ما تخفيه الصورة الأشهر.. يبحث عنه الوثائقي
قيس قاسم
مثل الموناليزا، صارت الصورة الفوتوغرافية المعاصرة “غداء فوق ناطحة السحاب” مشهورة ومحاطة بغموض كبير في آن، يدفع المحللين والنقاد التشكيليين والفوتوغرافيين لدراستها، هذا غير اهتمام الناس الكبير بها، لدرجة صار من المستحيل فصلها عن تاريخ مدينة نيويورك والولايات المتحدة على نطاق أوسع. صورة واحدة تختلف عن ملايين الصور الملتقطة للمدينة ومعالمها، فهي تخفي أسراراً، وحكايا، ابتداء من هوية العمال الذين ظهروا فيها الى شخصية ملتقطها مروراً بأسئلة تتعلق بحقيقتها كصورة ملتقطة وليست مزيفة أو مركبة، غموض وأسئلة حاول الوثائقي الايرلندي “رجال عند الغداء” قراءتها من منظور سينمائي مختلف يحيل تفاصيلها الى الزمن الذي أخذت فيه والظروف السياسية والإقتصادية التي جمعت في لحظة واحدة من عام 1932 أحد عشر عامل بناء لا يُعرف الكثير عنهم ولا عن انسابهم وهم معلقون بين السماء والأرض، وهنا يكمن مصدر المتعة في عمل المخرج شون أوكلين.

الصورة الفوتوغرافية التي يظهر فيها عمال بناء وقت استراحتهم، وقد جلسوا على احدى السقالات الحديدية ليتناولوا غداءهم، مدعاة لحيرة وسؤال عن مصدر الاطمئنان الذي هم عليه، ومن أي لهم الشجاعة للجلوس على مساحة ضيقة على علو 250 متراً؟ ولأن الصورة الجيدة تضمر أكثر ما تظهر فالبحث بدأ عن علاقة العمال بالمدينة التي بنوها، والطريقة التي جاؤوا اليها وصاروا جزء منها، بل وعن صورتهم نفسها التي صارت قطعة من تاريخها. أولى الحقائق المتعلقة بالعمال انهم، مثل الملايين الذين شكلوا نواة المدينة المزدهرة في العقد الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، من المهاجرين.. الأوربيين على الأغلب. جاؤوا اليها ً بحثاً عن عمل وأملاً في حياة أفضل. لكن ومع كل الهدوء الذي يظهرون عليه في الصورة فالحقيقة أن زمن التقاطها يعود الى عام ظهور بوادر الأزمة المالية العالمية في وول ستريت، وارتفاع نسبة البطالة التي بلغت وقتها حوالي 24% من القوى القادرة على العمل. كان الحصول على أي فرصة عمل مطلب ملايين الواصلين من الطرف الثاني للمحيط ومَن يحصل عليه يقبل بشروطه حتى لو كانت تعرض حياته للخطر. لقد ترافق نشر الصورة أول مرة في صحيفة “هيرالد تربيون” في الثاني من أكتوبر عام 1932 مع ارتفاع شعبية المرشح للرئاسة فرانكلين روزفلت، الذي سيكون شعاره التخلص من الخوف والاقدام على المخاطر كتعبير عن شجاعة المجتمع الأمريكي وتكريس لسياسة بناء مجتمع متعدد الثقافات ورافض للعنصرية: “لايوجد شيء نخاف منه سوى الخوف نفسه!”. كان الصعود الى الطابق ال69 في عمارة سنترال روكفيلر يمثل تحدياً للخوف والمهاجر لا يخاف سوى من الجوع والتشرد. في ظل أزمة اقتصادية يصبح رفض أي فرصة عمل انتحاراً ولهذا فالرجال ال11 هم أبطالا بمعنى قبولهم التحدي من أجل تأمين رزقهم، ومن جهة ثانية كانت خيارتهم محدودة تقلل الكثير من توصيفهم بالشجعان، إلا أن الناس تريد دوماً أن يبقى مثال البطل شاخصاً أمامهم ولهذا صاروا هؤلاء قدوة لهم يروّن فيهم أصلاً لقوتهم ونجاحاتهم أكثر من البحث عن أصولهم والظروف التي أجبرتهم على الصعود الى الطوابق العابرة للغيوم.
من أكثر الحقائق مدعاة لرثاء أحوال مهاجري نيويورك وعمال البناء فيها أن نسبة الوفيات بينهم كانت عالية مثل نسبة العجز، التي بلغ مجموعها 4%، أي أن من بين كل ألف عامل هناك أربعين بين متوفي ومعوق، ومن هنا جاءت صعوبة التعرف على الرجال الذين جلسوا يتناولون غدائهم ظهيرة يوم خريفي حار. لقد صاروا جزء من ايقونة كل واحد من النيويوركيين يعتبرهم جداً له، لكن ماذا بشأن الصورة نفسها هل هي ايقونة “مصنوعة” ملفقة وغير حقيقية؟ ادعى أحد المصورين واسمه تشالرز ايبتز، انه من صورها رغم أن مركز حفظ الوثائق “كوربيز” الأكبر في الويات المتحدة ويضم أكثر من 20 مليون صورة ووثيقة لم يعثر على اسمه في سجلاته، ولم يرد اسمه حتى بين مصوري شركات البناء التي تولت بناء مركز روكفيلر وكانت تكلف مصوريين يعملون لحسابها من أجل توثيق مراحل بناء مشاريعهم، في الوقت الذي كانت الصحف ترسل مصوريها الى هناك من أجل اجراء تحقيقات ولكن نادرا ما كان يظهر اسم المصور مع اسم الصحفي.

في بحثه المضني يتوصل الوثائقي الايرلندي “رجال عند الغداء” الى أن النسخة المحفوظة (نجاتيف الصورة المطبوعة على الزجاج) أصلية وليست ملفقة! لكن اسم مصورها غير موجود. ظهرت المشكلة الجديدة وجرى البحث عنها. أفراد من عائلة ايبتز أكدوا في عام 2001 أن لديهم أدلة قوية تؤكد أن جدهم قد صور الصورة وانه كان المصور المغامر الأشهر في وقته وكل ما تركه من كاميرات وأرشيف يدلل على أنه كان الأجدر بحمل شرف التقاطها، في الوقت الذي ظهرت أسماء مصورين آخرين الى جانب اسمه وهما: ويليم ليفتويش وتوماس كيللي. ولأنها صارت أيقونة يحيطها الغموض فتغيير اسم صاحبها الذي تعارف عليه الناس من قبل أمراً غير ذي جدوى. لقد صار من المؤكد ان الصورة أصلية وشبه المؤكد أن صاحبها هو تشالز ابيتز، لكن ماذا عن العمال؟ واحدة من المفارقات أن صحيفة أمريكية طلبت من أجل اعادة الحياة للصورة، من قرائها كتابة أسماء العمال الظاهرين فيها ومقدار صلة القربى بهم.

لقد وصلت معلومات متضاربة نسبت بعضهم الى أكثر من 300 عائلة ولأكثر من خمسة بلدان ولهذا لم يساعد الاستفتاء في التعرف على العمال بل زاد من تعقيد الأمر، بإستثناء جديد ظهر قبل أعوام قليلة حين عثر الوثائقي على نسخة من الصورة في حانة ايرلندية في قرية “شاناغليش”. لقد تعرف الناس فيها على عاملين من العمال المعلقين على السقالة في الطابق ال59 من عمارة ناطحة السحاب النيويوركية وسيتابع الوثائقي بحثه عن أولاد هؤلاء وسيعثر عليهم ليؤكدوا له أن العاملين هما حقاً أبويهما وهم من ايرلندا. عودة الى الجذور الايرلندية التي سنكتشف فيها حجم المرارة التي كانوا يحملها العمال المهاجرون في قلوبهم. لقد رحل أغلبيتهم بعد المجازر التي ارتكبتها المملكة المتحدة ضد المطالبين من الايرلنديين الانفصال عنها. لقد كانت دوافعهم سياسية/قومية واقتصادية في نفس الوقت ولهذا وعودة الى نيويورك سنلاحظ، تقسيماً مخيفاً بين الايرلنديين أنفسهم. أغلبية من العمال تعيش في أحياء فقيرة، مقابل عدد قليل خارج هذا التوصيف الاجتماعي. لقد كانت أمريكا بحاجة الى أيدي عاملة وما كان يعنيها بشيء أسباب المجيء اليها. لم يأتي أغلبية المهاجرين ليحققوا حلمهم الأمريكي بل جاؤوا لحاجة عندهم للتخلص من فقر وسوء أحوال ولهذا لم يعيش أغلبية المهاجرين حياة مترفة بل على العكس فالشهادات التي خرج بها الوثائقي تفسر لماذا صارت نيويورك مدينة كوزمبولتية، لأن الناس في باديء الأمر تجمعوا حسب انتمائاتهم العرقية والقومية في غيتوات ولكن وفي بحثهم الاضطراري للعمل تجمعوا في سوق واحدة، وحدتهم بدورها، فأختلطوا فيما بينهم ولهذا صارت نيويورك بالضرورة مدينة متعددة الثقافات يشعر الناس فيها بانتمائهم الحقيقي اليها بغض النظر عن أصولهم، والصورة تفسر هذا التكوين: الناس يجدون في العمال الظاهرين فيها أبطالاً (سوبرمان) في حين يرى العمال أنفسهم كمغامرين مجبرين على المغامرة والتعرض لخطر الموت حالهم حال العمال الهنود الحمر “الأصليين” فهم أيضاً يشتغلون في البناء وفي ناطحات السحاب لأن فرص عملهم ضئيلة في المجالات المريحة، ولهذا فالصورة تكشف من داخلها الفوارق الطبقية المخيفة بين بناة المدينة وأصحابها الأثرياء الذين لا يظهرون في الصورة أبداً.