ساعة ونصف في جحيم حمص

أمستردام – محمد موسى
في تقليد بدأ منذ أكثر من خمس سنوات، يختار مهرجان أدفا الدولي للسينما التسجيلية في أمستردام، لإفتتاح كل دورة من دوراته السنوية، فيلماً تسجيلياً،، يعكس موضوعه حراكاً سياسياً او اجتماعياً آنياً مشتعلاً في مكان ما في العالم (فيلم إفتتاح دورة عام 2008 كان: “تمتع بالفقر” للمخرج الهولندي رينزو مارتينز عن الحرب المستمرة ضد الفقر في أفريقيا، وفيلم دورة 2011 : “السفير” للمخرج الدنماركي مادس بروخير عن تجارة الماس المخلوطة بالدم في أفريقيا أيضاً، على سبيل المثال) المهرجان بهذا، لا يختلف كثيراً عما تفعله مهرجانات عالمية للسينما مثل كان او برلين، عندما تعرض أفلام هوليوودية الإنتاج في إفتتاحاتها، وكأن المهرجانات تلك، والتي تقدم بالغالب سينما بعيدة كثيراً بروحها وأساليبها عن “هوليوود”، تحتاج الى الشعبية التي تقدمها أفلام ونجوم عاصمة السينما في العالم، لجذب الإنتباه، او نيل شرعية ما. الشرعية والإنتباه يتم ترجمتهما في مهرجانات السينما التسجيلية، بأفلام عن قضايا الساعة، رغم ما تعانيه هذه الأخيرة بالغالب من الإستعجال وعدم إحاطتها بالمشهد العام، ناهيك عن ما تحتاجه السينما من مسافة زمنية ونفسيّة من الحدث، حتى يمكنها الرجوع اليه برؤية سينمائية وفكرية مترويّة.
 فيلم “العودة الى حمص” للمخرج السوري طلال ديركي، الذي إفتتحت به الدورة السادسة والعشرين من مهرجان أدفا السينمائي، والتي إختتمت الإسبوع الماضي، لا يخرج عن هذا التقليد. فالحدث السوري، وإن بدا إنه تراجع في قائمة الأوليات الإعلامية، الا إنه مازال الحدث الأهم والأكثر عنفاً عالمياً، فهناك في سورية، وربما في سورية فقط، مازالت “الدولة” تشن حرباً شرسة بدون رحمّة على مواطنيها، وهناك أيضا، جمعت “قوى الإسلام السياسي” العالمية صفوفها وفتحت جبهة جديدة في حروب الكرّ والفرّ الكونيّة التي تخوضها ضد “قوى الكُفر”.

يَّكشف المخرج في تعليقاته الصوتية التي رافقت عرض فيلمه، إنه كان يَّمر بحمص في الماضي في طريقه في الى وجهاته في بلده، وإنه لم يُفكر في زيارة المدينة. الثورة السورية التي إنطلقت قبل عامين، والتي وجدت في “حمص” قلعة حصينة، ستُجبر المخرج على الإنتباه للمدينة، هو سيتوجه الى هناك، وسيُصور أكثر من 200 ساعة، وعلى مدار عامين من عمر الثورة، سيختزلها لاحقاً في ساعة ونصف، وقت فيلمه “العودة الى حمص”، والذي بدا كيوميات للمدينة، من إنطلاق ثورتها الشعبية، الى تدميرها، ثم حصارها، مركزاً في تلك اليوميات على شخصيات معدودة، سيبرز منها “عبد الباسط”، الشاب الريفي، لاعب كرة القدم السابق، عاشق الغناء، والذي يطيب له أحياناً، أن يصدح بصوته بأغاني الوطن، وأحيانا الحبيبة. مع عبد الباسط، هناك “اسامة”، الشاب المُثقف، ذو الهواجس الإعلامية التوثيقية، والذي سيُصاب في المعارك، ثم سيختفي في ظروف غامضة، عندما كان في طريقه الى لبنان لتلقي العلاج هناك.
يسير الفيلم على الترتيب الزمني التصاعدي، فيبدأ من بداية الثورة في المدينة، وينتهي بالمجموعة التي رافقها لعامين، تحاول العودة للمدينة المحاصرة من قبل قوى الجيش السوري النظامي. التفاصيل التي نقلها الفيلم، ربما تكون الإولى من داخل المدينة طوال العامين الماضيين. الأحداث التي سمعنا عنها في نشرات الأخبار التلفزيونية، من هجمات متواصلة، وتبادل الحكومة والمعارضة السيطرة على أحياء المدينة، سنرى إنعاكسات لها من الجهة الاخرى، من قلب المدينة ومن أحيائها. المخرج يفتح باب “جحيم” حمص، ويقدم مشاهد مفرطة بعنفها، لشباب سوريين، يصابون أمام أعيننا، وبعضهم يلفظ الأنفاس الأخيرة خلف عدسات الكاميرات، لجثث يجتمع عليها الذباب، مرمية على خطوط النار العديدة، التي تشق أحياء الحي الواحد، عائلة تتجمع حول جثة إبنها الذي لم يتجاوز العاشرة، مرمياً في صالة بيت فارغ.
المخرج، والذي عمل ومساعدوه في ظروف بالغة القسوة، يجد في “عبد الباسط” وما مر عليه طوال العامين الماضيين، خطاً سرديّاً مهماً، على عكس الشخصية الإخرى ( إسامة)، والكتومة بطبعها، والتي إنسحبت من الأحداث والفيلم مبكراً. “عبد الباسط” يُمثل ما يمكن أن يُصنف بالشخصية السورية الريفية التلقائية النقية، التي إنتفضت من أجل حياة أفضل ومزيداً من الحريات. هو لم يتغير كثيراً طوال عامي التصوير، تبدلت فقط أغاني الوطن التي كان يُغينها الى أناشيد دينية، لكن تسامحه ومُثله لم يتغيرا. سيتبدل الرفاق من حوله أيضا، ويَّفقد أكثر من عشرين من أصدقاه، سيبكيهم في مشهد مؤثر، سيحّل رفاق جُدد بلحى طويلة، بدل أصدقاء الحي الواحد، والذين كانوا معه في بداية الثورة. لكن عبد الباسط، لا يبدو مشغولاً كثيراً بتبدلات المشهد من حوله، هو هناك في بلده، يُريد أن يُكّمِل الثورة الى آخرها.

في مقابل لحظات العنف المُفصلة في الفيلم، هناك مشاهد بجماليات لافتة، مثل تلك الذي تتبع فيه الكاميرا، إثنين من مجموعة عبد الباسط، وهما يمران عبر فتحات في البيوت المتلاصقة، الكاميرا المتحركة ستمر بدون تخطيط على تفاصيل صغيرة، من الحياة اليومية للبيوت التي هجرها أهلها، وأصبحت الآن منافذ آمنة للمسلحين، فنشاهد صور عائلية مُعلقة على جدارن، ألعاب اطفال، غرف نوم متروكة. عبد الباسط سيكون بطل عدة مشاهد قوية أيضا، منها له، وهو يضرب بفاسه جدار أحد البيوت الداخلية، عله يصل الى رفاق له محاصرين على الطرف الآخر من الحي. بعد عدة ضربات من فأسه، سيتسلل بعض من ضوء النهار الى الداخل المُعتم، في ترميز غير مقصود لكن بالغ الدلالة.
على خلاف أفلام تسجيلية تتناول أحداثاً معاصرة، غطتها التلفزيونية بكثافة، لا يستعين فيلم “العودة الى حمص” بمواد إرشيفية من الخارج. ربما للحفاظ على روح التجربة الخاصة. لكن الفيلم كان سينتفع ببعض الشروحات، كما كان يمكن لمواد تلفزيونية إخبارية غطت أحداث حمص، أن تقود المشاهد ضمن الجحيم الذي شهدته المدينة، وتعيد ترتيب الأحداث التاريخية في الفيلم، او تلك التي الحياة بالمطلق، كتبدل الفصول، فالصيف والشتاء يتعاقبان في الفيلم بسرعة كبيرة. كما أثقلت تعليقات المخرج الصوتية الفيلم. هذه التعليقات التي القيت بلغة عربية فصيحة مُتكلفة أحياناً، وشاعرية أحيانا إخرى، بدت من عالم آخر، لا يمت للفيلم او لغته البصرية بصلة، وتعكس فهماً شائعاً عن أهمية المُعلق في شرح الفيلم، وكيف يُمكن أن يمنح “التعليق” طاقة للفيلم من خارج منظومة الصور السينمائية التي يقدمها. تعليقات المخرج، لم تَّسد الفراغات العديدة في بناء الفيلم الزمني، والقفزات التي قام بها. رغم ذلك، ينضم “العودة الى حمص” الى مجموعة قليلة من التجارب التسجيلية العربية المميزة، التي إنتجت بسبب عناد وأصرار اصحابها وبعيداً عن المؤسسات بكل أنواعها، والغاية هو تسجيل هذه الأزمان الفارقة والحالكة من تاريخ المنطقة وحياة ناسها.


إعلان