الميدان : طالما هناك كاميرا..فالثورة مستمرة

رامي عبد الرازق

من بين خمسة عشر وثائقيا عربيا شاركوا ضمن فعاليات مسابقة المهر العربي للأفلام الوثائقية بالدورة العاشرة لمهرجان دبي السينمائي(6-14 ديسمبر)شاركت مصر بأربعة أفلام وثائقية هي”الميدان”لجيهان نجيم و”موج”لأحمد نور و”اللي يحب ربنا يرفع أيده لفوق” لسلمى الطرزي و”اسمي مصطفى خميس” لمحمد كامل القليوبي.
وذلك في مقابل اربعة أفلام من لبنان هي”طيور ايلول”لسارة فرنسيس و”يوميات شهرزاد”لزينة دكاش و”ميراث”لفيليب عرقتجي و”أرق”أخراج ديالا قشمر, أي ان مجموع المشاركات المصرية واللبنانية أكثر من نصف افلام المسابقة وبالتالي لم يكن مستغربا أن تتقاسم كل من لبنان ومصر  جوائز المسابقة، حيث حصل الفيلم المصري”الميدان”لجيهان نجيم على جائزة أفضل فيلم وثائقي عربي وفيلم” اللي يحب ربنا يرفع ايده لفوق”على افضل مخرج لسلمى الطرزي في حين فازت لبنان بجائزة بجائزة لجنة التحكيم الخاصة عن فيلم”ارق” لديالا قشمر وشهادة تقدير لزينة دكاش عن فيلمها”يوميات شهرزاد”- وهي صاحبة التجربة الوثائقية الرائعة 12 لبناني غاضب-.
ورغم ما هو معروف من ان الكثرة العددية لا تعني بالطبع جودة في مستوى الأفلام او استحقاق للجوائز وصحيح أن لجنة التحكيم كان يرأسها المخرج المصري يسرى نصر الله وما تبع ذلك من شبهة مجاملة فيما يخص منح فيلم سلمى الطرزي افضل مخرج في وجود العديد من التجارب الوثائقية القوية.
فإلى جانب لبنان كان هناك من الجزائر”لوبيا حمرا” لناريمان بن عامر ومن وتونس”الحي يروح” لمحمد أمين بوخريص بالأضافة إلى قوة وطزاجة بعض التجارب اللبنانية مثل”طيور ايلول”و”ميراث”، إلا أن الميدان يعتبر أحد التجارب المؤثرة بلا شك على مستوى الشكل والسياق العام خاصة أنه يمكن اعتباره اول وثائقي مصري يتجاوز الحديث عن ثورة يناير إلى 30 يونيو.

جيهان نجيم

 الميدان..ظرف زمان
من السهل ان ندرك أن مخرجة الفيلم لم تكن تنوي ان تصور فيلما عن الأحداث السياسية في مصر خلال الثلاث سنوات الاخيرة، من الواضح طبعا أن المسألة كلها بدأت مثلما بدأت كل التجارب التي سبقتها أو تزامنت معها بتسجيل وقائع الثمانية عشر يوما التي بدأت منذ الخامس والعشرين من يناير وحتى الحادي عشر من فبراير، ثم مع توالي الأحداث وتولي المجلس العسكري بدأت تداعيات الأزمات السياسية المغوية بالمتابعة تتوالى ومعها استمرت المخرجة في التصوير بعد أن استقرت على الشكل الدرامي لفيلمها مرورا بالانتخابات الرئاسية ثم فترة حكم الأخوان وأخيرا احداث 30 يونيو و3 يوليو.
والمقصود بالشل الدرامي هنا هو ذلك البناء المعتمد على محورين اساسين الاول هو اعتبار الميدان ظرف زمان وليس مجرد مكان لقلب الثورة وايقونتها الذهنية والنفسية، فلم تطلق المخرجة اسم”التحرير”على الفيلم ولكنها اسمته الميدان وفي هذا تأكيد على فكرة ظرف الزمان، لقد طابقت المخرجة بين الثورة كفعل وبين الميدان كزمن للثورة تعيشه الشخصيات الثلاث التي صارت الابطال الدرامية لفيلمها- وهو المحور الثاني-عبر تحقق نظرية هتشكوك في أن الدراما هي الحياة اذا اقتطعت منها اللحظات المملة.
أحمد حسين الشاب المصري الغير مسيس الذي يتفتح وعيه ومشاعره وينفجر وجدانه منذ الخامس والعشرين من يناير مرورا بجمعة الغضب ووصولا إلى يوم التنحي، هذه الشخصية التي تمثل اكثر شخصيات الفيلم خصوبة من حيث فكرة التطور والنمو الدرامي والتي تتراكم بداخلها تداعيات الازمات وتظهر على قرارتها وسياقها الكلامي وحتى الشكلي مع تطور الاحداث وتوالي الازمات والمشاكل مما يشكل لديها وعي سياسي واجتماعي يبدو واضحا خلال تفاصيل الفيلم.
خالد عبد الله الممثل الأنجليزي من اصل مصري بكل ما يحمله من تراكم ثقافي ومعرفي ووعي متفتح بحكم النشأة والتربية فيما يمثل شرائح المثقفين الغير مؤدلجين ولكن الذين يتخذون من الليبرالية اطار عام لناشطهم السياسي الغير منتمي لحزب أو جماعة ولكن في سياق من العمل الجماعي والفردي للمساهمة في صناعة الحدث التاريخي.
مجدي عضو جماعة الاخوان المسلمين وهو شخصية شديدة الثراء لأنها تمثل نموذج مختلف عن نموذج الأخوان التقليدي المغلق ايديولوجيا على أوامر الجماعة ونواهيها، انه يمثل حالة التزعزع ما بين الشك واليقين فيما يخص سياسيات الجماعة طوال السنوات الثلاث التي تلت الثورة بكل تداعياتها.
نحن إذن امام زمن مجازي ممتد الميدان/الثورة داخل اطار مكاني درامي هو الميدان ايضا وشخصيات تتعاطي مع هذا الزمن والمكان عبر التفاعل والمشاركة والتعليق والخوض الكامل والتأثر.

جرافيتي الثورة
على مستوى البناء البصري تعاملت المخرجة مع أحد العناصر البصرية واللونية الأساسية التي ارتبطت بالثورة وايام الميدان وهو الجرافيتي، وذلك من خلال لقطات عبر زوايا واحجام مختلفة بأستخدام اسلوب الصورة الواضحة والمموهة( نت اند فلو) وذلك كمعادل بصري شعري ووجداني للتعبير عن مشاعر الشخصيات الأساسية أو كتعليق لوني على الاحداث مثل اللون الاحمر السائل على الجدران في مقابل مشاهد مواجهات محمد محمود او ماسبيرو.
لا يعتبر اختيار الجرافيتي اختيار جديد بالنسبة لأي من الأفلام التي تحدثت عن الثورة طوال السنوات الثلاث ولكن ثمة توظيف مونتاجي وبصري جيد في الفيلم على اعتبار أنه لا يتعامل مع الجرافيتي بشكل مباشر كرسومات ولكن كأيحاءات لونية وتشكيلية ترتبط ارتباط اساسي بتصاعد الاحداث والتغيرات التي تطرأ على الشخصيات ونموها السياسي والشعوري والفكري أي انه لا يمكن اقتطاعه من السرد العام أو تصور مشاهده منفصلة عن بقية السياق فثمة علاقة عضوية بين مشاهد رسم الجرافيتي واشكاله والوانه وبين فصول الفيلم المختلفة.

فصول غير متساوية
 نعود هنا إلى الفرضية التي طرحناها في بداية الحديث حول ماهية البناء العام للفيلم، من الواضح أن الفيلم من خلال زمنه المادي من حيث عدد الدقائق والمعنوي الذي يمثل مراحل تطور الشخصيات وتصاعد الاحداث، كان قوامه الأساسي في البداية هو عام 2011 اي منذ يناير وحتى احداث محمد محمود في نوفمبر من نفس العام وهي تحديدا فترة حكم المجلس العسكري وبداية خروج الأخوان عن الصف العام للقوى الوطنية ومفاوضات الصعود للحكم.
يركز الفيلم بشكل كبير على المواجهات التي حدثت ما بين القوى الوطنية والثوار من ناحية وبين المجلس العسكري بداية من مارس”موقعة المشير”مرورا باعتصامات يوليو 2011ثم احداث”ماسبيرو”الدموية في اكتوبر وصولا إلى”محمد محمود”الاولى.
بينما على مستوى الزمن المادي قامت المخرجة بضغط الاحداث التي شهدها الميدان/الثورة عقب نوفمبر 2011 وهي صعود التيار الديني ثم الأنتخابات الرئاسية وفوز مرسي، مرورا بعام الحكم الأخواني وصولا إلى 30 يونيو.
هذه الحركة الزمنية المكثفة يبدو واضحا ان سببها هو أن متن الفيلم الأساسي لم يكن في خطته أن يضم كل هذه التطورات السياسية المتلاحقة بل كما ذكرنا افرد مساحته العظمى لاحداث 2011 ثم بدت الاحداث التالية مجرد ملاحق او حواشي للمتن الأصلي.
على مستوى الزمن المعنوي والدرامي فقد شكلت تلك الحواشي الذرى الأساسية لتطور الشخصيات خاصة احمد الثوري ومجدي الأخواني بينما يقل ظهور خالد عبد الله بدرجة كبيرة فيما بعد محمد محمود الأولى وهي اشارة لأن المواجهات السياسية فيما بعد نوفمبر 2011 صارت بين قوى الشارع وبين الأخوان – وان كان خالد يعود للظهور في مشهد المواجهة بين مجدي وابنه بعد نزول ابن مجدي لطرد الثوار من الأتحادية-
المواجهات تبدأ من خلال مشهد احتدام النقاش ما بين أحمد واحد الاخوان الموجودين في الميدان في واحدة من المليونيات التي كان الأخوان قد بدأوا فيها يستعدون لخوض المعركة في سبيل كرسي الرئاسة، تدعم هذه المشاهد اللقاءات الخاطفة التي تجريها المخرجة مع مجدي والذي يتحدث عن شعوره بالتشوش من موقف الاخوان المتلون والمتغير تبعا لخطتهم السرية للصعود إلى الحكم خاصة عندما يبدأون في ابلاغه بالنزول إلى الميدان كفرد في مليونات القوى الثورية ضد العسكر وليس ككادر اخواني.

الكامير/ الثورة
في اثناء الثمانية عشر يوما تبدأ ملامح الوعي الذي يتفتح في شخصية احمد بالظهور من خلال علاقته بخالد عبد الله الذي نراه يشكل مركزا بالجهود الذاتية لتصوير احداث الثورة من قبل مجموعة النشطاء والشباب الموجودين، أو الحصول من اخرين على اي مادة ارشيفية تخص الاحداث داخل الميدان وخارجه في محاولة لنقل صورة واضحة وحقيقية عما يحدث في مصر بعيدا عن اعلام الدولة او حسابات القنوات الفضائية.
في هذه اللحظة يطلق أحمد في عفوية شعار أو نظرية او مبدأ بحكم وعيه الفطري الذي يتشكل عبر ملابسات اللحظة التاريخية حين يقول: طول ما فيه كاميرا الثورة مستمرة.
هذه الجملة شديدة القوة والعمق تصبح على ما يبدو فيما بعد هي الخطة البصرية التي تسير عليها المخرجة عبر سنوات التصوير التالية، وهو الشعار الذي سوف يكثف تطور شخصية أحمد الدرامي شكلا وموضوعا عندما نراه في النهاية وقد تغير اسلوب ملابسه وطول شعره وصار يسير حاملا كاميرا حديثة طوال الوقت يسجل بها كل ما يمر به من أحداث خلال الواقع المتقلب عبر السنوات الثلاث الأخيرة، لقد توحدت الشخصية مع المبادئ التي تشكلت في وعيها من خلال التجربة الحياتية المعاشة وهو تحقق درامي بكل معنى الكلمة ولكنه من تأليف الواقع والسياق الزمني والتاريخي وليس من صياغة كاتب أو مخرج.

حكم العسكر
تستخدم المخرجة في البناء النفسي للأحداث لقطات مصورة لصالح مادة الفيلم مباشرة ولقطات اخرى ارشيفية سبق لنا وان شاهدنها من قبل، ولكنها تركز بشكل كبير على المشاهد واللقطات التي تنحو باتجاه مهاجمة المجلس العسكري بشكل مباشر سواء عبر شهادات الثوار في الميدان فيما بعد فبراير 2011 او مشاهد الجثث الملقاة في الزبالة وتعرية”ست البنات”ودهس المتظاهرين في ماسبيرو وجنازة مينا دانيال-والمصحوبة بكورال موسيقى يطلق أهات ميلودرامية تزيد من الشعور بالأسى والحزن على الشهداء والأحتقان ضد القوى العسكرية-.

كذلك جاء اختيار المخرجة غريبا فيما يخص أحد ضباط الجيش الذي نراه يتحدث بتعالى وصلف واستهزاء غريب عن القوى الثورية والثورة والميدان دون أن تمنحنا معلومة من هو هذا الشخص وهل يصور بناء على كونه متحدث رسمي عن الجيش ام أنه يتحدث بشكل غير رسمي رغم اننا نراه مرتديا بذلته العسكرية طوال الوقت في حين أن اغلب لقاءاته تتم في سيارته او في اماكن لا ندري هل هي منشآت عسكرية أم مكتب خاص!!
اضف إلى ذلك المحلل العسكري الذي تلتقي به المخرجة في سيارته ايضا أو عند لقائه مع احد الناشطات فنحن نراه شخص هزلي يتحدث بشكل من الصعب تصديقه فيبدو مدعاة للسخرية أكثر مما يدعو للتقدير أو احترام رأيه.
المشكلة الأساسية التي تواجه السرد المعنوي للفيلم هو أن الاحداث تجاوزت هذا الاحتقان النفسي والسياسي ضد المجلس العسكري خاصة مع استجابة الجيش لمطالب قوى الشارع بعزل مرسي في 3 يوليو، ولكنها تغفل تماما وعن عمد واضح هذا الدور ولا تقوم بتحليله او صياغته بشكل سياسي واضح بل تظل في محاولتها الحفاظ على سياق الهجوم على الجيش تطبيقا لمبدأ”يسقط حكم العسكر”، وهو ما يجعل الفصول الأخيرة والقصيرة من الفيلم تبدو غير موضوعية من وجهة نظر الواقع السياسي والميدان على حد سواء.
بل أنها تتجاوز تلك اللحظة سريعا إلى اعتصام رابعة متلفتة إلى التركيز على شخصية مجدي التي تعود إلى ميدان أخر غير ميدان الثورة الأساسي وهو”رابعة”.

الاخواني التائه
شخصية مجدي هي احد اخصب شخصيات الفيلم من الناحية الدرامية والسياسية على حد سواء، أننا نتعرف عليه كأخواني أصيل في فترة الثمانية عشر يوما الأولى من الثورة ثم نراه وهو حائر بين شفافية الموقف الثوري العام وبين الألتزام الأيديولوجي تجاه جماعته.
تحرص المخرجة على تتبع مراحل التحول التي يمر بها مجدي في كل مواجهة بين القوى الثورية والحكومة مستعرضة بشكل مكثف تاريخ علاقته مع أمن الدولة ونظام مبارك الذي طالما أعتقل الأخوان واعتبرهم الخطر الرئيسي على الدولة.
في اكثر من لقاء في الميدان يعترف مجدي بتشوشه وتخبطه وعدم قدرته على استعياب موقف الجماعة من الميدان/ الثورة، ومع اقتراب الكشف عن خطة الاخوان في السعي لكرسي الحكم يتعرض مجدي أكثر من مرة لمواجهات مع اصدقائه من القوى الثورية احمد وخالد او من شباب الثوار في الميدان حول حقيقة موقف الأخوان وخططهم التي لم تكن قد ظهرت وقتها بالكامل على السطح.
على الرغم من ثراء الشخصية إلا أن المخرجة لا تلتفت كثيرا للتركيز على تلك التخبطات والازمات العقائدية التي تتعرض لها شخصية مجدي وتبوح بها بين لقاء وأخر، بل يظل تركيزها الأساسي على مهاجمة العسكر في حين أن مشاهد مثل لقاء مجدي بأسرته وحديث امه عن أن الأخوان يقومون بإعانته ماديا وهو الأب لخمسة ابناء أو مشهد مواجهته مع ابنه الذي شارك في مذبحة الأتحادية ضد المعتصمين الثوريين ضد الأعلان الدستوري هذه المشاهد تعتبر الأولى من نوعها فيما يخص تناول شخصية الأخواني وثائقيا من الداخل وليس من الخارج عبر اراء وتعلقيات وهجوم ايديولجي غير موضوعي.
ان شخصية مجدي التي عاصرت الايمان بيناير ثم تخبطت ابان فترة حكم المجلس العسكري بين اوامر الجماعة ونواهيها بحكم المصلحة الأخوانية ورغم ذلك لم تستطع أن تنفصل عنها ايديولوجيا وماديا ثم تطور علاقته بالقوى الثورية الأخرى متمثلة في خالد وأحمد ما بين الرفض والقبول ثم استقراره النهائي في رابعة رغم كل ما شهده وايقن به من سوء تخطيط واعلاء لمصالح الجماعة على مصالح الدولة والشعب هذه الشخصية تعتبر أحد اهم الشخصيات الأخوانية التي ظهرت في التجارب الوثائقية المصرية عن الواقع السياسي خلال السنوات الثلاث الأخيرة لأنها تحلل بشكل موضوعي جدا اسلوب وطريقة التفكير الاخواني وكأنها شهادة مصورة من الداخل ومدمغة بخاتم التاريخ.

الضمير
اعتمدت المخرجة على غياب التعليق الصوتي تماما عن الفيلم والاكتفاء باللقاءات المصورة مع الشخصيات أو المواد الارشيفية والتصوير الحي في الميدان وخارجه، وبمهارة درامية استطاعت مونتاجيا أن تصور لنا تطور الاحداث ونمو الشخصيات وتشكل وعيها ووصولها إلى ذرى وقرارات مختلفة وواضحة من خلال الدمج ما بين المادة المصورة وبين اللاقءات خاصة الجمل القصيرة المختارة بعناية من حديث الشخصيات العفوي او الحميمي.
اغلب الجمل المضيئة والدرامية جدا في الفيلم هي التي صورتها المخرجة في لقاءات عادية أو جلسات ليلية بالميدان اثناء الاعتصامات او في لقاءات بين الشخصيات وبعضها عقب أزمة او مواجهة مع الشرطة أو الجيش أو الأخوان، ولا شك أن تلك اللقاءات كانت تستغرق ماديا وقتا طويلا ولكن عند اعادة بنائها مونتاجيا وقع اختيار المخرجة على تلك الجمل التي شكلت التمن الأساسي للسرد الدرامي للاحداث رغم وثائقيته النوعية الواضحة لم تكتف المخرجة باللقاءات التحليلية والشهادات الساخنة عن الواقع الدموي والملتهب ولكنها استطاعت أن تلتقط تلك اللمحات الدرامية الجيدة التي مكنتها من رسم ابعاد الشخصيات تماما كما هي في الواقع فنحن نرى أحمد في بيته بعد اصابته ولقائه بأمه التي لا تعلم عن الأصابة شئ ومن خلال لقطات قليلة نتعرف على المستوى المادي والبعد الأجتماعي لشخصيته بينما تصبح اللقاءات المصورة عبر الأنترنت ما بين خالد وأبيه الراقد في مستشفى بلندن هي التي تشكل البعد الاجتماعي والبيئي لشخصية خالد وكذلك اللقاء المصور في شقة مجدي بعد عودته من احد الاعتصامات في الميدان ولقائه ببناته وأمه وحديثهم عن علاقته بالاخوان ماديا وعن تاريخهم مع امن الدولة.
تتمكن المخرجة في دهاء وثائقي من التخلص من مأزق الانحياز المباشر لاحدى القوى التي تتنازع الشارع المصري الأن أي الأخوان من ناحية وتيار 30 يونيو والجيش من ناحية أخرى بأن تنهي فيلمها على شخصية أحمد الشاب الثوري الذي تطور وعيه السياسي بشكل خارق عبر ثلاث سنوات من النمو المطرد وذلك في لقاء خاص تم تصويره من فوق أحد العمائر التي تطل على الميدان وكأن أحمد هو صوت الميدان الحقيقي بينما يقول أنه لا يهم من هو رئيس مصر القادم وهل يأتي من الجيش أم من القوى المدنية المهم أن ينجح هذا الرئيس او القائد في ان يعيد لمصر أهم عنصر حضاري مفتقد وهو الضمير، الضمير بمفهومه الأنساني الأشمل والأعم، الضمير في كل شئ سياسيا وأجتماعيا ونفسيا.
هنا يبدو بالطبع انحياز المخرجة الغير مباشر لقوى الشارع بعيدا عن اي حسابات سياسية او ايديولوجية لقد التقت مع مجدي في رابعة واستمعت إليه ثم كان لقاء اخير معه عبر الهاتف اثناء مكالمته بأحمد حين سمعنا مجدي يحذر احمد من القدوم إلى رابعة بشكل غامض رغم ما ابداه أحمد من استعداد لذلك في حال ما كان ثمة مجال للحوار.
بدا اصرار مجدي هنا الذي نقله شريط الصوت وتحذيره الغامض هو المشهد الأخير له ولكنه ليس النهائي حيث قدمت المخرجة معلومات مكتوبة على الشاشة بعد اخر لقطات الميدان تفيد بأن مجدي كان واحدا ممن ظلوا في رابعة حتى فض الأعتصام بشكل “عنيف” على حد تعبيرها فهي تأبي إلى النهاية إلا أن تهاجم الجيش بشكل واضح.
ولكن هذه المكالمة افصحت ايضا عن موقف مجدي وجماعة رابعة من القوى الثورية الأخرى حتى التي ابدت تعاطف أو رغبة في الحوار وهو ما حافظت المخرجة على تقديمه بشكل جيد وموضوعي إلى حد كبير.
أخيرا يمكن أن نقول أنه لم يكن مستغربا أن يصبح الميدان أول فيلم مصري يدخل إلى القائمة القصيرة للأفلام المرشحة للأوسكار هذا العام ليس لكونه إنتاج امريكي مشترك لكن لأنه تجربة مؤثرة استطاعت أن تخوض بشكل مختلف وجرئ في العديد من التفاصيل الدقيقة والجدلية اثناء رصدها للأحداث السياسية في الشارع المصري بين ثورتين.
  

 


إعلان