سوريا… الوثائقي “الجديد” والقول المستمر

درويش درويش
إذا كان الوضع في سوريا لا يحتمل قولَ المزيد عنه، كما بات يصرح الكثير من المفكرين بما يخص السياسة والتنظير، بمعنى أن حالة الانسداد الحاصلة في الوضع الميداني على الأرض، والأزمة المزمنة سياسياً وإنسانياً أصبحت جميعها في انتظار تغيّر ما، حدث طارئ، يغير المعادلات ويخلخل الموازين، بحيث بات كل تحليل نافل وكل قول بلا جدوى، فهل لهذا الطرح ما يقابله في أشكال القول الأخرى، ونقصد منها هنا الفنية، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بنتاجات كالأفلام الوثائقية؟ الشكل الذي تميَّز بأنه الأقرب إلى مجريات الواقع والأكثر التصاقاً به من بين الأشكال الفنية الأخرى، والأسرع تعبيراً عنه وتمثيلاً له؟
ربما ما يبرر السؤال هنا ويجعله ملحاً هوَ “الزمن الثوري” الخاص، بالإضافة إلى طبيعة هذا “الفن”، ومن جهة ثالثة؛ أنه أصبح ما يجبرنا على طرحه، تقديم الكثير مما “يسجَل” على أنه “أفلام” بالمعنى الفني، وبالبعد الفني للكلمة. حيث إن آليات الإعلام والإنتاج التابعين “للزمن الثوري” -بغض النظر عن علاقتها بالثورة- تتيح المجال واسعاً أمام الكثير والكثير من الادعاءات التي لا تبدأ بالإنسانية ولا تنتهي بالفنية، بما يخص “مشروعية الفيلم” التسجيلي، إذا جاز لنا القول. فكثيراً هنا ما تتداخل المشروعية الفنية الأصلية المفترض تواجدها في أي نتاج سينمائي، وهوَ المضمار الذي سعى “الفيلم التسجيلي” لإثبات نفسه فيه على الدوام؛ مع المشروعيات الأخرى، بما يتعلق على سبيل المثال بالوظيفة الخبرية للمادة التوثيقية، أو بقوة الدفع الإنسانية لها بوصفِ موضوعها إنسانياً واقعياً. وعليه فإن الخلط الذي قد يقع فيه، أو يستغله، صانع المادة الفيلمية الراهن، لا يستبعد أن يصيب أيضاً جهة إنتاج ما مِن الجهات التي ارتبط وجودها أصلاً بالحالة السورية الراهنة وثورتها غير العادية التي بدأت في آذار من العام 2011. هذه الحلقة المغلقة و”المفتوحة” في الوقت عينه هي ما قد يدفع مؤسسات أخرى وهيئات أخرى، كالمهرجانات مثلاً، على مجاراة هذا الواقع والخوض في لعبة غير فنية في الكثير من أبعادها، وصولاً إلى نتيجة هي في المضمون والعمق مجرد عرض مادة خبرية -قد لا تُستساغ في ظروفٍ أخرى- على أنها فيلم منجز ومتكامل ويعامل صاحبه معاملة المخرج. يدخل في هذه اللعبة أيضاً الجانب المادي وبقوة، متمثلاً في مؤسسات الإنتاج الجديدة الوليدة من جهة، و”بالطلب” الإعلامي على كل ما ينبثق من الحدث الأبرز في العالم.

هكذا إذاً نشاهد مثلاً “أفلامَ” ما أصبح يمكننا تسميته بأفلام “المخيمات” وهيَ أسهل أنواع الإنتاج الفني على الإطلاق، وهي إذ يكون الهدف منها في العلن مساعدة “نزلاء” المخيمات على تجاوز أزماتهم ومحنهم، تصبح في العمق، أحياناً، عالةً إضافيةً على أكتاف هؤلاء، إن لم يكن من الناحية المادية فأقله من الناحية النفسية. لكن ما يلفت هنا بالدرجة الأولى وبالرغم من توافر “المادة” الغنية والغزيرة والمغرية للبحث، آلاف القصص التي لكل منها فرادتها، ولكل منها معاناتها الاستثنائية، هوَ ترك الحبل على الغارب في العديد من التجارب الجديدة، مما يُنشر على الإنترنيت، أو يُعرض على محطات التلفزة، أو يُقدم في المهرجانات، بالاعتماد أو الاتكاء على الواقع بالمعنى المباشر للكلمة. هكذا سنشاهد أشخاصاً، أطفالاً وكباراً، نساءً ورجالاً، يكررون علينا ما سمعناه كثيراً أو ما يشابهه من أحداث، أو حالات ستبقى بحد ذاتها جاذبة، ولكنها ومن وجهة النظر الفنية السينمائية دون الزخم المطلوب، إذ أننا سنبقى على السطح، مع حالات متعددة وكثيرة وأحياناً طريفة ومعبرة، لكنها خفيفة الوقع سينمائياً وآنية. لا يقتصر ذلك على ما يجري تصويره في المخيمات بل يتعداه إلى ما يتم تصويره داخل الأراضي السورية ذاتها. قد يتخيل صاحبه وقد عرض “الفيلم” على إحدى القنوات الشهيرة، أنه حقق تجربةً سينمائية مشهود لها دون صعوبة موجبات الوصول التي كانت سابقاً أمراً ليس بالهين، في حين أنها اليوم تمر بشفاعة الحدث الأعظم.
ولكن مع ذلك ليس بالضرورة دائماً أن ينطبق على الفن ما ينطبق على السياسة، فنرى “الآن” تجارب أعمق تنبثق من هنا ومن هناك، على أيدي مخرجين أكثر احترافاً، وأكثر التصاقاً بعمق الحراك، نفذوا أو ينفذون مشاريعهم التسجيلية، على مدى أشهر طويلة إن لم تكن سنوات، ومن قلب المناطق المشتعلة في حمص وسواها من بؤر التوتر السورية، بما يمكن لنا أن نخمن ونصفه بالتأريخ الحقيقي والضمني لما جرى ويجري، وسنرى أيضاً ما سيسفر عنه الزمن القادم بعد تراكم كل هذا الكم الهائل من المواد الخام.


إعلان