… إنهم يريدون “اغتيال” مهرجان السينما المغربية

أحمد بوغابة / المغرب

… شيء من التاريخ
تم تنظيم أول مهرجان سينمائي دولي في تاريخ المغرب بمدينة طنجة سنة 1968 وذلك بإحدى أكبر القاعات وأضخمها وهي قاعة “المبروك” التي كانت حديثة البناء في ذلك التاريخ وتحتوي على شاشة ضخمة المعروفة حينها، في اللغة السينمائية، ب”طُودَاوْ” (Todao) ذات الحجم الكبير ب70 ملم (مرتين حجم 35 ملم المعروف). لم يكن المغرب في ذلك التاريخ يحتوي على الشاشات بذلك الحجم الجديد إلا سينما المبروك في طنجة وأخرى بمدينة الدار البيضاء وهي قاعة “فيردان”. ثم تبعتهما قاعات قليلة تُعد عل رؤوس الأصابع اليد الواحدة.
وكان المهرجان الذي انعقد في طنجة آنذاك قد اختار لنفسه تيمة جديدة كليا في وقتها وهي سينما البحر الأبيض المتوسط قبل أن تظهر بعد ذلك بسنوات كثيرة مهرجانات تهتم بهذه السينما في كلا ضفتي حوض المتوسط. كان مهرجان سينما أقطار المتوسط بطنجة قد سبق غيره من المهرجانات بعقد من الزمن. قبل ظهور مهرجان فَلينْسْيا (إسبانيا) وساراكوزا (إسبانيا) ومونبوليي (فرنسا) والإسكندرية (مصر) وتطوان (المغرب) وغيرها من المدن المُطلة على حوض المتوسط. بل أصبحت بعض الأقطار البعيدة عن بحر المتوسط بدورها تهتم بالإنتاج السينمائي في هذه المنطقة الجغرافية كما هو شأن مهرجان بروكسيل (بلجيكا) وغيرها…

قاعة روكسي التي تحتضن المهرجان

إلا أن الدولة المغربية مُمثلة في وزارة الأنباء (كانت وزارة الاتصال حينها تحمل إسم الأنباء)، التي عاشت النجاح الذي لم تكن تتوقعه، أصدرت للأسف في حقه قرار نقله إلى العاصمة الرباط فمات مباشرة في الطريق دون أن تنعقد الدورة الثانية لأنه اقتُلِعَ من جذوره/تربته الطبيعية. كان سكان المدينة الشغوفين بالسينما قد احتضنوه جميعهم وافتخروا به (كان سكان مدينة طنجة تتكون من جاليات من مختلف الأقطار سواء الأوروبية أو العربية وحتى من القارة الأمريكية بشمالها وجنوبها ومن آسيا أيضا خاصة من الهند وباكستان الذين كانوا يشتغلون مع الإنجليز في منازلهم وفي متاجرهم وفي بعض مكاتبهم الإدارية).
كما كانت طنجة تعرف تصوير كثير من الأفلام الأجنبية قبل ذلك التاريخ وخلاله. وهي المدينة التي عرفت تشييد أول قاعة سينمائية في المغرب وكانت مبنية بالخشب (لم تعمر طويلا، لم تتجاوز أكثر من 6 شهور، بسبب الحريق الذي حولها إلى رماد لأن آلة العرض حينها كانت تشتغل بالفحم الحجري بعد أن نسى العامل إخماد النار نهائيا كما هو مطلوب منه حسب ما ذكرته بعض صحف المدينة في بداية القرن الماضي). كما عُرفت طنجة كأول مدينة التي أدى بها الجهور ثمن التذكرة لمشاهدة فيلم لم تتجاوز مدته  خمس دقائق بأحد الملاهي.
استرجعت المدينة – في السنين الأخيرة – توهجها بقدوم مجموعة كبيرة من السينمائيين العالميين تصوير أفلامهم. وآخر من صور بها – في الصيف الماضي – هو المخرج الأمريكي المستقل والمتميز جيم جامروش. وفي السنة الماضية صور المخرج الفرنسي من أصل جزائري ندير موكنيش فيلمه الجديد “وداعا المغرب” الذي بدأ عرضه حاليا، في مطلع شهر فبراير، في القاعات الفرنسية حيث يقوم المخرج والممثل المغربي فوزي بن السعيدي بدور البطولة فيه. وتحتضن مدينة طنجة منذ 6 سنوات الخزانة السينمائية، الوحيدة الموجودة في المغرب، وهي فضاء نموذجي للثقافة السينمائية بكل أبعادها الفنية والتربوية والمعرفية فضلا عن عروضها المتميزة طيلة السنة.
وإذا كانت الأغلبية الساحقة من المجتمع السينمائي، المحلي والوطني والدولي، وكذا سكان المدينة قد نوهوا وصفقوا بإعادة الاعتبار للمدينة في إطار جبر الضرر التاريخي، بسبب ما تعرضت له خلال ما عُرف في المغرب ب”سنوات الرصاص”، باستقرار المهرجان الوطني للسينما المغربية فيها بمباركة وموافقة طبعا ملك البلاد على هذا الاختيار. إلا أن هناك أقلية قليلة جدا، لا تُرى حتى بالمجهر، تعارض اختيار الملك والمُصالحة التي أرادها مع منطقة الشمال التي عانت الكثير طيلة 50 سنة من استقلال المغرب. ف”هُمْ” يعارضون في السر وخَفْيَة لأنهم لا يملكون القوة والجرأة للظهور إلى العلن تحت الشمس وفي واضحة النهار مع أنهم عناصر مُوظفة في وزارة رسمية حكومية هي وزارة الاتصال. علما أن الوزير الوصي على هذه الوزارة كان قد صرح قبل أسبوعين لصحيفة مغربية أنه لا يتدخل في شؤون المركز السينمائي كهيئة وصية على السينما حسب ما ينص عليه الدستور مُشَبِّها وزارته بوزارة العدل التي لا تتدخل في اختصاص المحاكم. فما قوله في مَنْ حوله مِنَ أهل سوء النية؟
وللتذكير لمن خانته ذاكرته من الموظفين بالوزارة بأنه قد صدر في الجريدة الرسمية بتاريخ 28 شتمبر 1977 في ثلاث صفحات 2701 و2702 و2703 القانون المُعدل المتعلق بإعادة تنظيم المركز السينماتوغرافي المغربي حيث ذكر في بصريح العبارة المهام المتعددة لهذه المؤسسة في الشأن السينمائي وبما أننا بصدد المهرجان الوطني نكتفي بذكر الفصل الثاني المتضمن لفقرة تهم تنظيم المهرجانات بالآتي: يعهد إلى المركز السينمائي المغربي ب”التعاون مع المنظمات المهنية المعنية بالأمر قصد تنظيم التظاهرات الوطنية أو الدولية التي من شأنها أن تساعد على ازدهار الفيلم المغربي وكذا إبداء رأيه حول كل انتقاء للأفلام التي تمثل السينما المغربية في المهرجانات الوطنية والدولية”

… “هُمْ” ضد التاريخ
“هُمْ” معروفون وليسوا مجهولين بضمير الغائب. “يخططون” ضد قرارات الملك منذ مجيء الوزير الجديد لكي “يقنعوه” (أو بعبارة واضحة توريطه) بضرورة العودة إلى “الأصل”. الأصل البدوي الرحال الذي لا يستقر له المكان، يتنقل ب”خيمته” و”قطيعه” بحثا عن “الكلأ” الذي قد يجده قليلا وينقصه كثيرا هنا أو هناك دون أن يكون متأكدا من وجوده أصلا. ولا يجد ما يقتات به في أغلب الأحيان فيكتفي بإعداد نجوم السماء مرة تلوى الأخرى.
ف”هُمْ” يتشبثون بالفشل ويستلذون به ويريدون أن يظهر المغرب أمام الأجانب بمظهر المتخلف الذي تطاول على فن السينما بسادية مرضية. لقد أثبتت التجربة بالملموس وبالعين المجردة فشل ترحال المهرجان على جميع المستويات: اللوجيستيكية والتقنية والفنية والبنية التحتية والأجواء العامة وبما له علاقة بالجمهور وبكل العناصر مجتمعة باستحالة إنجاح تظاهرة سينمائية في المستوى الذي يليق بالفن الأكثر تنظيما في العالم على طريقة القرون الوسطى وما قبلها. كان يفشل المهرجان وهو ينعقد في فترات متباعدة قد تتجاوز 4 أو 6 سنوات فما بالكم وهو قد أصبح دوريا في كل سنة.

جمهور المهرجان الوطني الأخير

لا يوجد في العالم مهرجان واحد ناجح يعتمد على الترحال رغم أن “العرب المهاجرون في أوروبا” حاولوا خلق مهرجان رَحَّال باسم “السينما العربية – الأوروبية” يتنقل في الأقطار الأوروبية إلا أنه “تعب” في الدورة الأولى ولم يتجاوز حدود بلدين فقط حيث غاب بسرعة ولم يسمع به أحد. فعقلية الترحال لا تفرق بين قافلة سينمائية لعرض الأفلام وتشييع الثقافة السينمائية وتقريبها إلى الجماهير في المناطق البعيدة وبين مهرجان كتظاهرة لها إطارها المنظم لها وتتطلب هيئة قارة في المكان والزمان كرِجْلَيْن تعتمد عليهما لتقف راسخة. وهؤلاء البدو الرحال لم يستوعبوا بعد أن فن السينما خلق كفن قار ومستقر أساسه “القاعة السينمائية”. وهذه وحدها علامة واضحة على الاستقرار. ومن هم غير مستقرين في دماغهم هم كذلك في كيانهم. إن ا لاستقرار هو جزء من المبدأ. ومن ليس له مبادئ لا يمكنه أن يكون مستقرا.
كان قد تقرر عند تأسيس المهرجان الوطني للفيلم المغربي سنة 1982 بالرباط ت أن ينعقد كل سنتين وأن يكون متنقلا. فعلا، فقد انتقلت الدورة الثانية إلى الدار البيضاء سنة 1984 بتبرير أن يستفيد المغاربة كلهم من هذه التظاهرة ومن الإنتاجات المغربية. وكان المغرب حينها غير متأكد من عدد الأفلام التي سينتجها وفي ذات الوقت كانت حظيرة القاعات مازالت متوفرة بأكثر من 250 قاعة. سافر المهرجان إلى مكناس سنة 1991 (بعد توقف استغرق 6 سنوات) !!! بعد ذلك رحل إلى مراكش ليعود أدراجه إلى الدار البيضاء فطنجة ثم وجدة. وعند كل دورة من المهرجان نعتقد أنه ينطلق من جديد ولأول مرة بنفس المشاكل بل أحيانا أكثر تخلفا وشوهة وارتجالا. وقد ينعقد في الخريف أو الشتاء أو الصيف والله أعلم حسب ما قد ينتجه المغرب من أفلام !!!!
أجمع الجميع بأن تجربة تنظيم المهرجان في مدينة الدار البيضاء مآله الفشل لأسباب كثيرة جدا لا مجال لذكرها كلها هنا لكن البارزة فيها بُعد المسافة بين القاعة الرسمية للمهرجان وفنادق الإقامة فيصعب الوصول إليها بسهولة مما تَحُولُ بالبعض للمتابعة المستمرة والدائمة للمهرجان. أما سكان المدينة فلم يهتموا به إطلاقا ولم ينتبهوا إليه وكأنه انعقد بين السينمائيين أنفسهم فقط. إن مدينة الدار البيضاء الكبرى (وهو الإسم الرسمي) تحتوي على خمس عَمَالات بمعنى خمس مدن ولكل مدينة سلطتها المستقلة. فهل سينتقل المهرجان بالتناوب بين هذه العَمَالات الخمس بالدار البيضاء في إطار الترحال؟؟؟. أما تجربة مدينة وجدة فكانت كارثية بكل معاني الوصف. أما من الدورات السابقة الناجحة فهي التي انعقدت بطنجة سنة 1995 حيث إلتأمت مع حلول الذكرى المائوية لظهور السينما فظهر جيل جديد من السينمائيين المغاربة بأفلام قصيرة أصبحوا الآن في مقدمة الإنتاجات المغربية. هذا المعطى التاريخي يتناساه أصحاب النية السيئة. ترجع أسباب نجاح المهرجان الوطني للسينما المغربية بمدينة طنجة، سواء حين كان رحالا / متنقلا أو عندما استقر بها في دوراته الأخيرة، لفضاء المدينة نفسه وجغرافيتها ومؤهلاتها وساكنتها.
لقد وجد المهرجان الوطني مكانه الطبيعي الملائم له بمدينة طنجة إذن حيث الإقامة لا تبتعد عن القاعة الرسمية سوى 5 دقائق بالنسبة للأغلبية من المدعوين وربما 10 دقائق للبعض الآخر رغم كثرة العدد المتزايد سنويا نظرا للإقبال من خارج الوطن. لا يحتاج أحد لوسائل النقل أو إضاعة الوقت خاصة وأن المهرجان بإدارته الجديدة سن تقليدا بضرورة احترام أوقات ولوج القاعة والعروض السينمائية وإلا يُمنع منها مع بداية العروض احتراما للأفلام ولأصحابها وللجمهور وبذلك يتم تربيته على احترام الوقت والفن.     

قاعة سينما المبروك بطنجة

 
لم يكن بالإمكان للمحترف السينمائي الحقيقي والواعي أن ينظم برنامجه لمواكبة المهرجان في زمنه السابق حتى لا يُضيع الفُرص الأخرى المعروضة عليه والمعروفة بتنظيمها الجيد في الزمان والمكان. كثيرون من الأجانب كانوا يعتبرون المهرجان الوطني شئنا محليا وداخليا لا يهمهم في شيء ليقتنعوا في السنين الأخيرة أنه موعدا لابد منه سواء كانوا من فضاء الإعلام (بكل تنوعاته) أو مدراء المهرجانات والمبرمجون للتلفزيون والموزعون ومستغلو القاعات لهذا طالبت شخصيا قبل سنتين بضرورة تنظيم سوق مفتوح خلال المهرجان ليس للأفلام الجديدة فقط بل حتى للقديمة أو التي تبحث عن التمويل والإنتاج المشترك.
لا وجود لمهرجان محترف ومحترم في العالم يتنقل ويرحل وبسافر ويقفز من نقطة إلى أخرى وإنما كلها ترتبط بمُدن بعينها مثل “كان” في فرنسا و”البندقية في إيطاليا و”برلين” في ألمانيا و”سان سيباتيان” في إسبانيا و”نامور” في بلجيكا و”روتردام” في هولندة و”واغادوغو” في بوركينا فاصور و”مراكش” و”تطوان” في المغرب واللائحة طويلة وطويلة جدا يمكننا أن نسلمها لمن يريد الاطلاع عليها. إلقاء نظرة عامة على خريطة المهرجانات في العالم تؤكد ذلك. هذه البدعة المغربية التي فشلت ومع ذلك مازال البعض يصر عليها رغم أنف الواقع.
يَدَّعُون في مرافعتهم السرية أن طنجة تحتضن مهرجانين في السنة وهو كثير عليها لكنهم يتناسون بعض المدن المغربية الأخرى التي لها نفس العدد وأكثر مثل مدينة أكادير (جنوب المغرب على المحيط الأطلسي) التي ينعقد بها ثلاث مهرجانات، واحد حول الهجرة والثاني وثائقي والثالث في السينما الأمازيغية. وإثنان بمدينة خريبكة (وسط المغرب) واحد حول السينما الإفريقية وهو أقدم مهرجان مازال صامدا (منذ سنة 1977) والثاني وثائقي. أما الدار البيضاء ففيها عدد كبير دون أن تنجح في فرض ولو واحد منها. أما الحديث عن الرباط (العاصمة) وجارتها سلا التي تعرف تظاهرات سينمائية على امتداد السنة فقد لا نتوقف على تعدادها منها ما يسمى ب”سينما المؤلف” والفيلم القصير والمرأة والبيئة وحقوق الإنسان إلى آخره من مختلف المواضيع الممكنة….
لكل مدينة مغربية مهرجانها وربما أكثر في الكبيرة منها (دون الدخول في تقييمها) فتبدو سوء نية واضحة للمناهضين لانعقاد المهرجان الوطني بطنجة. إنهم ضد النجاح والاستقرار والاحترافية والشفافية. فعوض أن يسعدوا بما حققه لصورة المغرب السينمائية باعتبار أن المدينة مؤهلة على جميع المستويات ليرتبط المهرجان الوطني بعروسة الشمال طنجة، كما يسميها المغاربة، تجدهم يحاربونه لأن نظرتهم ضيقة وذاتية ولامسؤولة وهدامة فتدفعهم لخلق عراقيل وهمية وواهية. فقد تم في الدورة الأخيرة، التي اختتمت قبل أسبوع، إنزال كبير لموظفي وزارة الاتصال دون أن تكون لديهم مهمة ما به رسمية أو وظيفة مُبررة في كيان المهرجان بقدر ما استفادوا من عطلة سياحية مجانية على حساب المهرجان وبتعويضات أيضا لكي يهدموا نجاحا جماعيا بمناهضة المهرجان في الكواليس لعلهم يفلحون في “ذبحه” و”اغتياله” بالبحث عن كل ما من شأنه يساعدهم على ذلك بذريعة “قانونية” وسيكون ذلك هجوما واضحا على اختيارات ملك المغرب والمصالحة مع شمال المغرب.

… ويستمر التاريخ
إن “بالون الاختبار” الذي أطلقوه من خلال بعض المقالات والأخبار والإشاعات، قبل انعقاد المهرجان وخلاله، لم يجد من يتلقفه ليلعب معهم لعبتهم بل تتشكل حاليا جبهة واسعة ضدهم وللدفاع عن هذه التظاهرة السينمائية المغربية لكي تنمو وتتطور في طنجة عوض قتلها من جديد والرجوع بها إلى الخلف والتقهقر إلى الوراء. إنها شأن وطني أمام مسؤولية جميع العاملين في فنون السينما الذين لا يُسخرونها في توجه منغلق لا علاقة له بالسياسة ومشتقاتها. لا ينبغي إعادة تكرار خطأ مهرجان سينما حوض المتوسط لسنة 1968.
من الأكيد أن التاريخ سيستمر في الدفاع عن مكتسباته لأنه يمشي إلى الأمام ولا يمكنه أن يتخلف إطلاقا. كما أنه يتقوى مع الزمن بتحمله كل الضربات القاسية وحتى الناعمة في قفازات تخفي الغدر.


إعلان