“العاشق”: هجائية لزمن القمع ومرثية لزمن العشق!
أمير العمري
يدور فيلم المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد “العاشق”- الذي شاهدته في مهرجان الرباط لسينما المؤلف- حول نفس المحاور التي يستند إليها في معظم أفلامه: ملامح وشذرات مستعادة ومنسوجة ببراعة من السيرة الذاتية، جدلية الحاضر/ الماضي، الواقع السياسي وكيف ينعكس بقسوة على حياتنا، تأثير العائلة والعلاقة مع الأب، الإفلات من قيود المجتمع التي تعوق انطلاقة الحب، مقاومة القهر بالهجاء الساخر الذي يقترب من الهزل أو “الفارص” farce.
ربما يكون الجديد هنا هو تلك الحالة العاطفية البديعة التي يخلقها عبد اللطيف من خلال قصة الحب التي تعتبر المحور الرئيسي للفيلم، تدور الأحداث من حولها، ويعود من خلالها إلى رثاء ذلك الزمن الرومانسي الذي يجد فيه أيضا حلاوة البراءة الأولى رغم كل ما شابه من قسوة. في هذا الخيط الرومانسي تكمن قوة الفيلم، وربما تكمن أيضا نقطة ضعفه الرئيسية.
الشكل السردي أو البناء القصصي الذي اختاره عبد اللطيف يعتمد على الانتقال الدائم خلال الفيلم، من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضرإلى الماضي، وتتركز معظم الأحداث حول شخصية “مراد”: طفلا وشابا ورجلا.. مراد هو ضمير المخرج نفسه، بل هو ايضا مخرج سينمائي نراه يخرج فيلما عن نفسه وعن حياته وعن والده: ذكرياته في المدرسة وكيف كان يرى المعلمين في المدرسة بشكل كاريكاتوري يقدمه الفيلم بنوع من المبالغة في التجسيد لتأكيد المعنى الساخر، أو كما كان إستقبال مراد- الطفل، لهم في طفولته. إنهم مجموعة من المنافقين الانتهازيين البلهاء، لكنهم أيضا يمكن أن يتحولوا إلى وحوش كاسرة تفتك بكل من يقف في طريق وصولهم للسلطة. ونحن نرى كيف يصبح كبيرهم وأكثرهم تخلفا ومغالاة في نفاق السلطة، صاحب الشارب المضحك والكرش المتدلي، من رجال المخابرات فيما بعد، ونرى كيف يستدعي مراد للتحقيق بعد أن أصبح مهرجا سينمائيا يصنع فيلما يكشف ويعري مواقف الرجل، وكيف يحذره وينذره بالويل والثبور.
مراد على علاقة عاطفية بجارته “ريما” الطالبة الجامعية الحسناء التي تعاني أشد المعاناة من المعاملة الفظة القاسية التي تلقاها على يد والدها الغليظ الذي يسيء معاملتها، يحسب علىها أنفاسها، ويراقب خطواتها، ينزل بها العقاب الصارم إذا ما تأخرت دقيقة عن موعد وصولها للمنزل لأي سبب كان. هذا الأب على النقيض تماما من والد مراد، الذي يعامله بحنان بالغ، وبعد أن كان يقسو عليه في البداية، يريده أن يساعده في زراعة الأرض في ريف اللاذقية ويترك الدراسة، يقرر وبكل عزم وقوة أن يدفعه إلى تلقي العلم في المدارس، لكي يكون قادرا على مواجهة العالم قويا، مسلحا بالوعي والمعرفة.

من الطفولة
هناك الكثير من التداعيات التي ترتبط بشخصية مراد: علاقته العاطفية الأولى وهو لايزال شابا صغيرا يافعا مع تلك الفتاة الحالمة التي تخضع بدورها لأب قاس، يقمعها ويفرض عليها الزواج من مصارع غليظ الحس، وهو أول ما يواجهه مراد في بدايات شبابه الغض من إحباط وحرمان سيترك تأثيره عليه فيما بعد.
وهناك شقيق مراد الأكبر الذي يذهب للاقامة معه في البداية، وكيف يعامله بغلظة وقسوة لأنه يشعر بأنه يقتحم عليه خصوصياته ويعيقه عن الاستمرار في ممارسة نزواته الصغيرة.
وهناك صديق الطفولة “فؤاد” الذي ارتبط به مراد في علاقة وثيقة استمرت حتى اليوم بعد أن أصبح طبيبا مرموقا، وأصبح لا يتوانى عن تقديم المساعدة لمراد وقت اللزوم.
إبنة الجيران “ريما” تفر من أهلها هربا من تلك المعاملة الغليظة القاسية، لتقيم في شقة مراد التي تقع في نفس البناية، أثناء غيابه لزيارة والده في ريف اللاذقية للاطمئنان على صحته التي تدهورت. وهي تستغل فرصة وجودها داخل مسكن مراد لمشاهدة باقي أجزاء الفيلم الذي صوره عن حياته، لتعرف تفاصيل علاقته العاطفية السابقة التي تركت تأثيرها الكبير عليه حتى يومنا هذا.
الكثير من المفارقات تقع: تتصل الحبيبة السابقة لمراد على رقم هاتفه المحمول الذي يتصادف أنه تركه في مسكنه في دمشق، لكي ترد عليها “ريما” وتعرف ويعرف المشاهدون أنها مريضة بمرض قاس في مراحله الأخيرة وأنها أرادت أن تودعه. وكيف يعود مراد ليجد ريما في مسكنه، ثم يقرر الإثنان الفرار معا إلى قريته لكي يتزوجا بمساعدة صديقه الطبيب “فؤاد”.. وكيف يستقبل الأب – الذي يقوم بدوره عبد اللطيف عبد الحميد نفسه- “ريما” بود وترحاب، وكيف يترك شقيق مراد مسكنه لمراد ويذهب للعمل كمهندس في مشروع سد الفرات، وكيف أن شقيقة مراد لا تجد من يتزوجها فتبقى عانس، وكلمات الأب عبر الفيلم تعلق في سخرية مريرة على تلك الزيارات المتكررة من رجال الحزب والسلطة لمنزله: عن ضرورة أكل البطاطا والبيض!
كان هناك بالطبع ما يمكن إستبعاده من الفيلم لكي يصبح الإيقاع أكثر انضباطا، فالانطباع العام على الفيلم هو أن الخيوط الكثيرة والتفرعات المتعددة، تجعل الخيط الرئيسي للفيلم يفلت أحيانا من بين يدي المخرج، مما يجعل وعي المشاهدين يتشتت في اتجاهات مختلفة، يحاولون العثور على علاقات بين كل تلك المواقف والمشاهد الفرعية في السياق. وقد يكون هذا تحديدا أحد عيوب أفلام الرؤية الذاتية، التي يرغب المخرج- المؤلف عادة في حشد كل ما خبره في حياته الشخصية، فيها، وهي مشكلة نجدها- على سبيل المثال- في بعض أفلام يوسف شاهين، بغض النظر عن أهمية وضع الكثير من المواقف في فيلم ما دون القدرة على الربط بينها وجعلها ترفد الخيط الرئيسي وتعمقه بدلا من أن تشتته وتأخذه خارج السياق.
ورغم جاذبية الفكرة “السياسية” في إستخدام التداعيات المصورة عما وقع من مجازر في مخيمي صبرا وشاتيلا عام 1982(من ذاكرة الأب) إلا أنني وجدت هذه اللقطات التي تكررت، زائدة وخارج سياق الفيلم، وهي أحد أعراض السينما التي تريد إفراغ كل ما في الذاكرة دفعة واحدة بغض النظر عن العلاقة العضوية مع نسيج الفيلم.
الفيلم داخل الفيلم

المدخل الرئيسي في الفيلم هو في رأيي “الفيلم داخل الفيلم”، الذي يصنعه مراد ومن خلاله يسترجع الماضي، ولكن في علاقته بالحاضر: حاضر القمع الرسمي والقمع الأسري، رغبة الفنان في التحرر من كل القيود الاجتماعية وكيف تدفعه إلى الزواج من حبيبته بهذه الطريقة، ومن هذا المدخل كان يجب أن تنبع كل التفريعات الأخرى في الفيلم، لكن المشكلة أن سيناريو عبد اللطيف يدخلنا في الكثير من الاستطرادات والمواقف المتشابكة المتداخلة التي يريدها أن تحقق جوا من الإثارة وجذب المشاهد للفيلم، كما نرى على سبيل المثال، عندما يعجز “مراد” عن فتح باب مسكنه بعد عودته في الصباح المبكر، لأنه على ما يبدو، نسى المفتاح في الداخل، وقد أغلقت “ريما” الباب وتركت فيه المفتاح واستغرقت في النوم، مما يدفعه للاستعانة بوالد ريما، وهو نموذج كاريكاتوري آخر، على الوحشية البطريركية الكامنة في مجتمع محافظ يستر ضعفه بالعنف، لكي يساعده في فتح الباب، فهو لا يعرف أن ريما بالداخل، وعندما تستفيق هي من النوم على صوت والدها في الخارج، تكاد تنهار.. المشهد طريف، لكنه لا يضيف جديدا إلى عمق الفيلم بل يبدو فقط حلقة من حلقات الإثارة التي يبرع فيها عبد اللطيف بلاشك.
وتبدو المشاهد المصورة داخل المستشفى للطبيب فؤاد زائدة عن سياق الفيلم، كما تتكرر مشاهد شقيق مراد مختليا بعاهرة في مسكنه في حين يحضر مراد وصديقه، أو مراد مع والده ويضطران للانتظار خارج المسكن إلى أن يقنع مراد (الذي يعرف ما يدور بفعل التجربة الماضية) والده بالذهاب لتناول القهوة في مكان ما ثم العودة لكي يتيح لشقيقه الفرصة للتخلص من تلك الفتاة.. وهكذا
النقد السياسي
عبد اللطيف عبد الحميد يقدم نقدا لاذعا في فيلمه لأفكار حزب البعث، ويسخر من إدعاءات القومية، ومن الشعارات السطحية التي لا معنى لها التي رفعت لسنوات طويلة في سورية، بل ويوظف المكان توظيفا عبقريا عندما يجعل المدرس الأول الفظ الغليظ، يتفق مع والد مراد (عبد اللطيف نفسه) على استخدام حنجرته في الصياح يوميا من فوق الجبل حيث يقيم، لكي يسمعه تلاميذ المدرسة وهم في طابور الصباح يردد شعارات حول الحرية.. الوحدة.. الاشتراكية.. القومية العربية.. الإخلاص للحزب..إلخ
ولعل عبد اللطيف أراد أيضا أن يؤكد من خلال اختياره للشخصيات التي تنتمي إلى مختلف فئات المجتمع وطوائفه، على وحدة السوريين وإبتعادهم عن الطائفية المقيتة التي ستعود لتطغى على ذلك الصراع الدائر هناك في الوقت الحالي، بل إنه يستخدم نداء الفيلم الذي يوجهه أيضا عبد اللطيف عبد الحميد في اللقطة الأخيرة من فوق الجبل، للتأكيد على وحدة الشعب السوري: الشعب السوري واحد: واحد واحد واحد. وهو نفس شعار الثورة على النظام. ولا أجد بعد ذلك أكثر غرابة ممن يوجهون الاتهام للفيلم بأنه “يخدم النظام” أو أنه من “أفلام الموالاة”.. فما الذي يمكن لسينمائي أن يفعل أكثر من ذلك، وهو يستخدم أموال مؤسسة السينما المملوكة للنظام في هجاء النظام!
وجود ديمة قندلفت في البطولة النسائية بالفيلم لاشك أنه مكسب للفيلم وللسينما السورية، في أول أدوارها السينمائية: وجه معبر، رقة في الأداء الصوتي، نعومة في الحركة، وإغراء كامن تحت جلد الشخصية، رغم ترهل الدور إلى حد ما، بسبب تكرار التمنع والمبالغة في رد الفعل (في أحد المشاهد بالمناسبة تعتذر لمراد عن صفعها له في حين ان الصفع يأتي فيما بعد، في مشهد مـتأخر!).
ولكن مما يعيب الفيلم ذلك الأداء الكسول الذي يفتقر إلى الحرارة ويفقد بالتالي الإقناع، عند ممثل الدور الرئيسي (دور مراد) عبد المنعم عمايري. فالأداء يشوبه أحيانا الارتباك والجمود وعدم تغير الملامح مع تواتر المواقف والأحداث. والأمر كذلك أيضا في أداء صاحب دور الصديق فؤاد، ودور الشقيق.
ولكن بشكل عام، أرى أن عبد اللطيف عبد الحميد نجح في استخدام الرومانسية في فيلم هاجسه الأساسي السياسة والهجاء السياسي.. مع نجاحه أيضا في خلق أجواء الكوميديا السوداء التي لم تدخر وسعا في توجيه أسهم النقد لممارسات أصبح الجميع في سورية اليوم، يدفع ثمنها.