“هُمُ الكلاب…”: فيلم الحدث بالمغرب لسنة 2013

أحمد بوغابة / المغرب

• توطئة…

“هُمُ الكلاب…” فيلم مغربي يثير الإعجاب أينما حل منذ أول عرض له بالمهرجان الشهير “كان” في نهاية شهر مايو من السنة الجارية ضمن إطار فقرة “السينما المستقلة”- التي تشرف عليها الوكالة الفرنسية لتوزيع أفلام السينما المستقلة -. وقد حصد مجموعة مهمة من الجوائز في ظرف نصف سنة، وكلها يتقاسمها الفيلم أو ممثله الرئيسي حسن بايديدة. كانت آخر جوائز له هي التي فاز بها في مهرجان دبي الأخير حيث حصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة وكذا جائزة أفضل ممثل. وقبل دبي، حصل على أفضل فيلم في مهرجان قرطبة بإسبانيا وكذا بمهرجان زاكورة بالمغرب وأفضل ممثل بمهرجان الرباط بالمغرب أيضا. وحظي الفيلم باهتمام كبير من لدن جمهور مدينة القنيطرة ونواحيها إبان عرضه في الملتقى الثاني للسينما وحقوق الإنسان المنظم من طرف اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان الرباط/القنيطرة التابعة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان (مؤسسة رسمية) إذ كان ثاني عرض له بالمغرب. وعُرض في مهرجان مراكش في بداية الشهر الجاري (دجنبر) خارج المسابقة ضمن فقرة “نبضة قلب”.
سيبدأ عرضه التجاري قريبا في المغرب، وفي هذا الإطار تخصص له الخزانة السينمائية بطنجة حفلا متميزا يوم الجمعة 20 دجنبر في الساعة السابعة مساء بحضور مخرجه وطاقمه الفني والتقني.
يمكننا القول بأنه أصبح ظاهرة سينمائية في النصف الثاني من سنة 2013 بالساحة السينمائية المغربية. ويقف وراء هذا الفيلم شاب في عنفوان عطائه السينمائي إنه هشام العسري، ويدعمه المنتج والمخرج الشاب نبيل عيوش الذي أشرف على إنتاجه. ويُعد نبيل عيوش واحد من أهم ركائز السينما في المغرب منذ عقدين.
بدأ هشام العسري علاقته بالسينما من خلال الكتابة عنها كنقد ونصوص أدبية جميلة وهو لم يكمل حينها عقده الثاني (للإشارة فقط، فهو له نصوصا مسرحية وشعرية جيدة منشورة باللغة الفرنسية) في الوقت نفسه الذي كان يمارس حقه الإبداعي في فن الفيديو إذ قدم فيه أعمالا عميقة في إبداعها، ليكتب أيضا سيناريوهات لعدد من المخرجين المغاربة أو المساهمة في أعمال تلفزيونية وسلسلات السيتكوم Sitcom لصالح شركة نبيل عيوش “علي إن بروديكسيون”.

المخرج هشام العسري

أكد هشام العسري عند شروعه في الإخراج السينمائي أنه متميز حقا إذ لا تمر أعماله مر الكرام بقدر ما تثير الإعجاب والجدل والمتابعة معا لأنه كسر المفهوم التقليدي للحكي السينمائي الذي كان سائدا في السينما المغربية. كما نجح في الاستغلال الجيد للتقنيات الجديدة التي منحتها الوسائل المعاصرة في الصورة والصوت بإخضاعهما لرؤيته الفنية بذكاء كبير فيُمتع المشاهد بصريا وفكريا. إنه يهتم كثيرا بجمالية أفلامه دون أن يكون ذلك على حساب مضمونه والعكس صحيح أيضا.
بعد سلسلة من أعمال في مجال ما يُسمى بفن الفيديو، وهو الفن الذي كان يتأسس حينها في المغرب إبان سنوات التسعينات، ثم إنجازه عددا من الأفلام القصيرة التي امتحن فيها أسلوبه الذي أعلن عنه بوضوح بعد ذلك خاصة في أفلامه الطويلة: “دم لحديد” (دم من حديد 2006)، “شعب المكانة” (“جمهور الساعة” وهو جمهور الكرة الذي يجلس جهة الساعة في الملعب والمعروف عنه الشغب 2007)، “النهاية” (2011).

• جرأة في الإبداع السينمائي…

لنعد إلى فيلم “هُمُ الكلاب…” الذي يضعنا منذ لقطته الأولى في الحدث السينمائي بامتياز حيث نرى فماً في دائرة صغيرة محاطة بالسواد تتحدث بكلام لا نسمعه ولا نتمكن من فرزه بينما يمر الجنريك أمامنا. ثم نبدأ نسمع بعضا من الكلام الذي يتقطع ولا يمر بسهولة إلى مسامعنا، وهو إيحاء جميل لكلام مقموع لا يسمح له بالتعبير إلا بجرعات قليلة غير واضحة المعالم لكن يبين أن هناك من يحتج في العمق وبعيدا في الأفق رغم أن صوته لا يصل… أو يصل مجزأ ومقطوع. وبعد دقيقة ونصف نسمع من الفم / مكبر صوت تقليدي لعبارات احتجاجية لمجموعة من الشعارات المطلبية الواضحة :
علاش جينا واحتاجينا؟ (لماذا جئنا للاحتجاج؟)
المعيشة غاليا علينا (بسبب غلاء المعيشة)
الماء والضو غالي علينا (فاتورة الماء والكهرباء غالية علينا)
على التعبير لي بغينا (نريد حرية التعبير)
الجماهير تقول (الجماهير تطالب)
الحل الوحيد من كل الحلول (الحل الوحيد من بين كل الحلول هو)
تغيير الدستور
تحرير القضاء والإعلام
إسقاط النظام
ليظهر بعد ذلك في مشهد موال بأنها شعارات لحركة شبابية معروفة في المغرب ب”حركة 20 فبراير” التي تأسست سنة 2011 في إطار ما سُمي بالربيع العربي. وأن هذا “الربيع” وصل إلى المغرب أيضا وسُمح له بالتعبير. ووسط هذا الحشد من الجماهير المحتجة يظهر أيضا طاقم لتلفزة محلية تريد إنجاز روبورتاجا حول المظاهرة لكن هو في الواقع محاولة التشويش عليها وادعاء خطاب هدفه استيعاب الاحتجاج وبتقديم صورة عنها وكأن الديمقراطية وحق التظاهر ورفع شعارات جذرية مسموح به اعتبارا “للاستثناء المغربي”. وحتى بهذا الادعاء، فإن الطاقم يجد نفسه أمام مشاكل تقنية واهية في الصوت فتتقطع المراسلة وتتكرر التجربة مرارا دون جدوى نظرا لسذاجة الصحفي الذي يتحدث عن هندامه ومشاكله الذاتية والخاصة جدا التي تحصل له مع خطيبته بينما في خلفيته شباب يطالب بحل مشاكل الشعب. وآخرين في أوضاع مرثية. لذلك يصفهم الصحفي ب”الأوباش”. وتصريحاتهم كلها مطالب تخص العمل بمعنى الغياب التام للوعي السياسي باستثناء الشاب الذي كان يرفع شعارات في بداية الفيلم والذي سمعناه يحتج على الصحفي الذي لم يسمح له بالتعبير، علما أننا لم نسمع تصريحه من قبل مما يعني أن الصحفي رفض التسجيل معه. وهي طريقة ذكية من طرف المخرج للحديث عن الرقابة. مشاهد متتالية مشحونة بالإشارات السينمائية، صورا وأصوات، ووضعنا في الشرط التاريخي الحالي، ثم يسافر بنا في الماضي من خلال شخصيته الرئيسية لنفهم أن ما يجري تراكما للماضي ينبغي معرفته والاطلاع عليه وقراءته حتى نتساءل لماذا حصل؟ وماذا جرى؟ وبذلك يقرأ التاريخ لما عُرف في المغرب بسنوات الرصاص، وهل تغير شيء ما حاليا في الحاضر؟

• السينما: صورة … وصوت أيضا

يتأكد في هذا الفيلم الاهتمام الكبير الذي يوليه المخرج هشام العسري للشريط الصوتي  ك”مجال” مستقل ومتمم ومحايد للصورة/اللقطة/المشهد لهذا يفرض على المُشاهد الانتباه الجيد لمختلف الأصوات في الفيلم سواء الموسيقى (وقد وظف موسيقى مجموعة المشاهب وهي المجموعة التي قمعتها السلطة وخلقت لها متاعب كثيرة) أو مختلف المؤثرات الصوتية الأخرى المتعددة الآتية من المذياع (الذي ينقل ما يجري من أخبار في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا بينما المغرب نسمع عنه تجاوز ذلك) أو على لسان الناس العاديين سواء الذين تم تصويرهم كحالات اجتماعية تدخل في صيرورة الحكي السينمائي أو التي تنبعث من خارج إطار اللقطة (خارج الكادر) كأصوات خارجية لها المعنى (voix-off) وليس الاقتصار على حوار الشخصيات الأساسية فقط التي تظهر لنا في الإطار “الرسمي” للشاشة والذي لا يشكل فيه جزء من كل المحتويات. يربط أيضا ما يجري بالمغرب مع يدور في الأقطار العربية التي ثارت شعوبها حين كان الحديث على الإرث الذي يتنازع حوله أبناء الرجل “المجهول” موظفا صوت معمر القدافي في خطابه مهددا شعبه. 
ويعود المخرج من جديد لإعطاء للصوت وظيفته الدرامية حين إلتقى الرجل المجهول بإبنه حكيم، في نهاية الفيلم، حيث نعود إلى الانقطاع في الصوت بين فنية وأخرى، وهي لحظة المحاسبة بين الأب وإبنه إذ كانت الكلمة للإبن أساسا بينما الأب يستمع. لكننا نحن المشاهدون لا نسمع كل شيء، لم نطلع على ما دار بينهما، ما زلنا نجهل جزء من الماضي، لم تُعط لنا الفرصة لنعرف التفاصيل. أشياء كثيرة مازالت خفية ومخفية ومسكوت عنها. ماذا قال الإبن؟ وماذا قيل لحظتها؟ ولماذا صمت الأب؟ من له الحق منهما؟ وينقطع الصوت أيضا، بنفس الطريقة، حين نسمع حضور البوليس مثلا.

الممثل حسن بايديدة

وبنفس القوة يفرض المخرج على المشاهد أن ينتبه بعمق لمحتويات اللقطة/المًشاهد التي يبنيها بِسُلَّمٍ يشمل مستويات عدة بين واجهتها وعمقها وخلفياتها. بمعنى عدم الاهتمام بالشخصيات التي تتحرك أمامنا فقط بل أيضا بالمحيط الذي توجد فيه بألوانه وإضاءاته، خاصة وأنه اعتمد بشكل ذكي على فريق تلفزيوني كعنصر لتشخيص نوعا من الواقعية لتجاوز الواقعية المفروضة عليه عنوة، غير عابئ بالناس العاديين الذين يلتفون عادة حول كاميرات التلفزيون أو إلى الشخصية الرئيسية في تحركها، إنها جزء من ثقافة سائدة حول الانبهار بالكاميرا والتلفزيون. فقد عبر عنها المخرج في مشهدين: هما مشهد الشخص/المواطن صاحب اللحية الذي يحرض” الشخصية المجهولة” على مطالبة بحقه في التعويض المادي من طاقم التلفزيون الذين يعتبرهم يستغلونه. وأيضا حارسا السيارات (الرجل والمرأة) أمام باب النقابة العمالية المغلق (لاحظوا الخلفية: نقابة عمالية مهمة مغلقة الأبواب) حيث يتشاجر الحارس الرجل مع الحارسة المرأة على من يتحدث الأول إلى التلفزيون، وعن الكلام الذي ستبثه أو تحذفه الرقابة (عطفا على النقابة فإن الشخصيتين – المرأة والرجل- لا يتمكنان من النقاش الهادئ والمقنع بينهما بل يحسمان خلافهما بالشجار الذي بدآ به. إنهما كما كثير من الشخصيات التي ظهرت في الفيلم، هي على الهامش أو مُهمشة أو غير قادرة على التعبير وإيصال رأيها باستثناء الشاب الذي كان يرفع الشعارات ويبدو عليه الوضوح في الرؤية. لم نسمعه يتحدث لأنه لم يسمح له فريق القناة بالتعبير ويريدونه أن يصرح لهم ما يريدونه). هذه الحالة العامة تجتمع في الشخصية الرئيسية التي لا نعرف إسمها فهي مجهولة عندنا – نحن المشاهدون/الجمهور- وعند فريق القناة لذا ينادي عليه الصحفي ب”با” (أبي) بينما يعتبره المصور/ الكاميرامان مجرد معتوه. وهو لا يتذكر أن له إسما بل رقما 404
وبما أن كل شيء غير واضح، وكل شيء يتداخل فيما بينه ويتقاطع وفي الوقت نفسه يتنافر، فإن الاختيار نفسه شمل التصوير الذي كان مرافقا لهذه الخريطة المتشعبة وذلك بتكسير القوالب المعروفة بعدم احترام المخرج لها بتاتا. بمعنى عدم خضوعه للتصوير الكلاسيكي في تأطير لقطاته بالسُّلَّم المتعارف عليه بقدر ما جعل الكاميرا شخصية سينمائية أيضا (اختلطت هنا كاميرا الفريق التلفزيوني في الفيلم مع كاميرا الفيلم نفسه حيث تشارك بفعالية في الأحداث، تتقدم أو تتراجع إلى الخلف بعفوية مطلقة، يصعب الحديث هنا على تقنية ترافلينغ، ولا تحترم – أي الكاميرا/ بإيعاز من المخرج – زوايا التصوير حتى التي تكون أثناء فترات الهدوء والهدنة. فقد ساعدت الكاميرا الحديثة أن تشارك في “اللعبة” لتسهيل التوتر القائم في الفيلم الذي هو توتر طبيعي في زمن الاحتجاج والثورة ومراوغة الرقابة أثناء التصوير حتى يكون الفيلم واقعيا إلى حد ما.

• الممثل/ القضية…

إن نجاح المخرج هشام العسري في فيلمه “هُمُ الكلاب…” يعود أيضا إلى ممثل تواطأ معه كليا بدون تنازل فأعطاه “شخصية” مُذهلة، أدت دورها بدون تصنُّع أو مبالغة، تقمصت الدور بكل معاناتها، وواجهت الكاميرا بلامبالاة رغم أن الممثل هو في الأصل رجل المسرح إلا أنه عرف كيف ينتقل بين عالمين مختلفين نظرا لوعيه المتقدم بخصوصية فن السينما. فبقدر ما أفلح المخرج في اختياره للممثل حسن بايديدة فإن هذا الأخير وجد في هشام العسري قاطرته “للاستيلاء” على الشاشة بفنية خالصة. هذه المعادلة الإبداعية التي جمعتهما هي التي جعلتهما يتقاسمان جوائز الفيلم بينهما (وطبعا وجدا متواطئين كُثُر حولهما خاصة مدير التصوير الشاب علي بنجلون، ومهندس الصوت عصام الخياط الذي أعطى للفيلم قوة خاصة وأن الصوت يمكنه أن يكون إحدى علامات التشخيص، دون إغفال صفاء بركة التي أشرفت على توضيب – المونتاج – الفيلم بفنية سلسة رغم تعقيدات الموضوع والتصوير والصوت)
لم يكن حسن بايديدة مجرد ممثل محترف في هذا الفيلم وإنما أقنعنا أنه يحمل قضية جد هامة مثل تلك “العجلة” التي لم تفارقه طيلة الفيلم وهي تُعد جزء من بقايا ذاكرته المنسية بحيث يتحول إلى وحش حين يأخذها شخصا منه لنقتنع أنها هي أيضا “شخصية” سينمائية وليس مجرد إكسسوار. إنها “عجلة” التاريخ وما تركته من نذوب على حياته، هي جزء من ذاكرة الماضي طامحا وطامعا في أن تعيده/تقوده إلى الحاضر.
هذه “الشخصية المجهولة” التي لا تتذكر ما جرى لها، أو لا تريد أن تتذكره، علما أنها تتذكر البيت القديم للأسرة، والمقهى الذي كانت تجلس به صحبة صاحبه وأيضا المنزل “السري” دون علم زوجته. يتذكر “صاحبنا” يوم خرج لشراء “العجلة” وباقة الورد لزوجته و”لم يعد”. يتذكر بعض التفاصيل ولكن لا يتذكر “المكان” الذي كان فيه طيلة 30 سنة. فهل لأنه لا يعرفه فعلا؟ لأنه مكان سري؟ أم لا يريد الحديث عن تجربة مريرة عاشها فيه؟ يتذكر أنه تحول إلى مجرد “رقم” وأن عليه أن “ينسى نفسه” فتحول إلى “مجهول” فاعتقدت أسرته أنه قضى نحبه فخلقوا له قبرا الذي زاره وهو على قيد الحياة بعدما سلمت له زوجته “شهادة الوفاة”.

ندرك مع تقدم الفيلم أنه قد تم اعتقاله في أحداث سنة 1981 المعروفة بانتفاضة الخبز. ولم يطلق سراحه إلا في فبراير 2011 مع “الربيع العربي”، قضى 30 سنة في مكان ما لا يعرف عنه شيئا إلى حد أنه نسي إسمه ونسيه الجميع. ويراوغنا المخرج هشام العسري من جديد مراوغات فنية في غاية الذكاء بالتاريخ والتواريخ. لقد تمكن المصور/الكاميرامان التلفزيوني في الفيلم أن يوظف معارفه في البوليس بغرض معرفة جذور هذا “المجهول” المعتقل السابق فإذا به يتوصل بمعلومة أن جميع المعتقلين السياسيين قد تم إطلاق سراحهم منذ عقد من الزمن، بمعنى قبل سنة 2000، أو بعبارة أخرى مع حلول ما سُمي ب”العهد الجديد”. لماذا المعتقل “المجهول” الذي يحمل رقم 404 لم يتم إطلاق سراحه من قبل؟ من يكون يا ترى؟ فهذه الأسئلة هي فنية في العمق وليست تاريخية، سنختم بها هذا النص في نهايته أسفله.

• الدار البيضاء… الأسطورة

إن اختيار المخرج مدينة الدار البيضاء لتجري فيها أحداث فيلمه هي أيضا إشارة فنية جد مهمة لكونها تُعتبر نموذجا مُصغرا للمغرب ونقطة مُركزة له. فهي المدينة التي تجمع جميع التناقضات المغربية، الطبقية والاجتماعية والسياسية، وهي المدينة التي كانت دائما في الموعد مع الحركات الاحتجاجية بالمغرب حيث تبدأ منها أو تجد صداها بسرعة فيها ولا تتردد مع التاريخ منذ انتفاضة 23 مارس سنة 1965 لما بعد الاستقلال. ومنها انطلقت أيضا ظواهر ثقافية وفنية (ناس الغيوان مثلا). مدينة مشهورة بفيلم أمريكي حمل إسمها أنتجته هوليوود في خضم الحرب الثانية.
ولهذا كان فيلم “هُمُ الكلاب…” سفرا مزدوجا: في التاريخ السياسي من خلال الشخصية الرئيسية من جهة ومن جهة أخرى في الفضاء الجغرافي والحضاري لمدينة الدار البيضاء. هو تحقيق ومحاولة في طرح الأسئلة عن الماضي والحاضر، عما هو حفي وما هو ظاهر. هذا الأسلوب السينمائي الذي اختاره هشام العسري أغنى الفيلم وأخرجه من الممل الممكن خاصة وأن مدينة الدار البيضاء حيوية بعنفوانها. كان تنقل الفريق التلفزيوني صحبة “الشخص المجهول” أو عند متابعته مناسبة لنقد كثير من الظواهر أو التعريف بها وإبرازها والتي أشرنا إلى بعضها أعلاه.
والدار البيضاء نفسها أصبحت مشهورة بمعتقلها السري “درب مولاي الشريف” الذي زج فيه عدد كبير جدا من شباب الجامعات والثانويات والمناضلين الراديكاليين الشباب منذ منتصف السبعينات. منهم من قضى فيه تقريبا سنتين قبل نقلهم إلى السجون “الرسمية”. وعليه، فتوظيف فضاء مدينة الدار البيضاء كخلفية للفيلم ضاعف من درامية أحداثه وقواه فعلا لأن الإشارات الاجتماعية التي توقف عندها المخرج لا تشبهها في المدن المغربية الأخرى. فتحتاج هي بدورها – أي الدار البيضاء – إعادة الاعتبار لها ولسكانها. رغم أننا نشاهد في فيلم “هُمُ الكلاب…” مشاهد كثيرة من فضاءات المدينة وأجواؤها الاجتماعية وعلاقاتها المتوترة إلا أن كثير منها غير مرئية. إذ ترك لنا صاحب الفيلم إمكانية تصورها من خارج الكادر كامتداد لمشاهدتنا، لذلك ينتهي الفيلم بمشهد داخل إستديو التلفزيون المضيء والجميل الذي يوجد فيه شخص عانى الكثير ولم يستطع ذكر إسمه رغم إعطائه إمكانية الحديث لأنه لم يتخلص من الخوف علما أن صديقه الصحفي شجعه على الكلام وأن يعبر بما يشاء، وأنه بجانبه، وله ثقة في المذيع الذي سيقدمه للجمهور…
لأجل البوح … ينبغي الثقة. للتغلب على الخوف… ينبغي الثقة. فهل توجد هذه الثقة؟؟؟ ماذا تغير من 1981 إلى 2011؟ 2012؟؟ 2013؟؟……… 


إعلان