الفيلم المغربي :محاولة فاشلة لتعريف الحب
عندما يفشل العشق وتنجح التجربة
طنجة – رامي عبد الرازق
شهدت مدينة طنجة المغربية في الفترة من(1-9 فبراير) فعاليات الدورة الرابعة عشرة لمهرجان طنجة الوطني وهو التجمع السنوي لعائلات السينما المغربية بالمصطلح الدارج الذي يتم اثنائه الوقوف على حصيلة الإنتاج السينمائي المغربي عبر عام كامل من خلال مسابقتين رئيسيتين هما مسابقة الأفلام الطويلة(التسجيلية والروائية) ومسابقة الافلام القصيرة.
ضمت مسابقة الأفلام الطويلة هذا العام 20 فيلما تمثل مختلف توجهات الأنتاج السينمائي الاكثر تنوعا بين انتاجات السينما العربية بما فيها السينما المصرية ذاتها التي تأتي على رأس قائمة الدول الأكثر انتاجا في المنطقة العربية والأقل تنوعا من حيث الموضوعات.
وتمثل الأفلام العشرين التي شاركت في الدورة حالة استعراض بانورامية لمختلف اجيال السينما المغربية الحالية بداية من جيل الكبار الذي يمثله المخرج مؤمن سميحي بفيلمه”طنجاوي” وحسن بن جلون في فيلم السيرة الذاتية”القمر الأحمر”يليهم جيل الوسط المتمثل في نبيل عيوش وفيلمه”يا خيل الله”ونور الدين لخماري بلمحمته الجديدة”زيرو”- وهما الفيلمان اللان حصدا حوائز المهرجان هذا العام- ثم فريدة بو اليزيد بفيلمها”حدود وحدود” ثم يلي ذلك عشرة مخرجين جدد يقدمون أعمالهم الاولى لتصبح السينما المغربية السينما الأكثر افرازا لجيل جديد من المخرجين, ويصعد مهرجانها الوطني ليصبح المهرجان رقم واحد بين المهرجانات القومية العربية الذي يحتفي بسينماه المحليه ويمنح صناعها مساحة دولية للتقييم عبر لجان تحكيم متعددة الجنسيات وحضور قوي للصحافة الأجنبية من الوطن العربي وأفريقيا وأوربا.
محاولات سينمائية
المخرج حكيم بلعباس مخرج مغربي من مواليد الستينات قدم من قبل افلاما تحمل روح المغامرة الفنية والتي يمكن أن نطلق عليها”محاولات” سينمائية – استلهاما من أسم فيلمه الجديد-وهي “محاولات”تحاول أن تكسر الحواجز بين الأنواع وتفضل الأسلوب الحر في التعامل مع الموضوع فلا التزام بنوع درامي معين ولا اطار إخراجي محدد ولكن صورة نابضة وصراع مختلف.

وقد سبق للمخرج أن فاز بجائزة المهرجان الوطني في دورته الثانية عشر بمحاولته المميزة”أشلاء”وفي الدورة الجديدة لمهرجان طنجة يعود بلعباس بمحاولته المختلفة”محاولة فاشلة لتعريف الحب” ليمزج كعادته بين الخيالي واللاخيالي أو الذي يقف على الحدود ما بين الخيالي الدرامي والخيالي الواقعي وليتمكن من الحصول على جائزة أحسن مونتاج وهي احد اهم الجوائز الفنية عامة لأنها تجمع في تقييمها ما بين التقني والدرامي والبصري والأيقاعي.
عمد المخرج في البداية إلى تأسيس أسطورته الفيلمية الخاصة والتي تقوم استنادا على اسطورة”حقيقية”عن بحيرتين من بحيرات جبال الأطلس”اسلي وتسليت”اي بحيرات العريس والعروس, وهي البحيرات التي قيل أنها تشكلت من دموع حبيبن فرق بينهما الأهل فبكيا على الفراق حتى صنعت دموع كل منهم بحيرة بأسمه.
عناصر الاسطورة الفيلمية ليست في القصة القديمة والتي تتماثل مع كثير من الحكايات التراثية الشعبية حول علاقة العشاق بالطبيعة سواء الذين جمعت بينهم الحياة او فرقت بينهم الأقدار ولكن عناصر الاسطورة الفيلمية تستلهم من اسطورة اسلي وتسليت موتيفاتها البصرية والدرامية وتقيم عليها فرضيتها, فالأسطورة القديمة تقول بأن دموع العاشقين هي التي كونت البحيرات ومن ثم تتحول الدموع البشرية التي تتدفق من عيون الشخصيات الثلاث الرئيسية في الفيلم أو دموع الطبيعة المتمثلة في المطر احد العناصر الأسطورية في التجربة, والتي تمثل جانبا من السرد البصري والدرامي للأحداث, رغم أنه ليس ثمة أحداث بالمعنى الكلاسيكي للحدث الدرامي(قرار وفعل ورد فعل وصراع)ولكن ثمة “ما يحدث” خلال فترة إقامة كلا الممثلين الأساسيين حمزة وزينب في منطقة البحيرات-بناء على طلب المخرج- للتعايش مع التجربة واستيعابها من اجل تقديم فيلم عن اسطورة البحيرات.
فيلم عن فيلم
يستخدم بلعباس في البداية الأسلوب اللاخيالي في التعامل مع مقدمة موضوعه, فهو يصور لنا بكاميرا ديجيتال محمولة عملية الوصول إلى طريق البحيرات في عمق جبال الأطلس متخذا من شكل الريبورتاج التليفزيوني اطارا له, حتى أنه يتوقف عند بعض سكان المنطقة ليسألهم عن اسطورة البحيرات ومدى حقيقتها ومن منهم لا يزال يصدقها ومن يتعامل معها على أنها حكاية طفولية.
تبدو هنا اسطورة البحيرات التي تشكلت من دموع العشاق اشبه بأسطورة الحب في معناه العاطفي الرومانتيكي اي يبدو البحث عن اصل الأسطورة اقرب لطرح لسؤال عن الحب ووجوده! وهي جزء من الفرضية التي يقوم عليها الفيلم والتي يمكن أن نكملها بسؤال اخر وهو :في حال وجود الحب فهل لنا أن نقف على تعريف او تفسير له؟
بعد هذه المقدمة التسجيلية البحتة يبدأ الفيلم بعملية البحث عن الممثلين القادرين على تجسيد شخصيات اسلي وتسليت ويستمر الأسلوب التسجيلي/الاخيالي خلال عملية الكاتسينج حيث يستخدم المخرج مادة مصورة بكاميرا فيديو منزلية بجودة منخفضة مؤكدا بذلك على حقيقية الشخصيات وكونهم ممثلين”حقيقيين” وليسوا ممثلين في ادوار ممثلين.
عندما يستقر المخرج على زينب وحمزة تبدأ رحلة الذهاب إلى الأطلس حيث يطلب منهم معايشة الاجواء التي تدور فيها قصة الفيلم الذي من المفترض صنعه عن الأسطورة, ولكن لا يستغرق المخرج كثيرا في مسألة صناعة فيلم عن كواليس فيلم أخر, إنما تتحول الكواليس أو عملية المعايشة بين زينب وحمزة إلى الفيلم الأساسي والذي يتماس مع الفيلم الأصلي فيما يخص السؤال عن الحب, ولكنه يبتعد عنه ليصنع تفاصيله ودراماه الخاصة.
يقسم المخرج الفيلم إلى فصول متتالية كل مشهد تقريبا يحتوي على عنوان جديد لأحد الفصول وهي عناوين في اغلبها تحمل لفظ”نكرة”ليس معرفا مثل”روافد”أو”لقاء”وهكذا, ومن المعروف أن العنوان النكرة أكثر تجريدية وتعميما للفظ من الكلمة المعرفة, فالتعريف يحمل يقينا ما أو إجابة, والفيلم بأكلمه هو محاولة للأجابة أو لتعريف الحب, وبالتالي تأتي الصلة بين تنكير عناوين المشاهد وبين الأطار الذهني والشعوري للفيلم لتقوي المعنى وتبرزه.

كما أن مجموع هذه العناوين المشهدية يمكن أن يلخص في النهاية عملية تفتيت أو تحليل محاولة البحث عن اجابة لسؤال(ما هو الحب؟) فالحب ما هو في النهاية سوى”روافد”و”لقاء”و”أمل” و”دموع”و”مطر”أي أنه كل عناوين الفيلم مجمعة, وهي ميزة درامية أن تصبح الأجزاء السردية في اطارها العام تمثل الكل أو المضمون الأشمل لمعنى الفيلم.
ولكن يبدو أن المخرج قد راقته مسألة عنونة كل مشهد حتى صار الأمر يحتوي على مبالغة غير فنية, اي كأن العملية تحولت إلى أن يصبح العنوان هدفا في حد ذاته وليس وسيلة سرد وهي أحد نقاط الضعف في التجربة.
زينب والعاشق وحمزة
تنقلب عملية التعايش المفترض ان يقوم بها زينب وحمزة لواقع العاشقين الاسطوريين من أجل تجسيد قصتهم إلى حالة تعايش مع الذات والذكريات وتجارب الحب السابقة, خاصة عندما يتعرف كلاهما على أحد شباب المنطقة والذي يعاني من نفس الازمة التي عانها من قبله اسلي او العريس في اسطورة البحيرات.
يبدو الخط الدرامي الخاص بزينب اكثر الخطوط وضوحا خاصة في ازمتها العاطفية التي تخص ايضا فقدانها لعذريتها كأنثى على يد الشاب الذي عشقته في مدينتها, يفرد المخرج لزينب مساحة جيدة لمكالمات التليفون سواء مع والدتها او عند تركها لرسائل مطولة وقاسية لحبيبها الذي هجرها والذي يبدو أن وجودها في اجواء الاطلس الخرافية قد فجر في داخلها الشعور بالحنين إليه والألم منه.
وفي مقابل هذا يبدو الخط الدرامي الخاص بشخصية حمزة خافتا بل يصل إلى حد البهتان في الكثير من مشاهده حيث لا ندري حقيقة أزمته او مدى عمقها, وعندما حاول المخرج أن يشرح لنا اسباب ازمته على لسانه في فضفضته المتبادلة مع زينب نكتشف انه قد غرر بفتاة واخذ برائتها ثم تركها, وكأنه المقابل الذكوري لحبيب زينب الذي اسلمته عذريتها, ولكن طبيعة الفضفضة بالأضافة إلى اداء الممثل نفسة(حمزة عبد الرازق)جعل الأزمة اقرب لازمة الضمير منها للازمة العاطفية كما هو الحال مع زينب والعاشق الشاب أبن الجبال.
بل أن المعطيات الأخراجية والدرامية لعملية المعاناة أزمة حمزة تأصل فكرة أزمة الضمير خاصة عندما نشاهده وهو يغطس في احد البحيرات باكيا وكأنه يحاول أن يغسل نفسه من خطيئته او ينهي عذاب ضميره.
اما قصة العاشق الشاب ابن الجبال فهي عبارة عن اعادة تمثيل لقصة اسلي وتسليت من خلال استخدام الظرف الأقتصادي المتعلق بفقر الشاب ورفض والد العروس تزويجهم وذهابه للعمل ثم عودته ليجد العروس قد تزوجت وخلى بيتها.
رغم نمطية القصة ومليودراميتها إلا أنها ضمن خطوط الدراما الخاصة بحالات الحب أو بمحاولات تعريف الحب تعتبر عنصر مهم واساسي خاصة أنها تمثل في جانب منها ديمومة اللوعة الرومانتيكية التي كانت السبب الرئيسي في ارتباط اسطورة العاشقين بتكوين البحيرات. أي كأن القصة تعيد نفسها بعد كل هذه السنوات تماما مثل الحب الذي خلقه الله حين خلق البشر واستمرت محاولات تعريفه ومعاناة عذاباته منذ فجر الخليقة حتى الان وإلى أن يرث الله الأرض.
فقصة اسلي تسليت التي جسدها هذا العاشق الشاب وحبيبته هي مثال درامي واضح على أن الحب مخلوق متجدد لا يفني وان لوعته لا تنتهي وان قصصه رغم تشابهها وتكرارها دائما تبدو وكأنها تحدث للمرة الأولى , كما ان اختيار المخرج لشخص حقيقي من المنطقة هو محاولة للنزول بالفكرة من علياء التجريد والقالب الفني الخيالي إلى ارضية الواقع وقسوته حتى مع كونه يشترك هو الأخر في”التمثيل”.
بكاء الطبيعة
استطاع المخرج من خلال الأستخدام الدقيق لأيقاع المونتاج ان يوظف عناصر اسطورته الفيلمية وعلى رأسها المطر فبعد كل ذروة شعورية لاحد الشخصيات الثلاث خاصة الذرى التي تعكس احباطاتهم العاطفية او عذاباتهم الرومانتيكية تأتي مشاهد البكاء من ناحية أو مشاهد المطر من ناحية أخرى الذي هو المعادل الدرامي للدموع, وكأنه بكاء الطبيعة على حال العشاق تماما مثلما بكى اسلي وتسليت وتجمعت من دموعهم مياه البحيرات الأطلسية.

والمونتاج ليس فقط أن يقوم المخرج بالتقطيع بين اللقطات مع كل تغيير للأحجام والزوايا ولكنه على حد قول جابرييل جارثيا ماركيز في ورشته الشهيرة أنه علم النحو السينمائي الذي بدونه لا يستطيع أي سينمائي أن يصيغ جملة فيلمية مفيدة.
وقد تمكن بلعباس من توظيف المونتاج للتعبير إلى جانب الحكي عبر تتابع اللقطات والمشاهد مستفيدا من تقنيات الأظلام التدريجي لأعطاء الشعور بنهاية فصل شعوري وبداية أخر او القطع المباشر دون اظلام أو مزج حين يريد أن يشعرنا بأن الفصول تكمل بعضها او انها تنويعات على نفس الفكرة او في بعض الاحيان تمثل تقابلات درامية بين ما تحكيه زينب وما يشعر به حمزة او يعاني منه العاشق ابن الجبال وهكذا, ومن هنا يمكن أن ندرك لماذا استطاع الفيلم الحصول على جائزة احسن مونتاج ضمن فعاليات المهرجان الوطني في دورته الأخيرة.
محاولة ناجحة
يبقى فقط أن نشير إلى لعبة التضاد التي مارسها المخرج اكثر من مرة سواء على مستوى شكل الفيلم الذي يجمع ما بين الخيالي واللاخيالي كما اسلفنا أو حتى على مستوى عنوان التجربة (محاولة فاشلة لتعريف الحب) لأن الفشل المقصود به هنا ليس فشل المحاولة/ الفيلم- بل على العكس تماما- لكن المقصود هو أن الحب كشعور كلي وفوقي وغير محدد وأثيري وكوني وأسطوري وواقعي في نفس الوقت من الصعب تعريفه أو تفسيره أو الوقوف على اوله وآخره وبالتالي فأي محاولة لذلك هي محاولة فاشلة ولكن نجاحها يكمن في قدرتها على الأقتراب من تخوم هذا الكيان الكبير وتفتيته وتحليله سواء خلصت في النهاية إلى نتائج يقينه أو إلى اسئلة كلية متعددة الأجابات والرؤى.
أنها محاولة”فاشلة”أخرى لتعريف هذا الكائن لكنها”ناجحة”في الأقتراب منه بعدستها وتصويره لنا تاركة أيانا نفتش خلف الصورة لعل عدوى محاولات التعريف تصيبنا فننجح فيما فشلت هي فيه.