“ريمون جباره” يفتح جرح غياب التوثيق اثقافي
بيروت – الجزيرة الوثائقية
يضع الفيلم الوثائقي “ريمون جبارة” العاملين في مجال الثقافة والفن، والمهتمين بهما، أمام تحد هام، وكبير، ذلك لأنه فتح الباب للتوثيق الحقيقي للحياة الثقافية والفنية، بعمق واستفاضة تحفظ حق الأعمال، من جهة، ولأن الفيلم جسد أهمية التوثيق برجوعه إلى الأعمال الفنية التي جرت على فترات زمنية أبان ازدهارها في لبنان، وأيضا لأنه ربط بين الفنان، والحقبة التي عايشها بما فيها من أعمال فنية وثقافية، وما جرى خلالها من تطورات وأحداث كان ريمون جبارة أحد الوجوه التي عبرت عنها، ومن خلاله جرى التعريج على بقية الفنانين، والأحداث التي عايشوها، وكيفية تناولهم لها في مختلف الوسائط الإعلامية من مسرح وسينما وتلفزيون..
الفيلم للمخرج نصري براكس، وهو أول عمل كبير له، جاء نتاجا لوثائقي صغير يوثق لجبارة بهدف تكريمه في إحدى الجامعات اللبنانية، وبسبب ما تربطه به من صلة كأستاذ له خلال دراسته الاخراج المسرحي في الجامعة اللبنانية.
ويروي براكس بداية رحلته مع الفيلم الذي استغرقه سنتين، فتحدث ل “الجزيرة دوك” عن سببين لاختياره لريمون جباره: “مسألة شخصية، وما يمثله ريمون جبارة. على المستوى الشخصي، فقد تعرفت عليه عندما شاهدت مسرحيته صانع الأحلام” أواخر الثمانينات، ودهشت بها، وما تزال عالقة في ذهني كأجمل مسرحية حضرتها. لم أكن قد التحقت بالجامعة في ذلك الحين، وكانت المسرحية من أكثر العناصر التي حببتني بالمسرح، وعندما دخلت الجامعة اللبنانية في معهد الفنون الجميلة، كان ريمون استاذي، وكان مشرفا لاحقا على مسرحية التخرج التي كانت مشروعي لنيل الجدارة. وبقيت علاقة الصداقة به بعد التخرج حتى اليوم”.
عن بداية توجهه لوضع الفيلم، روى أن “جامعة سيدة اللويزة أحبت تكريمه، وطلب مني وضع فيلم وثائقي قصير عنه لحفل التكريم. بدأت أجمع المادة وأجري المقابلات عنه، وبما أني كنت مقربا منه، وأعرف الذين تعاونوا واشتغلوا معه، توفرت لدي مادة كبيرة عنه فكان ذلك حافزا لأن أطرح على الجامعة أهمية وضع فيلم أكبر حجما، فوافقت، وانطلقنا في إطار توثيقي مركز، وأجرينا أبحاثا أوسع، وجمعنا أفلاما وصورا قدر الإمكان، إلى أن تجمعت لدينا مادة تغطي فيلما من أكثر من ثلاث ساعات ونصف، فرحت أختصر إلى أن اقتصر العمل على ساعتين”.
وقال أن أبرز الذين حصلت منهم على شهادات ومقابلات كانوا هاني سلامة، وجوزف بو نصار، ورفعت طربيه وغبريال يمين، ومي منسى، وجوليا قصار، وأنطوان كرباج، هم رافقوه كل في مرحلة معينة وعلى هذا الأساس تم الاختيار، وأخذت نموذجا الفنان أنطوان كرباج الذي مثل معه في فرقة المسرح الحديث، ومنير أبو دبس، وصولا إلى الجيل الجديد الذي كان شاهدا على أعماله واشترك بها”.

عما يميز فيلمه عن بقية التوثيقيات للفن، قال إنه “يربط الحركة المسرحية من خلال ريمون جبارة بالتطورات التي عاشها البلد، والظروف السياسية التي عايشناها في المراحل المختلفة، فلا يمكن فصل المسرح عن البيئة التي جاء منها. هكذا ربطنا مسرح ريمون جبارة بالحركة المسرحية الحديثة بلبنان، وبالوضع العام. وهذه أول تجربة متكاملة لي في السينما والتوثيق المحليين، وأول تجربة متكاملة لي، ذلك أنه سبقته تجارب سينمائية صغيرة، لكن تجربتي واختصاصي هي في المسرح لأنني خريج قسم المسرح، ومن هنا أعتبر فيلم ريمون جبارة أول تجربة كاملة”.
ويتحدث عن أهمية التوثيق فهو “يخرج برسائل مكثفة ومختصرة ومباشرة ، ويمكن إيصالها بسرعة كبيرة. من خلال تجربتي بالفيلم عانيت من غياب التوثيق، ولذلك لم يكن من السهل الحصول على الوثائق والمواد التوثيقية، وقمت بذلك بجهد شخصي. وهناك غياب لتوثيق المسرح، والحركة الثقافية بشكل عام، وهذا ما يجعلني أدرك أهمية التوثيق”.
ويتابع أن “المخاطر الأساسية لغياب التوثيق هو الخوف من فقدان الهوية،فالهوية ترتبط بشكل كبير بالهوية الثقافية، وهي التي تميز شعبا عن سواه، وإذا أزلنا من الذاكرة الجماعية -مثلا فيروز والرحابنة وجبران واقطاب المسرح والسينما والأدب والذين قاموا بالفن والتراث، فما الذي يبقى من الهوية؟ يبقى الناس الذين يعيشون ليأكلوا ويشربوا ويتقاتلوا؟”
ويعتبر براكس أن “غياب التوثيق خسارة كبيرة لأن المسرح اللبناني شهد ازدهارا بين الستينات والثمانينات، فقد كان هناك حركة وفرقا وممارسة مسرحية، وتجارب كثيرة مختلفة، وكانت الصحافة تواكب الحركة المسرحية، وتغطيها، وكان للحركة المسرحية جمهور متكامل بين الصحافة والمسرح والمسرحيين” موضحا أنه “بين 1965 و1975، من كانت لديه فرقة مسرحية، تمكنت من تأمين عيشها من المسرح. وكان هناك الكثير من المسارح، والتجارب المسرحية العديدة والمسارح الجامعية. لكن اليوم هناك تخبط في الجو المسرحي، رغم وجود مسرحيين جيدين وبادرات مسرحية جيدة”.
وتناول براكس جانبا آخر من أهمية ريمون جبارة ذاكرا أنه “مشى بمسرحه عكس تيار الحرب، وقبل الحرب أسس مسرحيتين، وفي الحرب كانت أكثر فترة انتاجية له، وأهميته ردة الفعل التي أقامها على الأحداث التي كانت جارية في حينه. ومن هنا تظهر أهمية المسرح من خلال ارتباطه بحياة المجتمع، وكم يجب أن يكون ردة فعل على ما يجري فيه”.
وعن رغبته في متابعة التوثيق المسرحي، قال: “لدي رغبة في الخروج من الموضوع المسرحي إلى ما هو مختلف لكي لا أكرر نفسي في هذه المرحلة. وما يهمني أن يكون عملي مرتبطا بهوية بلدي لبنان، وأن يكون مرتبطا بالهوية والذاكرة الجماعية والقضايا المهمة في حياة المجتمع”.
وفي سؤال عن الدافع لاهتمامه بالمسرح ، قال: “منذ أيام المدرسة كنت أكتب التمثيليات للتمثيل في المناسبات المدرسية، وكان الدافع انجذابي إلى التلفزيون في فترة ظهوره ونهوضه، وكانت تستهويني البرامج والمسلسلات، وأذكر أنني كتبت مسرحية تستغرق ساعة ونصف، لكن مدير المدرسة قال لي لو شئت أن أعمل مسرحية بساعة ونصف لعملتها لشكسبير. كنا نقدم مسرحيات من ربع أو ثلث ساعة، وهي مشاهد مسرحية، ومن هنا بدأ الحلم بمسرح أكثر تطورا”.
وختم ملاحظا أن “المسرح يشكل دافعا للتعبير عما بداخل الانسان وهذا واحد من دوافعي للتوجه للمسرح”.