قصة “النمور الوردية” سطورها الأخيرة كُتبت في دبي
وثائقي يربط بين ظهور العصابة ونتائج الحرب اليوغسلافية
قيس قاسم
لولا، شهادات أعضاء من منظمة “النمور الوردية” المختصة بعمليات السطو على أكبر محلات المجوهرات في العالم، ما كان لفيلم “اكسر وانفذ: قصة النمور الوردية” أن يحظى بقبول كبير. فالشهادات المسجلة لأول مرة هي من أعطته قيمة تسجيلية وألبسته لبوس الدراما التشويقية وهي من ستعطي للوثائقي مصداقية كبيرة فتجعل منه واحداً من الأفلام القليلة التي وصلت الى خفايا منظمة اتسم عملها بالسرية المطلقة لدرجة خلقت حولها الأساطير.
لم يقتصر عمل المخرجة هافانا ماركينغ على ما قاله أعضاء من المنظمة بل أدخلت اليه عناصر جديدة منحت للفيلم، على المستوى السردي، تبيانات وتعدد مستويات عمقت من تكوينه، فصار، بدلاً من أن يكون فيلماً عن عصابة اجرامية غامضة، فيلماً تحليلياً ربط ظهورها في يوغسلافيا بالمتغيرات السياسية الهائلة التي أعقبت موت رئيسها تيتو وبروز نزعة الانقسام القومي التي أنتجت بلداناً جديدة تخلصت من وحدة شُدّت اليها بالقوة وكمحصلة سياسية وعسكرية فرضتها نتائج الحرب العالمية الثانية، وسيعبر الوثائقي عن كل الترابطات الشخصية والعامة، ذات الصلة المباشرة بالموضوع، عبر ثلاث أصوات هي: “مايك”، الرجل الذي لم يعلن عن حجم مسؤليته في المنظمة إلا أن ما سيتحدث به يشي بمكانة كبيرة يحظى بها في التنظيم المعقد والمتعدد الجنسيات. “ليلى”، المرأة التي أرتبطت بعلاقة حب صادقة مع أحد أعضائها، والذي قادها للعمل معه والثالثة الصحفية اليوغسلافية ميلينا ميلتش، التي راحت تبحث عن المنظمة بعد أن سمعت من وسائل الاعلام أن قادتها هم من نفس البلد الذي جاءت منه. ثلاثة أصوات بمجموعها ستتشكل حكاية “النمور الوردية”.

عنوان الوثائقي “اكسر وانفذ”.. جاء من التعبير الشعبي المستخدم في اللغة الانكليزية لوصف السرقات السريعة التي يقوم بها بعض اللصوص معتمدين فيها على عنصري المفاجأة والسرعة، واللتان أتفقتا مع نفس الأساليب التي يعمل بها أعضاء عصابة “النمور الوردية”. فعملياتهم كسبت صيتاً كبيراً لأنها اعتمدت الأسلوب ذاته بحيث لم تستغرق أكبر عملياتهم سوى دقيقتين أو ثلاثة. انها سرعة مذهلة تعبر عن تخطيط مسبق عال الدقة، إذا ما عرفنا أن معظم محلات بيع المجوهرات المسروقة كانت خاضعة لرقابة مشددة ومحمية بحراسة الكترونية حديثة، وهذا ما أضفى عليها طابعاً خاصاً، تشويقياً، أغوى وسائل الاعلام على نشر تفاصيل كل عملية من عملياتهم التي أخذت بعداً عالمياً وهو نفس السبب الذي سيثير حماسة الصحافية اليوغسلافية لإجراء تحقيق موسع عنهم.
حين وصلت الى اثنين منهم، وعدتهم الصحافية بأن أصواتهم المسجلة ستبدل بأصوات أخرى وعوضاً عن صورهم الحقيقية ستستخدم رسوماً تخطيطية، وأن كل ما من شأنه كشف هويتهم سيستبعد من الأشرطة التي سجلتها في أماكن سرية لهم. لقد تم الاتفاق على كل التفاصيل بدقة متناهية وبعدها سمح لكاميرة هافانا ماركينغ بتسجيل قصة العصابة التي ظهر اسمها أول مرة في بداية عام 2000، حين لاحظت أجهزة الشرطة الأوربية وجود بصمات مشتركة لعمليات سطو استهدفت محلات مشهورة لبيع المجوهرات في سويسرا وفرنسا باديء الأمر ثم لحقتها بعمليات في مناطق بعيدة مثل دبي والبحرين، ما دفعهم للاستعانة بالأنتربول لجمع أكبر قدر من المعلومات عنهم. لقد تأكد من وجود رأس مدبر للعمليات وسيعترف “مايك” كواحد من أعضائها بأنهم يعملون في شبكة معقدة قوامها حوالي 200 شخص يُقيمون في بلدان مختلفة ويكلفون بمهام جزئية، وأن عملياتهم تتسم بالسرعة فهم يدخلون خطفاً يكسرون الواجهات الزجاجية ويسرقون محتوياتها، ثم يهربون بذات السرعة التي دخلوا بها وتسجيلات كاميرات بعض المحلات التي سطو عليها تظهر طريقة عملهم وكأنها مشاهد من أفلام “أكشن” ليست لها صلة بالحقيقة!
ما يعطي للوثائقي عمقه ليست تلك التسجيلات المثيرة، بل شيء آخر أدركت ماركينغ أهميته ويتمثل في البحث عن أسباب ظهور العصابة نفسها في يوغسلافيا السابقة، خاصة وأن “مايك و”ليلى” قد حددا لها مدينة مونتينيغرو كنقطة انطلقوا منها وصربيا كمركز أداروا فيه عملياتها. لقد أرادت أول الأمر التعريف بيوغسلافيا وكلفت الصحفية ميلينا ميلتش بالتعليق على الأفلام التسجيلية الترويجية للسياحة فيها وغيرها عن الحرب والموت الفظيع، ومن خلالها ستتأسس الخلفية التي تفسر ظهور العصابات والعنف وصولاً الى الحرب الأهلية الشنيعة التي شهدتها البلاد. لقد عادت عبر تسجيلات الفيديو الى “الزمن الجميل” يوم كانت يوغسلافيا موحدة والحياة فيها رغيدة ولكن وبموت موحدها انفتحت أبواب جهنم عليها فتمزقت، ومزقت أرواح الناس فيها. ومثل كل الحروب كانت نتائجها ثقيلة: بطالة، ميل متزايد للعنف، انعدام الثقة بالآخر ورغبة دفينة بالانتقام! عوامل شجعت على نشر ثقافة التلاعب وسرقة الآخر وهي نفسها التي ستدفع “مايك” للهروب أولاً من البلاد ثم الانضمام الى “النمور الوردية” وربما الى تأسيسها؟. على مستوى أكثر عاطفية جاءت “ليلى” الى العصابة من ذات الخلفية اليوغسلافية الممزقة ولكن بدوافع كان الحب أهمها ثم ومع الوقت صارت طرفاً في عمليات ما كانت لتنجح لولا “شطارتها” وقدرتها على التمويه ودخول المحلات الغالية من أبوابها أولاً تمهيدا لإقتحاما فيما بعد. قصة “ليلى” تخفف من قساوة صورة “النمور الوردية” وتعطيها بعداً تراجيدياً كان الوثائقي بحاجة اليه. بدونه لبدت “ليلى” وغيرها وكأنهم آلات بشرية شريرة هدفها السطو ونهب أموال الناس بالقوة، وكأنهم جبلوا على هذة الأفعال بل وقد ولدت معهم! لقد أردات عبرها الجمع بين “الارادوية” وبين “المصير”. وفي شخصية “ليلى” وحياتها أجتمع العنصران بتناغم مدهش.

مثل كل جريمة وحياة عصابة منظمة، كان لابد لها من نهاية، ونهاية قصة “النمور الوردية” كانت في دبي، بعد عملية خطيرة قاموا خلالها بإقتحام محلات لبيع المجوهرات في مركز “وافي مول” التجاري. لقد بَيّنت التسجيلات التي عرضها الوثائقي كيف دخلوا المركز بسيارات أستأجروها ثم اقتحموا بها محلات وسرقوا مجوهراتها وهربوا، وهذة المرة ليس بعيداً فالشرطة الامارتية تمكنت من تحليل ما خلفوه ورائهم من آثار. لقد كُتبت الأسطر الأخيرة من قصتهم في بلد عربي بعد أن انطلقوا من شرق أوربا ولفوا العالم، لكن “مايك” ما زال حياً وقد عاد الى موطنه خائفاُ من وصول الشرطة اليه و”ليلى” تركت حبيبها رغبة في بدأ حياة جديدة بعيدة عن “النمور الوردية” التي ربما ستظهر مثيلات لها في العالم ما دامت نفس الأسباب التي أنتجتها قائمة مثل: الحروب والانقسامات العرقية والمذهبية.