“كثبان خودوروفسكي” وأعظم فيلم لم يوجد!
أمير العمري
يعرف العالم الأفلام التسجيلية التي تتناول ما يدور وراء كواليس تصوير أفلام معينة شهيرة أو لكبار المخرجين، لكن فيلم “كثبان خودروفسكي” Jodorowsky’s Dune يسبح عكس هذا الاتجاه، فهو يبحث في فيلم لم يتحقق، ولم يوجد، بل كان مشروعا طموحا وظل كذلك دون أن يتحقق أبدا!
خودوروفسكي هو الفنان السينمائي المبدع الكبير (التشيلي من أصل روسي المقيم في باريس) أليخاندرو خودوروفسكي، الذي لم يخرج عددا كبيرا من الأفلام غير أن ما أخرجه منها يظل شاهدا على عبقريته الفريدة، فهو يستخدم مفردات السينما ليجعل منها شعرا خالصا، لا يخضع للقواعد التي تحددها شركات الإنتاج والتوزيع، بل ينبع من خياله الخاص ورؤيته للعالم، ومن هنا تحديدا كانت مأساة ذلك السينمائي الموهوب الكبير. فهو لم يتمكن من إنجاز أكثر من سبعة افلام روائية طويلة طوال نحو 45 عاما. والسبب؟ أنه لا يقبل أن يصنع سوى ما يرضى هو عنه، وما يملك خلال تحقيقه، من حرية كاملة لا يحدها شيء، ويطالب بتوفير كل الإمكانيات الإنتاجية لتجسيد رؤيته التي تميل عادة إلى الخيال الجامح.
بعد ما حققه فيلم “الطوبو” (1970) من نجاح تجاري كبير، وتبعه بفيلم أكثر طموحا هو “الجبل السحري” (1973)، أصبح خودوروفسكي يعتقد ان من حقه أن يحصل على ما يريد من المنتجين، بينما أصر المنتجون على ضمانات معينة لمنحه ما يريد. وفي عام 1974 جاءته فكرة صنع فيلم عن رواية “كثبان” Dune للكاتب الأمريكي الشهير فرانك هربرت، التي وصفت بأنها أكثر روايات الخيال العلمي بقاء في ذاكرة الأجيال، وهي تدور في عالم الفضاء (الكثبان هنا في الكون المفتوح وليس على كوكب الأرض) وتصور الصراع الهائل بين قبائل وامبراطوريات متنازعة (قبل ظهور فكرة حرب الكواكب والنجوم التي استمدت فيما بعد من أفكار خودوروفسكي ومن سيناريو وأفكار وتصميمات فيلمه هذا تحديدا) تحمس المنتج الذي أنتج افلامه الأولى، الفرنسي ميشيل سيدوكس لإنتاج الفيلم، لكنه فوجيء بخودوروفسكي يقدم له سيناريو يقع في ألف صفحة، وأصر أيضا على الاستعانة بعدد كبير من كبار المصممين الفنيين والرسامين ومبتكري الشخصيات الخيالية (من حيث الشكل والملابس..إلخ) كما أراد الاستعانة بطاقم من الممثلين ليس أقل من اوروسون ويلز وميك جاغر بل وسلفادور دالي أيضا، الذي أرده أن يقوم بدور الامبراطور.

عقدة المشروع
يقوم الفيلم التسجيلي “كثبان خودوروفسكي” على إعادة، أو بالأحرى، إستعادة حلم خودوروفسكي بإخراج هذا العمل الكبير الذي كان يتطلب ميزانية تصل إلى عشرة ملايين دولار وربما أكثر، وهي ميزانية كبيرة في ذلك الوقت، الأمر الذي واجه الكثير من العقبات يرويها خودوروفسكي تفصيلا في الفيلم كما يرويها كل من شاركوه العمل في هذا المشروع الطموح الذي لم يتحقق بالطبع نتيجة تقاعس شركات الإنتاج عن تمويله، ليس فقط خشية من ألا يغطي تكاليفه المعلنة، بل لعدم ثقتهم في خودوروفسكي نفسه، ذلك المتمرد على “النظام”.. الذي لا يعرف الالتزام بالميزانيات ولا بمدة التصوير المحددة، ويمكنه بالتالي أن يورطهم في المزيد من التكاليف. كانت فكرة هوليوود كما نرى في الفيلم، أن السيناريو أكثر من رائع، والطاقم الفني الذي سيعمل في الفيلم وهو يتكون من مجموعة من الخبراء والفنانين الكبار من فرنسا وسويسرا وبريطانيا والولايات المتحدة، هم الأفضل في العالم. ولكن المشكلة كانت توجد تحديدا في “ذلك المخرج نفسه” المعروف بجموحه الفني الأقرب إلى الجنون. وهل يمكن الثقة – إنتاجيا- في مخرج “مجنون”!
إننا نرى مئات التصميمات والشخصيات والديكورات التي صنعت لها نماذج مجسمة أنفقت عليها مبالغ طائلة في رحلة الاستعداد لإنتاج الفيلم. كما نرى ونستمع الى الكثير من هؤلاء العباقرة الذين شهدوا تلك التجربة وساروا فيها الى أن توقفت. ونشهد كيف استعانت هوليوود بمعظمهم فيما بعد، لنقل تصميماتهم إلى سلسلة افلام حرب النجوم وغيرها، ونعرف أيضا أن خودوروفسكي، الذي أصبح لسنوات طويلة بلا عمل، عاش من بيع لأفكار السيناريو في سلاسل كتب ومطبوعات خيالية مصورة مستمدة من مشروعه هذا الذي لم يتحقق.
المخرج الأمريكي فرانك بافتش الذي أخرج هذا الفيلم التسجيلي عن “كثبان” خودوروفسكي، أراد أن يعود فيقطع رحلة عكسية تعود إلى الوراء أربعين عاما، رحلة داخل “عقل” هذا العبقري المجنون، كيف كان يفكر، وكيف أصبح يفكر اليوم في مشروعه هذا وكيف يرى التجربة وكيف انعكست على حياته وحياة من حوله؟ لقد بلغ به طموحه الذي لا يعرف حدا، أن أسند دور إبن الامبراطور إلى إبنه “برونتوس” فأتى له بمن يقومون بتدريبه على اللياقة واستخدام السيوف والقتال وركوب الخيل غير ذلك، لاثنتي عشرة ساعة يوميا لمدة سنتين، ومنع عليه الاختلاط بأحد أو القيام بأي أنشطة أخرى، لقد أراد – كما يقول- “أن يعد فارسا روحانيا أمامه مهمة مقدسة”!
وعندما ذهب ليعرض دور الامبراطور على الرسام الشهير سلفادور دالي، طلب دالي، الذي لم يكن يقل جنونا عن خودوروفسكي، مائة ألف دولار في الساعة الواحدة قائلا إنه “يجب أن يحصل على أجر أعلى من أجر أغلى ممثل في هوليوود”. فذهب خودوروفسكي ليتحدث مع منتجه سيدوكس، فسأله الأخير: ما هي المدة التي يتوقع أن يظهر فيها دالي في الفيلم؟ فقال له خودوروفسكي إنها لن تتجاوز أربعة دقائق. و بذلك توصل سيدوكس معه إلى حل بسيط، يحصل بمقتضاه دالي على أعلى أجر لكنه لا يحصل على ما يريده تماما. وقال خودوروفسكي لدالي إنه سيحصل على 100 ألف دولار عن كل دقيقة وليس عن كل ساعة وهذا أعلى من أجر أي ممثل في التاريخ. فوافق دالي على الفور!
ووافق ميك جاغر عندما إلتقى وجها لوجه مع خودوروفسكي. ويصف الأخير مشهد اللقاء بينهما بأنه ذهب إليه في أحد الفنادق، وفي قاعة كبيرة دلف من الباب وعلى مبعدة منه كان يقف المغني الشهير محاطا بمجموعة من أصدقائه ومعاونيه، وعندما لمحه يدخل أخذ يقترب منه رويدا رويدا وأخذ خودوروفسكي أيضا من ناحيته، يقترب في اتجاهه تدريجيا إلى أن أصبحا في مواجهة أحدهما الآخر، فقال له خودوروفسكي بدون أي مقدمات: أريدك أن تمثل في فيلمي.. فقال له ميك دون تردد: قبلت!

الغريب أن هذا المخرج الجامح الذي لا يعرف حدودا لخياله أغرم برواية فرانك هربرت قبل أن يقرأها وبعد أن حدثه عنها المنتج سيدوكس باختصار، وبعد أن قرأها أخذ خياله يعمل وأراد- كما يقول في هذا الفيلم- أن يصنع “أعظم الأفلام في تاريخ السينما”، مضيفا أنه لم يكن يفكر في “كثبان” على أنه فيلم من “الخيال العلمي” بل فيلم “روحاني” فالمحاربون فيه محاربون يخوضون مهمة مقدسة من أجل إنقاذ الخليقة.. وهو يصور في السيناريو الذي كتبه ورسمه لقطة بعد أخرى طاقم التصميم الفني وعلى رأسه الفنان الفرنسي الكبير جان جيرو المعروف بـ”موبيوس”، رحلة حيوان منوي داخل رحم امرأة، تحمل بـ”مسيح جديد” يهدي البشرية. وقد صور طاقم العمل في الفيلم أيضا فيلما كاملا عن الرواية من الرسوم لعرضه على الممولين الذين فتنهم الخيال الجامح البديع لكن المشكلة كانت دائما في “المخرج” الذي أعتبر “مجنونا” بعد أن أعلن انه يريد أن يصنع فيلمه يقع في أربع عشرة ساعة!
أهمية الفيلم
تظهر في الفيلم شخصيات أخرى مكملة لرؤية التقنيين والرسامين والسينمائيين الذين عملوا في المشروع مثل المخرج الدنماركي الأمريكي نيكولاس ويندنج جريفين (صاحب فيلم “درايف”)، والمخرج ريتشارد ستانلي، والناقد يفين فاراسي، والناقد درو ماكويني، الذين يتحدثون عن تأثير ذلك المشروع الخيالي الذي لم يتحقق عليهم.
وتكمن أهمية فيلم فرانك بافيتش، ليس فقط فيما يحتويه من مادة بصرية هائلة من الرسوم والتخطيطات والمقارنات السينمائية مع أفلام مثل حروب النجوم وغيرها، وكيف أنه يكشف النقاب عن شهادات عدد من ألمع المصورين والتقنيين في السينما العالمية، ويقدم رؤية وشهادة خودوروفسكي نفسه الذي يروي بكل مشاعره الجياشة تجربته، محتجا أحيانا في صياح غاضب وكأنه طفل صغير يرفض بشدة كبح جماح خياله بدعوى “عدم توفر المال” كما لو كان أمام أب قمعي يرفض الاستجابة له وشراء لعبته المفضلة، بل ترجع أهمية الفيلم سينمائيا إلى كونه يأخذك في رحلة شبيهة برحلة “تورط “خودوروفسكي ومنتجه سيدوكس وكل الذين عملوا في التحضيرات الأولية للمشروع التي تكلفت أموالا باهظة أيضا، في هذا المشروع، فأنت تسافر وتنتقل مع المخرج الكبير من مدينة إلى أخرى، كأنه بطل “الساموراي السبعة” يذهب لجمع محاربيه، رافضا بكل قوة وحسم أن يعمل في فيلمه أحد ليس مؤمنا بقداسة المهمة. إنه لم يكن يريد ان يصنع فيلما، بل عملا روحانيا يهدي البشرية. إن هذا الحس بـ”النبوة” السينمائية الإبداعية عند خودوروفسكي هو أكثر الجوانب التي تشدنا في هذا الفيلم التسجيلي الذي فعل مهرجان لندن السينمائي خيرا عندما أتى به وضمه إلى برنامجه الحافل في دورته الأخيرة (الـ57). وكان الفيلم قد عرض في قسم “نصف شهر المخرحين بمهرجان كان 2013 جنبا إلى جنب مع فيلم “رقصة الواقع” الذي عاد به خودوروفسكي أخيرا إلى السينما بعد غياب طويل استغرق سبعة عشر عاما.

يصف بعض النقاد مشروع خودوروفسكي لتحويل رواية فرانك هربرت إلى فيلم سينمائي بأنه “أعظم فيلم لم يتحقق”، ولكن فيلم “كثبان خودوروفسكي” التسجيلي يقنعك في الكثير من اللحظات أثناء المشاهدة، بأنه قابل للتحقق بل وأنه سيتحقق بالفعل، فأنت كمشاهد، تتابع كالمسحور، تفاصيل تلك الرحلة الغريبة وذلك التدفق المليء بالحيوية الذي يجعل رجلا في الرابعة والثمانين من عمره لايزال قادرا على الحديث عن “مشروع حياته” هذا، بكل هذه الدقة وكل هذه التفاصيل، والأهم، كل هذا الحب والإيمان.
بعد مرور عقد كامل من الزمان على وأد مشروع خودوروفسكي، إقتنعت هوليوود أخيرا بأن رواية هربرت قابلة للتنفيذ، ولكنهم أسندوا إخراجه إلى ديفيد لينش. وعندما علم خودوروفسكي بذلك شعر- كما يقول- بالغيرة والغضب، لكنه آمن بأن المشروع بين يدين أمينتين، فديفيد لينش مخرج كبير متمكن صاحب خيال عظيم، وبعد أن انتهى الفيلم وأصبح جاهزا للعرض ثم عرض في دار عرض قريبة رفض خودوروفسكي الذهاب لمشاهدته، لكنه وافق أخيرا بعد إلحاح كبير من إبنه برونتوس. ويروي خودوروفسكي كيف أنه أخذ يتابع الفيلم ويشعر تدريجيا بالفرح.. ويعترف بأنه ابتهج بعد أن أدرك أنه أمام فيلم فاشل، وهوما حدث بالفعل، فقد فشل الفيلم فنيا وتجاريا. واشتكى ديفيد لينش فيما بعد، كما نعرف الآن، من أنه لم يحصل على الحرية التي كان ينشدها أثناء العمل في الفيلم ولكن هذا بالطبع موضوع آخر!.