذي يتحلقون فوقه، تشكيل الكتل بالممثلين يفيد دوما بناء العلاقات بين الشخصيات خاصة العلاقة ما بين سارة وخوان وعلاقة سارة بالهندي الطيب، سارة دوما إلى جانب خوان في جانب وفي الجانب الاخر الهندي، هي تنظر لخوان وخوان ينظر للهندي غيرة من عطف سارة عليه واحتقارا له في عنصرية واضحة.
على مستوى شريط الصوت جاءت الموسيقى مكثفة ومقتصدة لتجنب الميلودراما التي تفجرها تقليدية رحلة الهجرة الغير شرعية، توظيف محكم للأصوات الطبيعية وتيمة صوت القطار التي تمثل حلم السفر إلى البعيد الملون، ثمة ايضا حضور واضح لصوت الانهار والهواء والمياه الجارية التي تعكس الدلالة الذهبية للقفص الذي تمثله الدول الاتينية الفقيرة الغنية في ارضها الفقيرة في سياستها وشعوبها ثم حضور مماثل لاصوات المدن الامريكية والمصانع التي تلفظ دخانها الابيض الكئيب عند وصول خوان في النهاية وحيدا.
ورغم تأكيد المخرج اسلوبيا على واقعية الازمة والتناول إلا أن ثمة لمسة شعرية واضحة فيما يخص عنصر نتف الثلج التي يحلم بها الهندي وينقل الحلم بها إلى سارة وخوان وهي لمسة من رحم الواقع ذاته وليست مستجلبة عليه او دخيلة ولكنها كما ذكرنا تعطي الأثر باثيرية الرغبة في الهجرة وكونها وهم لن يلبث ان يذوب كما تذوب تلك النتف في الصباح وقد ذابت بالفعل اثناء الرحلة لاختطاف سارة وموت الهندي ومذلة خوان.
ولا شك ان اسلوب المخرج في جعل المتفرج فرد رابع ضمن مجموعة الهجرة عبر الكاميرا هو ما اثر بالايجاب على حصوله على جائزة الجمهور وهي الجائزة التي لا يمنحها المتفرجين سوى للافلام التي تخصص لهم مقعدا داخل الفيلم وليس فقط امام الشاشة.
كذلك فإنه بالمقارنة لبقية الأفلام المشاركة في المسابقة الدولية يمكن بسهولة أن ندرك لماذا حصل على جائزة حقوق الأنسان لأنه ببساطة تناول من خلال رحلة هجرة غير شرعية العديد من المشكلات الانسانية التي تواجه بشر الحضارة الحديثة بداية من الفقر والجهل والتخلف والعنصرية وصولا إلى الاغتصاب وقهر المرأة وتجارة الرقيق والطبقية وغياب الحق الانساني في حياة كريمة كل هذا بلا شعارات ولا خطب ولا لحظات ميلودراما فاقعة او مونولوجات مطولة عن اسباب الهجرة وملابساتها والحلم بأمريكا وعسلها فليست القضية هي التي تكلل العمل بالجوائز ولكن المعالجة واسلوب الطرح وطبيعة السياق الذي يستعرض تشوهات حضارتنا الآنية.