حول مفهوم السينما الجديدة من واقع مشاهدة فيلم “عشم

أمير العمري
من المشروع فنيا أن تكتب سيناريو فيلم يعتمد أساسا على تعدد الشخصيات، لا أن تتبع القاعدة الذهبية التي سبق أن تحدث عنها مرارا المخرج البريطاني العملاق الراحل ديفيد لين، التي تنصح بعدم الاعتماد في السيناريو على أكثر من ثلاث شخصيات رئيسية إذا كنت تريد حقا أن تسيطر فنيا على فيلمك وتجعله يصل للجمهور.
هذه القاعدة “الذهبية” خالفتها أفلام- يجب أن أعترف بأنها ليست كثيرة- خلال السنوات العشر الأخيرة، دون أن تفقد قدرتها على شد الجمهور إلى متابعة شخصياتها المتعددة، مع الاحتفاظ بتماسكها الداخلي على نحو مثير للإعجاب.
 تحقق هذا على سبيل المثال، في فيلم “ماغنوليا” (1999) Magnolia للمخرج بول توماس أندرسون، ثم في فيلم “اصطدام” (2004) Crash  للمخرج بول هوجيس (الذي حصل على ثلاث من جوائز الأوسكارالرئيسية (أحسن فيلم وسيناريو أصلي ومونتاج). ولكن كان قد سبق هذين الفيلمين وغيرهما من الأفلام الحديثة بأكثر من ثلاثة عقود الفيلم الأمريكي “الحادث” The Incident (1967) للمخرج لاري بيرس Larry Pearce  بطولة توني موسانتي (الذي توفي يوم 26 نوفمبر 2013 الماضي) وبو بريدجيس ومارتن شين (في أول أدواره في السينما).

عن “الحادث”
 كان “الحادث” يدور حول شابين من صعاليك نيويورك (من الأمريكيين البيض)، يقرران في لحظة سكر وتمادي في الإحساس بالقوة، احتجاز ركاب عربة من عربات مترو نيويورك، يهددان بقطع رقابهم، يستوليان على ما معهم من مال وحلي، ويكشفان أيضا عما في داخلهما من مشاعر عنصرية بغيضة، خاصة وأن تلك الفترة (أواخر الستينيات) كانت تشهد بروز الوعي بالحقوق المدنية للسود، وبداية مطالبة السود بالمساواة في الحقوق في أمريكا.
يبدأ الفيلم بعرض لشخصياته المتعددة أثناء قطع الطريق إلى محطة المترو في تلك الساعة المتأخرة من الليل.. ويشير الفيلم إلى المشاكل المحيطة بهم، سواء أكانت مشاكل عائلية أو عاطفية او تتعلق بالعمل، والتناقضات القائمة بين كل زوجين يتصادف أنهما سيستقلان المترو في تلك الليلة من ليالي الشتاء. كانت فكرة البانوراما العريضة للشخصيات بارزة في هذا الفيلم، ولم يكن الفيلم يقدم شخصياته باعتبارها مجرد “ضحايا”، بل كان يكشف أساسا، عن الجوانب “الشريرة” أو السلبية الكامنة في داخلها.. باستثناء شخصية المجند الشاب (بريدجيس) الذي كان يبدو مثاليا رابط الجأش. تجتمع كل هذه الشخصيات داخل عربة المترو التي يقفز داخلها الشابان، وتبدأ حفلة التعذيب والتنكيل والإهانات والسخرية (لا يسمحان لأحد بالعبور للعربة المجاورة أو بالنزول في المحطات التي يتوقف فيها القطار).
ومن خلال هذا المدخل يكشف الفيلم الكثير مما يكمن خلف الأقنعة الكاذبة التي تضعها الشخصيات المختلفة على وجوهها، في محاكمة للطبقة الوسطى الأمريكية، فالفيلم يستخدم المفجر الأساسي للدراما، أي الشابين العابثين اللذين يقتحمان حياة الآخرين، لكي يكشف الجوانب السيئة الكامنة داخل هذه الشخصيات.. الضعف والخسة والجبن ومحاولة النجاة على حساب الآخرين. ومن خلال ذلك، يكشف لنا الفيلم تهافت تلك الطبقة وهشاشة ما تدعيه من ثوابتها المستقرة وأخلاقياتها المزعومة. وفي مشهد بديع يفضح عنصرية الشرطة الأمريكين فعندما يتوقف القطار أخيرا ويصعد الشرطي إلى العربة يتجه على الفور إلى الأسود الوحيد بين الركاب، لكي يعتقله معتقدا أنه لابد وأن يكون هو “المجرم”!

ملامح سينما أخرى
ينتمي هذا الفيلم إلى حركة سينما “الأندرجروند”،  التي ظهرت في نيويورك في الستينيات، تلك الحركة الطليعية التي قطعت الصلة- سينمائيا وفنيا- مع تقاليد هوليوود، وتمردت عليها، فقد أنتج الفيلم بميزانية صغيرة للغاية وباستخدام ممثلين لم يكن أي منهم في ذلك الوقت من النجوم، واعتمادا على التصوير بكاميرا خفية داخل حقيبة في محطات المترو بعد أن رفضت السلطات منح منتجي الفيلم تصريحا بالتصوير، وإن كان التصوير داخل عربة المترو قد تم في نموذج شيد خصيصا داخل الاستديو. وجاء التصوير بالأبيض والأسود توفيرا للتكاليف، وإمعانا في إضفاء الطابع الواقعي مع بعض الملامح التي تصبغ الفيلم بطابع ما يعرف بـ “الفيلم- نوار”.

ورغم أن الفيلم يصب بعد فترة زمنية محدودة في وعاء زمني محدد (عربة القطار) إلا أن مشاهد “الفلاش باك” أي الانتقال الى الزمن الماضي، تبقي المشاهد يقظا متابعا، مترقبا لما سيحدث في المشهد التالي.
الأهم في هذه التجربة، ومثيلاتها من الأفلام التي جاءت فيما بعد، ومنها ما أقبلت هوليوود على إنتاجه بعد أن تغيرت نظرتها كثيرا، أنه رغم تعدد الشخصيات وكثرتها، ورغم مشاهد العودة للماضي التي نرى من خلالها ما كانت  تفعله تلك الشخصيات في تلك الليلة قبل ركوبها القطار، إلا أن الفيلم يتميز بوحدة الموضوع، فالدراما تتركز على فكرة محددة واضحة تماما من البداية، ويتم الانتقال بين الشخصيات المختلفة دون إنحراف أو إبتعاد عن محور الارتكاز الدرامي في الفيلم.
يمكن ترديد القول نفسه عن فيلم “اصطدام” لبول هوجيس، فموضوعه (الواضح الذي لا يترك للتخمين) هو التوتر العنصري الكامن في المجتمع الأمريكي: كيف يشعر الناس بذواتهم (نشاهد شرائح مختلفة طبيعية جدا ومتباينة منهم في الفيلم) وكيف تنعكس أفكارهم عن أنفسهم وعن الآخرين، على تصرفاتهم وعلى حياتهم وحياة غيرهم أيضا.. إنهم قريبون من بعضهم البعض لكنهم بعيدون..كيف يتبدى زوال ما يعرف بـ”الحلم الأمريكي”، وما هذا البركان الذي ترقد فوقه تلك التناقضات وتهدد بانفجاره.. ليس هناك افراط في التركيز على جانب بمعزل عن الآخر، والمواقف التي تجمع بين كثيرين منهم تساهم في تكثيف ما ينتج عن الاصطدام Crash وهو ليس اصطدام بالمعنى المادي بل إن عنوان الفيلم يلعب على فكرة اللقاء المباشر المفاجيء الذي يحدث بين البشر.
من أهم مزايا فيلم “إصطدام” أيضا، الأداء التمثيلي الواثق والراسخ لمجموعة الممثلين جميعا، تماما كما كان أداء توني موسانتي ومارتن شين وباقي مجموعة الممثلين في فيلم “الحادث”.

مشاكل “عشم”
ليس من الممكن للأسف أن نرى شيئا من هذه الدقة في السرد أو التعامل التقني الدقيق على مستوى الإخراج في فيلم “عشم” لمخرجته ماجي مورجان في أول أفلامها. وليس من الممكن أن نتغاضى عن ضعف وهشاشة سيناريو الفيلم الذي لا يحترم وحدة الدراما أو الموضوع، وهي لا علاقة لها بوحدة الزمان والمكان. يمكنك بالطبع أن تسرح وتمرح كما تشاء في المكان، وتنتقل كيفما تشاء بين الأزمنة، لكن لابد أن يكون لفيلمك وحدة درامية، أي أن تتركز الدراما حول موضوع محدد ولو من خلال “بانوراما الشخصيات المتعددة”، ويجب أن تتمتع هذه الشخصيات أصلا بالصدق، وبالتالي تتمكن من إقناع المشاهد بأهمية ما يشاهده مهما بدا هامشيا وعاديا ولا معنى كبيرا له في سياق الحياة اليومية، فالدراما السينمائية غير الواقع، وكما قلنا من قبل، فالفيلم يخلق واقعه الخاص.
المشكلة هنا أنك تفتقد حرارة الإحساس بالشخصيات وبالمكان. إن كل الشخصيات تبدو مأزومة ثم تنفرج أزمتها في النهاية على نحو ما (وكان يمكن بالتالي أن تطلق المخرجة على فيلمها “أمل” فربما يصل المعنى بصورة أوضح) ولكن تلك “الأزمة” التي تشير إليها المخرجة ليس من الممكن إعتبارها- دراميا- أزمة، فلا هي أزمة وجود، ولا هي أزمة إجتماعية لشخوص في مجتمع لا يعترف بالقدرات الشخصية للأفراد، ولا هي أزمة صراع طبقي، حيث يناضل الفقير ضد إستغلال الطقبات الأعلى له ويتمرد على قوانين تلك السلطة الظالمة، ولا هي الأزمة “العاطفية” التي تتعلق بتناقضات سيكولوجية.. إنها مجرد تطلعات شديدة الهامشية بل وطفولية أحيانا تجنح إلى شطحات واهية، ولا تصل إلى مستوى تفجير الحس الدرامي ولو على مستوى خافت تحت جلد الشخصيات.. إن قصارى ما تتطلع إليه الممرضة “إبتسام” مثلا هو الحصول على الترقية، وهي تريد أن يساعدها الطبيب في تحقيق ذلك، وربما تشعر تجاهه ببعض المشاعر لكنها لا تستطيع مفاتحته في الأمر بسبب خجلها، في حين أنه مشغول بنفسه، وبوالدته التي تحتاج للرعاية في نهاية الأمر.
والفتاة التي تعمل في حمام السيدات في المول التجاري لا يبدو أن لديها أي “عشم” في أي شيء سوى في الحصول على ا يجود به المترددات على الحمام من “بقشيش”، ثم نراها فجأة وقد انتقلت للعمل في محل أزياء كأنها حققت شيئا كبيرا في حياتها.. والشاب الذي يتسكع أمام المول التجاري لتسلية المارة يحصل على عمل في قيادة مصعد. إذن الجميع تنفك أزمته ويتحقق ولو من خلال الوصول إلى شيء أعلى مما هو فيه، وإذن فلا توجد أي مشاكل: إجتماعية أو إقتصادية أو سياسية في المجتمع، تسبب الإحباط للطبقات الفقيرة، بل إن الطبقة الوسطى (التي تعرض أيضا نماذج متعددة لها) تتحقق بكل سهولة، فالطبيب يحصل على البعثة التي يتطلع إليها، والفتاة التي تستمتع باللعب مع أطفال الأخرين تدرك أنها في ذلك متناقضة مع خطيبها فتتركه لكي يسافر وحده بعد عثر على فرصة جيدة للعمل في ماليزيا!
أما المرأة المتزوجة التي لا تنجب أطفالا فهي تقيم علاقة موازية بريئة- بتشجيع من زوجهاالغائب- مع جارها المتقدم في السن، الذي يشعرها بأن في الحياة أحاسيس كثيرة أكثر جمالا من متعة الإنجاب.

هذه الأفكار التي يمكن تلخيصها في عبارة أو إثنتين او حتى في قصة قصيرة جدا لا تتجاوز صفحة واحدة، يمكن أن تكون جيدة على الورق، أما في فيلم سينمائي فهي تحتاج إلى مخرج بارع يتمتع بالخبرة، لكي يستطيع أولا تعميقها على مستوى الفكرة، وما ينتج عن الفكرة من “رؤية” ما.. إنسانية وفلسفية، والانتقال فيما بين شخصياتها ومواقفها المختلفة بسلاسة، مع التركيز على الفكرة الرئيسية.. وهي بالتأكيد ضائعة في هذا الفيلم، بل إنك من خلال أسلوب الإخراج (وهو للأسف مشابه كثيرا لأسلوب المسلسلات التليفزيونية التي تتصف عادة بالإطالة المتعمدة والإيقاع الهابط البليد) لا يمكنك أن تعثر على أي صلة بين تلك القصص والشخصيات والحكايات التي تبدو متشابهة أحيانا، مبتعدة عن بعضها البعض في أحيان أخرى.
أسلوب الإخراج الذي يعتمد على التصوير المسطح الذي لا يمنح أي أبعاد للشخصيات في علاقتها بالمكان وبالزمن، يجعل الفيلم أيضا يبدو وكأنه من أفلام الهواة أي تلك الأفلام التي يصنعها مخرج عن أصدقائه وأفراد دائرته المقربين. ولعل مما يرسخ هذا الشعور في ذهن المرء وهو يشاهد الفيلم، ذلك الأداء التمثيلي الضعيف والعشوائي إلى درجة مثيرة للتساؤل.
إن فيلما يقوم على تعدد الشخصيات لا ينبغي فقط أن يعتمد أساسا، على سيناريو جيد محبوك يربط بين الشخصيات وينتقل بين المواقف المختلفة في سلاسة وبراعة بحيث لا يفقد أبدا البوصلة أو بؤرة الموضوع، بل يجب أن يكون ما يعرضه من موضوع يحمل شيئا مثيرا لاهتمام المشاهد، لا مجرد تصوير للحظات لا تؤدي إلى أي إستنارة حقيقية أو وعي بموضوع ما أو بقيمة إنسانية كبيرة، بدعوى أن “السينما الجديدة” لا يهمها الموضوع بل هي سينما تصوير حالة… فما هي هذه الحالة هنا وما علاقتها بعالمها أوبمحيطها الثقافي في الوقت الحالي أي في الزمن الذي يدور فيه الفيلم، وهل من الممكن إعتبار هذا فيلم مصري يشهد على ثقافته الخاصة في الوقت الحالي ويدل عليه!
ينبغي أيضا أن يعتمد فيلم من هذا النوع، على مجموعة من الممثلين المحترفين الذين يمتلكون القدرة على تجسيد الشخصيات بإقناع. فالبساطة رغم سهولتها الظاهرية، لا تعني أن أي ممثل يمكنه أن يؤدي دورا ما مهما بدا الدور بسيطا.. بل إن الممثل الجيد يمكنه أيضا أن يضفي على دور ضعيف أبعادا أعمق بأدائه. إننا هنا أمام ممثلين يؤدون كيفما أتفق، أي أن المخرجة لا تملك عليهم ضابط ولا رابط، بل هناك الكثير من التنافر في جوانب كثيرة، بين مجموعة الممثلين جميعا، سواء على المستوى الشكلي أو على مستوى القدرة على الأداء في تناغم معا أمام الكاميرا.
السينما الجديدة “المستقلة” ليس من الممكن أن تتطور بالثناء على كل ما يأتينا منها من أفلام فقط لكونها تختلف عن الأفلام السائدة، ولا بمديح كل ما يظهر من مخرجيها،  بل بالتقويم  والترشيد والنقد. نعم هناك أفلام تكشف من البداية، عن موهبة مخرجيها، ولكن هناك أفلام أخرى تجعلنا تدعو مخرجيها إلى العودة من أجل تحصيل المزيد من التعلم، وتطوير علاقتهم بالسينما. فالأفلام لا تصنع بالنوايا الحسنة، وتحريك إثني عشر ممثلا والسيطرة على أدائهم، لا يتحقق بدفعهم إلى الإرتجال في الحركة والأداء والحوار، على نحو عشوائي، بل يقتضي الأمر سيطرة حرفية عالية على كل مشهد، وهو ما لا يتوفر في فيلم “عشم” بكل أسف!.


إعلان