أداء الممثل وفعاليّةً الفرجة في سينما التّخييل:

أداء أنطوني كوين مولّدا للمعنى في فيلم “أسد الصحراء”
أحمد القاسمي – تونس
    
إلى مبدعه يُنسب الأثر ومنه يستحضر المتقبل صورة للحظة الإنشاء وما يحفّ بها من الوضعيات ومن الخلفيات الجماليّة والفكرية فيفعّل وفقها الكثير من دلالاته. ولئن ينسب الفيلم إلى مخرجه، دونا عن غيره، باعتباره منسّقه العام وصاحب ما فيه من تصوّر جمالي ينتظم مجمل الأثر فذلك لا يطمس دور الممثل، باعتباره أحد هذه عناصره الفاعلة ومركز الجذب من  الصورة السينمائيّة. فعلى كيفيّة حضوره أيقونيا مدار جماليّة الفيلم وفي كيفيّة أدائه للحركة وإلقائه للنصّ ملتقى إسهامات مختلف الأطراف المشاركة في تشكيله. ومن ثمة بات البحث في صيغ أدائه مدخلا مهما لمقاربة جماليّة الأثر السينمائي ولرصد مسالك المعنى فيه.
تختلف نماذج الأداء في الفيلم السينمائي من مدرسة إلى أخرى ومن رؤية جماليّة إلى أخرى. ولكن إجمالا يمكن أن نميّز بين نموذجين أولهما كلاسيكيّ متأثر بالأداء المسرحيّ، يضخّم من الإيماءات في مبالغة وتكلّف، ويجعل الشكل الخارجيّ للجسد سبيلا لإبراز ما ينطوي عليه المستوى الباطنيّ من عاطفة. وثانيهما حديث يستند إلى مصادرة ترى في التعبيرات الجاهزة للمواقف والوضعيات تقييدا للممثل وحدا من إبداعه. وبدلا من التركيز على المظهر الخارجي للممثّل وإعلاء قيمة جماله الجسدي يعوّل هذا النموذج على الجانب النفسانيّ الجسمانيّ بحثا عن رؤية الفكرة وهي تضيء الوجه. وضمن النموذج الواحد يمكننا أن نميّز بين ربعة أنماط من الممثّلين مدارها على ممثل الشخصيّة الذي يتقمّص الدور وينخرط في عالمه حتى التوحّد به وممثل الذات الذي يعرض بشكل ما ذاته والممثل الجسدي وهو الذي ينتخب لخصائص جسديّة مؤثرة والممثل الطبيعيّ الذي يمثل بفطرته وينجح، لانعدام خبرته، متى توفق المخرج في إبقائه بعيدا عن مراقبة ذاته. اعتمدته السيّنما الإيطاليّة خاصة ومنها تسرّب إلى سينما المؤلف والسّينما غير الاستهلاكيّة عامة . 

أحمد زكي بين شخصيتين (جمال عبد الناصر وأنور السادات)

تكون الشّخصيّة السّينمائية ثلاثيّة الأبعاد. فهي أوّلا دور مستقلّ عن النّصّ الفيلمي يقتضي جملة من الكفايات يحده حمادي كيروم بكونه “وجها بلاغيا ثابتا قابلا في نفس الوقت لبعض التّغييرات الممكنة” . وهي ثانيا شخصيّة تزرع في هذا الدّور الافتراضيّ العام حياة وينتقل بها من طور التّجريد والافتراض إلى عالم القصّ وهي أخيرا لممثّل يجسّد الشخصيّة أيقونيّا وغالبا ما يؤدي– عند المتقبل – الشّخصيّة الواردة في الفيلم وكلّ الشّخصيات التي أدّاها سابقا فيكون جسده موطنا “لحركة قوية من التّناص”.         
لقد دفع تركيب هذا المكوّن بين دور وشخصيّة من ناحية، وجسد الممثل المتقمص لها من ناحية ثانية، لوتمان ما إلى دراسته من منطلق التقطيع الفنيّ وضبط سلّم اللقطات وزوايا التصوير. فيشير إلى أنّ المخرج يستدعي جسد الممثّل وفق لقطات مختلفة الأحجام وفق ما تقتضيه الرّؤية الإخراجيّة. ومن ثمّة كانت “قدرة السّينما على تقسيم الصّورة البشريّة إلى قطع ومن ثمّ ترتيب هذه المقاطع في سلسلة تتتالى زمنيا تمكنها من تحويل الصّورة الخارجيّة للإنسان إلى نصّ سرديّ”.  

تحتفظ خزانة الأفلام العربيّة  بفيلم مميّز يوظّف بكثير من الإتقان أداء الممثل ويجعله منطقة تتجوهر عندها الدلالة ومنها تشعّ هو “أسد الصحراء ” للمخرج السوري مصطفى العقاد . ونقدّر أن البحث في أداء أنطوني كوين لهذا الدور وفي تجسيده لشخصية عمر المختار وفي سياسة المخرج في توجيه ممثليه كفيلان بأن يدفعا دلالات كثيرة، إلى السّطح وأن  يفعّلاها دورا وشخصيّة وممثلا بعد أن ظلت طويلا طيّ الكمون.
° الدور وجها بلاغيّا أثيرا وسلطةً ضاغطةً
يتعلّق الدور بعرض سير الزعماء الأفذاذ ممن أسهموا بفاعليّة في قيادة أممهم وفي دفعها إلى تجاوز المحن العظام بما لهم من دور قيادي يقتضي خلالا كثيرة منها الذهنيّ كالإبداع وسرعة البديهة الكافلة لاتخاذ القرار الحكيم والقدرة على فهم نفسيّة المحيطين بهم وتقدير الطريقة المثلى لدفعهم إلى العمل بروح فريق واحد. ومن هذه الخلال ما هو نفسي كالجلد والصبر على الشدائد ومنها ما هو إنسانيّ أخلاقي كالعدل والصدق.. ثم إنّ هؤلاء الأبطال يواجهون أقدارهم ويسعون إلى غايتهم ويبذلون النفس في سبيلها مما يجعل موتهم الماديّ في سبيل تحقيق غاياتهم انتصارا معنويّا يغرس الفيلم ضمن عمق تراجيدي ثاو متحكّم. ويظلّ هذا الدور محكوما بانتظارات متفرّج ينزع إلى أسطرة الشخصيّة التاريخيّة فيضفي عليها هالة من القدرة والإعجاز والقداسة وممّا يجعل كل تهاون من الممثل في الأداء وكلّ خلل في إدارة الممثل من المخرج مصدرا لخيبة الانتظارات وسببا لفشل الفيلم فنيّا أو تجاريّا.
° الشخصيّة: عمر المختار والعمق الإنسانيّ
يتفاعل ما يأتي عمر المختار من الأفعال مع ما يتميّز به من السمات والأحوال لتحديد شخصيّة “أسد الصحراء” في الفيلم. فتعليمه للصبْية، ضمن أولى مشاهد الفيلم، في كثير من الحنوّ، يجسّد صبرا على تشاقيهم وتفهّما لحاجتهم إلى المرح والعبث. أما لحاقه بهم بعد هربهم من حلقة الدرس إلى حفل زفاف، ومشاركتهم على استحياء رقصهم فيمنح هذه الشخصيّة عمقا إنسانيّا يجمع الالتزام والورع إلى الإقبال على الحياة والرغبة فيها. وقيادته لفصول حربه الطويلة على الاستعمار بين مواجهات ومناورات ومفاوضات ترسخ صلابته وحنكته وقدرته لا على مقاومة المستعمر فحسب وإنما على مقاومة كل صنوف الإغراء. ولمآثره النفسيّة والروحيّة نصيب في إجلاء هذه الشخصيّة بين ورع ومواجهة لأعتى المحن بصبر المؤمنين وتوازن لا تهزّه الشدائد أو تنكيل المستعمر بالنسل والحرث.
وتمثل صلة هذه الشخصيّة بمحيطها عمقا يفعّل هذه السمات. فتتوزع بين محورين، علاقة بالأهل عنوانها الحنو والأبوّة وأخرى بالغزاة عمادها المواجهة والمقاومة. وعلى ما في الظروف الحادة من قسوة لا يخرج عن سماته هذه وعلى ما بين المحورين من الاختلاف يكسب احترام الجميع.
لقد منحت شخصيّة عمر المختار السينما العالميّة فرصة الانفتاح على السياق التاريخي للمقاومة الليبية للاستعمار الإيطالي في الثلث الأول من القرن العشرين وتسليط حزمة ضوء على سياقها الحضاري والثقافي، فجعلتها مقاومة تلقائيّة وعنوانا لرفض الإنسان للاضطهاد وتمسكه الفطري بالوطن فقد ” كان من الممكن تقديم عمر المختار لأول مرّة وهو يقاتل أعداء بلاده. ولكنّ تقديمه وهو يعلّم القرآن الكريم يؤكد أنّ القتال ليس مهنته. ويعني أنّ القتال الذي يخوضه إنما هو واجب على كل المواطنين إزاء الغزو الأجنبي” . 
وللمتفرّج أن يتساءل عن مأتى هذه المكانة. وإن لم تسعفه كفايته الموسوعيّة بمعرفة تجربة عمر المختار الروحيّة والنضاليّة ،  لمّا سكت الفيلم عن شبابه وعن كهولته وتركهما ضمن فراغات النص وسواده ، أسعفه استدلاله لِما في الأثر من الموجّهات إلى خلفيّة هذا الزعيم الروحيّة وشكل إقامته في الوجود.

كامل المقال

 


إعلان