أليكس بيتسترا: قصة مخرج تونسي يعود إلى الوطن
قصة المخرج

العائلية تصلح أن تكون فيلما، فهو ولد لأب تونسي وأم هولندية. لكن علاقة الوالدين والتي بدأت على أحد السواحل التونسية عندما قابلت والدته السائحة أباه الذي يعمل في أحد الفنادق هناك، انتهت سريعا وبعد بضعة سنوات فقط من الزواج، ليقضي ألكيس أكثر من عشرين عاما دون أن يقابل والده . الموقف الغاضب من هَجر أبيه، دفع المخرج الشاب للتخلي عن لقبه التونسي وأخذ اسم والدته الثاني. لكنه عاد إلى تونس قبل سبعة أعوام للبحث عن ذلك الاب، تلك الرحلة ستقوده لاكتشاف البلد، الذي أنجز عنه بكاوراته الروائية “العالم”، والذي عرض حاليا ضمن تظاهرة “مستقبل مشرق” ، أحد برامج مهرجان روتردام الدولي.
يقارب فيلم “العالم” القضايا التي طالما تَعرضت لها السينما الاجتماعية الجادة لدول شمال افريقيا، من مشاكل جيل الشباب وتجاذبه بين الغرب وتأثيراته والهوية الوطنية، إلى موضوع الهجرة، والتي ورغم القتامة التي صارت تُغلفّ العالم، والأزمات الإقتصادية الطاحنة، مازالت هاجس كثير من الشباب التونسي وحِلمهم الوحيد. فيلم “العالم” يُقدم أيضا موضوعة العلاقات الإيروسية بين رجال الشرق والنساء الأوروبيات والتعقيد الذي يحيط هذا النوع من العلاقات ، ويتساءل من هو الضحية هنا؟
عن فيلم “العالم” تحدث المخرج أليكس بيتسترا لموقع الجزيرة الوثائقية
كيف بدأ المشروع، ولماذا رغبت بإخراج هذا الفيلم بالتحديد؟
المشروع بدأ عندما ذهبت إلى تونس للمرة الإولى لمقابلة أبي، حيث إني لم أقابله لسنوات طويلة، كان عندي فُضول كبير عنه، ولم أكن أعرف أي شيء عن تونس، ذهبت هناك في عام 2005، وبَعدها عاودت الذهاب كل عام تقريبا، بدأت أتعرف على الثقافة والحياة هناك عن طريق تلك الزيارت القصيرة، والتعرف على أشياء رائعة وأحيانا أشياء قبيحة، وبدأت وقتها بتجميع معلومات عما أراه. أحببت أن أعمل شيء عن حياة مفترضة خيالية، كان يمكن لي أن أعيشها لو إن والدتي الهولندية لم تَترك تونس، لقد كان التفكير في هذا الاتجاه في البداية نوعاً من التأمل الفكري والنفسي الخاص بي وحدي، ثم حدثت الثورة في تونس، والتي منحتني فكرة لفيلم كنت في مرحلة التحضير له، عن شباب تونسيين يرغبون الهجرة إلى أوربا بعد الثورة، إذ سمعت عن ناس تُريد الذهاب إلى أوربا رغم الثورة، وتساءلت وقتها لماذا يريدون الهجرة رغم أنهم تحرروا من ديكتاتوريتهم؟ كنت أعتقد أنهم يجب أن يشعروا بالسعادة الآن. بالطبع كان هذا وقتها جزءا من وعيي البريء والغير ناضج عن الحياة في تونس. الثورة التونسية لم تغير شيئا لهذا الجيل من الشباب التونسي، فكثير منهم مازالوا عاطلين، وكما قال إبن عمي الذي ساعدني كثيرا في هذا الفيلم: “الحرية لا تَشتري لك ساندويشا”. الفيلم له طبقتان، هو عن تونس، والشباب التونسي، وهو أيضا بَحث عن هويتي الشخصية أو جزء من هويتي في هذا البلد الذي أتعرف عليه لأول مرة.
الفيلم روائي خيالي، لكن الشخصيات تبدو واقعية لدرجة كبيرة، هل فكرت أن تنجز فيلما تسجيليا عن الموضوعة نفسها؟
في عمليات البحث عن أفكار لإخراج فيلم عن تونس، فكرت في فيلم تسجيلي، المشكلة كانت وقتها، إن أي فيلم تسجيلي يجب أن يمرّ بجزء منه عبر قصتي، عن ذهابي لتونس للعثور على والدي، وهذا شيء مُثير بحد ذاته، لكن فكرت وقتها بأن حياتي مازلت معقدة كثيرا، وهو الامر الذي سَيجعل عمل فيلم عنها عملية غير ناجحة او غير مكتملة. في مرحلة متقدمة فكرت أن الفيلم سيكون أكثر إثارة إذا قمت باختراع شخصيات خيالية، مثل شخصية “عبد الله” في الفيلم، اختراع هذه شخصية سيمنحني المساحة الكبيرة لرواية القصة التي أراها مثيرة. الفكرة وراء هذا المشروع، هو وضع شخصيات خيالية ضمن بيئة حيّة، هو ما يمكن أن يطلق عليه موجة الواقعية الحديثة، أي عندما يقوم الحلاق في الحياة بالقيام بدوره في الفيلم كحلاق، أبي الحقيقي مثلا لعب دور الأب في الفيلم.
في العائلة التي قدمتها في الفيلم هناك جيلان، أحدهما عاش تجربة الهجرة إلى أوربا، والآخر يَسعى إليها، هل هي عائلة تونسية عادية، أم إن لها خصوصية إجتماعية معينة ؟
هناك كثير من التونسيين يُشبهون شخصيات الفيلم، عديد من الرجال التونسيين تزوجوا من إوربيات في العقود الاخيرة، هذه الظاهرة بالطبع تبرز بشكل أوضح في بعض المدن التونسية القريبة من الأمكنة التي يَقصدها السّياح في تونس، مثل مدينة سوسة، أبي الحقيقي مثلا ذهب الى هولندا بعد زواجه من أمي وعاد منها، وكذلك هو حال الأب في الفيلم، أما عن ابنه الخيالي في القصة، فهو يريد الهجرة أيضا، رغم أن هذا ضد رغبة والده. رغبة الابن هي رَدة فِعل على ما يعانيه في تونس من سوء أوضاع.
هناك مشاهد في الفيلم جريئة كثيراً بتركيبتها وطولها، هذه المشاهد توحي بثقتك الكبيرة بما تفعله، أخبرنا عن خلفيتك وتجاربك السابقة؟
لا أملك تجربة كبيرة بالحقيقة، لكني فكرت إن تلك المشاهد، وأهمها المشهد الافتتاحي، لا يمكن أن تنجح إلا إذا قامت الشخصية بترديد ما تقوله مرارا، حتى تقوم بإقناع الزبون في محل الاسطوانات الذي يعمل فيه، بأن لا يستعير فيلما هوليووديا يسيء للعرب. المزحة بعدها، إن ذلك الزبون يُصر على تأجير الفيلم الذي جاء من أجله، بالطبع تلك المشاهد جريئة، لكنها كانت رغبتي منذ البداية بأن أتجنب المشاهد التقليدية المكررة، وأن أجرب أشياء جديدة، الفضل يعود أيضا الى مدير تصويري الهولندي تايس خلوخير، والذي يَرغب كثيرا بالتجريب ويرفض قبول الحلول المُبسطة.

مناخ الفيلم اتجه إلى السوداوية في نصفه الآخر، وبعد البدايات التي تخللتها الكوميديا، هل هذا كان أمرا مقصودا؟ نعم إنه مقصود، هناك لقطة في الفيلم، تبدو فيها المدينة وكأنها تَنقلب، هي أذنت ببدء تغيير مناخ الفيلم، هذا التغير يَعود لأني رغبت أن أتعامل مع الثيمة التي يتناولها الفيلم بجدية كبيرة، هناك شباب يخاطرون بحياتهم من أجل عبور البحر إلى أوربا، وهو أمر لا يمكن أن تتناوله بكوميدية، على الجانب الآخر لم أرغب أن أعمل فيلم حزين بالكامل، لأن الحياة في تونس نفسها هي حياة مُتجددة، التونسيون يشاركون حياة بعضهم بتفاعلية جميلة، ويعيشون بحميمية مع محيطهم، أنا أيضا رغبت بأن ينقل فيلمي الحيوية التي يعيشها المجتمع التونسي، أردت أن يكون فيلمي عن الحياة في تونس بحزنها وفرحها.
لا أحد يَخرج من فيلمك كمتهم أو بريء، الفتيات الهولنديات في القصة رغبن أيضا بالتجارب العاطفية والجنسية مع الشباب التونسيين، لم يرفضن مرافقة الشباب التونسيين، في العام الماضي شهدنا بضعة أفلام عن موضوع السياحة الجنسية حول العالم، هل كان هذا الشيء من ضمن خططك للفيلم أن تركز على هذه القضية؟
قصة لقاء الهولنديات مع الشباب التونسي في الفيلم، تَصف ببساطة كيف تقابل أبي مع أمي في نهاية عقد السبعينات، كثير من النساء الإوربيات يذهبن الى تونس والشرق بشكل عام بأفكار ساذجة قليلا، او بإحلام رومانسية عن الرجل التونسي العربي الأسمر، ليعكس الآخير الفكرة الرومانسية لهن عن الشرق والحب. علاقة السائحة الأوربية بالشاب التونسي هي علاقة معقدة فيها كثير من المنفعة للطرفيين، المرأة الأوربية تَرغب في شيء ما من الرجل التونسي، شخص يمنحها الحب والأمان، الرجل التونسي في المقابل له رغباته الخاصة، كحياة أفضل تقدمه له هؤلاء النساء، تَذكرة سفر إلى أوربا والإقامة هناك.. كثير من العوامل التي تجعل هذه العلاقة حيّة ومستمرة، وهو أمر يجعل من العسير إطلاق أحكام او اتهام شخص بأنه مُذنب في هذه العلاقة، الفيلم لا يرغب في اتهام أحد، هو يُريد أن يُظهر التناقض الذي نعيش به.
كيف وجدت الممثلين في الفيلم ؟
هناك العديد من افراد عائلتي في الفيلم، مثل: أبي، عمي، أختي، كما اعتمدنا كثيرا على الناس الذين كانوا في مواقع التصوير، والذين طلبنا منهم أن يلعبوا أدوار صغيرة. لشخصية عبد الله، قمنا ببحث خاص بالتعاون مع شركة انتاج تونسية، وهم رتبوا لقاءات مع ممثليين هواة. المفارقة أن الممثل عبد الحميد نوارة و الذي لعب دور عبد الله كان آخر شخص قابلناه في اليوم الذي خصصناه لمقابلة الممثلين. هو الذي ترك الانطباع الأكبر، ربما لأنه يملك نوعا من الغموض في عينه، وهو أمر كان يناسب الشخصية التي لعبها.