هل غيّرت الثورات العربية من علاقتنا مع القرصنة ?
صلاح سرميني ـ باريس
تقدم لنا شبكات التواصل الاجتماعية أخباراً متلاحقة عن مبادرات عرض أفلام عربية، وأجنبية، قديمة، أو حديثة في إطار جمعيات هواة، ومحترفين، نوادي سينما، مهرجانات،.. بدون الحصول على موافقة من أصحاب الحقوق (مخرجين، ومنتجين)، ويتضح بأنّ المُتحمّسين لها مبتهجين، وكأنها إنجازاتٍ عظيمة، وربما يعرفون بأنها ممارساتٍ غير قانونية، ومع ذلك يختبئون خلف ذريعة أبدية :
ـ لا يوجد لدينا غير هذه الطريقة لمشاهدة الأفلام..

وفي جلساتهم، الحقيقية، أو الفيسبوكية يستهجنون كلّ التحذيرات التي تصلهم، ويعتبرونها نوعاً من التطاول على حرياتهم في استخدام الأعمال السينمائية كما يرغبون (حرية القرصنة، وانتهاك حقوق المؤلف).
في العادة، نقاد السينما هم الذين يقدمون على هذه المبادرات بوعيٍّ، أو بدونه، بحسن نية، أو خبث، وهم ينسون بأنهم تعرضوا يوماً لنشر مقالاتهم في وسائل إعلامية بدون إذنهم مع الفارق الكبير في الجهد، والتكلفة ما بين فيلم، ومقال.
لم تكن الأوضاع الجديدة في مصر (أو أيّ بلد ربيعيّ آخر) مُحفزاً مباشراً لظهور هذا النوع من المبادرات التنشيطية السينمائية، حيث لم يمنع أحد من تواجدها سابقاً غير الكسل، التكاسل، والتراخي، وأسباباً أخرى منها شماعة الأنظمة الحاكمة.
قبل الثورات العربية، وبعدها، وحتى بدونها، يحق لكلّ من يعمل في المشهد الثقافي السينمائي العربي بأن يتساءل:
ـ هل يعمد هؤلاء المنشطون السينمائيون إلى عرض الأفلام بموافقة مؤلفيها، أم حالما يحصل أحدهم على نسخةٍ من فيلم ما، يعتقد بأنه أصبح ملكاً له، ومن حقه عرضه في أيّ مكان، وزمان يشاء منتهكاً بحريةٍ صبيانية أبسط المعايير الخاصة باحترام حقوق المؤلف.
من المفيد التذكير، والتأكيد أيضاً، بأنّ عرض أيّ فيلم ما خارج إطار المشاهدة الشخصية، وبدون الحصول على موافقة مسبقة من المخرج، أو المنتج، هو انتهاك صريح للحقوق المادية، والمعنوية.
الثورة في أبسط معانيها تعني التخلص من كلّ جوانب الفساد في المجتمع، وعندما تنطلق خطوات الإصلاح، والتغيير انطلاقة خاطئة، فهي سوف تكرس الأخطاء، وتبررها، وتمنحها الشرعية، وتحولها إلى أمر واقع، وسوف يتواصل إنتاج، واستهلاك نفس الممارسات التي جاءت الثورة للتخلص منها.
بعد عودته من مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية، والقصيرة، التقيت بالمخرج الفرنسي من أصل مصري “نمير عبد المسيح”، وكان يتذكر مع الكثير من الدهشة وقائع برمجة فيلمه التسجيلي “العذراء، والأقباط، وأنا” في الجامعة الأمريكية بالقاهرة بدون موافقته، وعندما أعلن عن اعتراضه، قال له أحد المسئولين في الإدارة :
ـ الله، انتَ المفترض تكون فرحان عشان ح نعرض فيلمك فى الجامعة،….
وقتذاك كتب بياناً، ونشره في الصحافة، وتفادياً للفضيحة استجابت إدارة الجامعة الأمريكية، ولم تعرض الفيلم.
من خلال مناقشات فيسبوكية، تبين لي بأن الكثير من المحترفين يستهترون تماماً بهذا الحقّ الأدبي، والمعنوي، ويؤكد البعض منهم بأن الموضوع لم يُحسم بعد في العالم.
إذا كان المحترفون يفكرون بهذه الطريقة، فلن نستغرب تفكير المواطن العادي الذي لا يمتلك أي خلفية أخلاقية، وقانونية عن هذا الموضوع.
عندما تكون العقول ثورية بطبيعتها لن تحتاج مجتمعاتنا إلى أيّ ثورة على الأنظمة، وكل الثورات الحالية سوف تضيع هباءً طالما تحكمها نفس العقليات.

لا يكفي إسقاط رأس النظام، وأعمدته، كي ندّعي بأننا قمنا بثورة، بل يتوّجب التفكير أولاً بتغيير أفكارنا، وتطويرها، وبدون ذلك لن تحقق الثورات الحالية، أو المستقبلية أهدافها، ولن يتغير أيّ شيءٍ في المجتمع طالما أننا في أعماقنا لا نريد أن نتغير، وسوف نحتمي خلف الحجج، والذرائع لتبرير ممارسات تتناسب مع مصالحنا الانتهازية، وأكثر من ذلك، سوف نمنحها شرعية ثورات لا ترتكز على الأفكار، ولكن على مشاعر الغضب.
قبل الثورات العربية، وفي معظم محاولات التصدي لممارسات السرقات في الثقافة السينمائية، والقرصنة، وانتهاك حقوق المؤلف، كنت أسمع البعض يكتب، أو يقول:
ـ وإنتَ مالك ؟
ولكن، بعد الثورات، من المُستغرب بأنني مازلت أسمع، وأقرأ نفس الاستنكار من طرف نشطاء ثوريين.
وهنا من حقنا أن نتساءل:
ـ لماذا نتحمّس للثورة في بلداننا، وبالآن ذاته ندافع عن القرصنة.
عندما تتحدث عن هذا الموضوع مع مواطن أجنبيّ، يؤكد فوراً بأنه عمل لا أخلاقيّ، وغير شرعي، ويفسد الاقتصاد،…
ولكن، من الغريب، والطريف حقاً، بأننا عندما نتحدث مع عربيّ، يقدم طناً من الحجج، والأعذار، والذرائع، ويؤكد بأن القرصنة لم يُحسم أمرها بعد في العالم.
فقط، كي يُبعد عن نفسه الإحساس بإرتكاب عملاً خاطئاً، ويشعر بالعظمة لأنه يتحايل على القوانين.
بدل أن يقول ـ على سبيل المثال ـ :
ـ نعم، القرصنة غير شرعية، وضارة في كلّ جوانبها الاقتصادية، والأخلاقية، والاجتماعية،…..ولكن، لم يُحسم أمرها بعد في العالم….
ببساطة، المواطن الأوروبي لا يحتاج إلى القرصنة، وإذا وُجدت، فهي حالات فردية للاستخدام الشخصيّ، ولكن، لن تجد أحداً ما يعرض هذه الأفلام في أماكن عامة .
البعض من السينمائيين العرب العاملين في المجال الإنتاجي، والمستقلّ أيضاً، وبدل الوقوف إلى جانب أصحاب الحقوق، يواجهون من يتصدى انتهاك حقوقهم، وكأنهم مخلوقات نزلت من كواكب أخرى، ويطرحون أسئلة من نوع :
ـ هل توجه هذا الطرح للسينمائيين في مصر فقط ؟
ـ هل هذا بغرض عمل تحقيق صحفي، أم لأيّ غرض آخر ؟
ـ هل تمثل شركة إنتاج، أو توزيع تعرضت لاستخدام أفلامها بدون إذن ؟
ـ لماذا أنت مهتم فقط بالأفلام الأجنبية التي تملكها شركات كبيرة ؟
الموضوع أبسط من عدم فهمه، ويهدف إلى لفت الأنظار نحو مبادرات تحدث حالياً في مصر، وهل من الضروري بأن أمثل شركة أجنبية عُرضت لها أفلاماً بطريقة غير قانونية في مصر كي أتحدث عن موضوع القرصنة، والعروض الغير قانونية ؟
إنه موضوع للنقاش كي لا تصبح هذه الممارسات شرعية تحت حجة الظروف، وأي حجة كانت، وهذه القراءة، هي دفاع عن فكرةٍ من المفترض بأن نجتمع كلنا حولها.
من المؤسف حقاً بأنه بدل الانضمام إلى مبادرات تدافع عن حقوق المؤلف تكون الأجوبة من نوع:
ـ مسألة القرصنة غير محسومة في العالم كله، …..
هذه القضية محسومة تماماً في أوروبا، وأدعو من يأتي إلى فرنسا، بأن يكون بطلاً، ويظهر لموظفي الجمارك في المطار كمية من أقراص مقرصنة، أو يحاول من جهاز كمبيوتر نسخ فيلماً لا يحق له نسخه، أو يجرب من خلال جمعية ما أن يعرض فيلماً بدون موافقة أصحاب الحقوق، المنتج، والمؤلف .
وحول هذا الأمر كتب لي أحد النشطاء في الثقافة السينمائية :
ـ أغلبنا ضدّ فكرة احتكار الفنّ أصلاُ، وندعم فكرة الرخص المفتوحة بديلاً عن حقوق الملكية الفكرية، من وجهة نظري البسيطة، من المفروض بأن نستهلك الفن بدون مقابل، نحن في معظم الحالات نعمل في مراكز ثقافية صغيرة جداً، ولا يكفي التمويل الذي نحصل عليه، ونحاول بقدر الإمكان التواصل مع أصحاب الأفلام المعروضة، ومعظم هؤلاء يرحبون بعرض أفلامهم بدون مقابل، ولكني لن أحترم مخرجاً، أو منتجاً يطلب 2000 أو 3000 مقابل عرض فيلمه تحت مسمى هذا حقي، أو ملكي، أنا ضد الاحتكار من أي نوع، يجب أن يكون الفن للجميع.

تُوضح الإجابة السابقة، بأن كاتبها ـ ومع احترامي لنشاطه ـ لا يعرف معنى النتاج الثقافي، ولا حقوق المؤلف المادية، والمعنوية، ولا حتى مفهوم فكرة الاحتكار، …
وعلى الرغم من صعوبة تشذيب أفكاره، وقناعاته، وتصحيحها من خلال قراءة بسيطة، أجد بأن الإشكالية التمويلية التي أشار إليها قابلة للحل، حيث يكفي بأن نُشمر عن سواعدنا، ونستلهم آليات عمل مؤسسات أجنبية، وحتى نسخها تماماً، وإحدى هذه الحلول، بأن تتأسّس مؤسسة حكومية، أو مدنية، تهتم بتكوين أرشيف فيلمي ـ كحال السينماتيك ـ من أجل عرضها لأهداف ثقافية، وعادةً يمكن الحصول على الأفلام مجاناً أو بحقوق مادية رمزية مناسبة لكل الميزانيات، وتقوم هذه المؤسّسة بتزويد المراكز الثقافية، والنوادي، والجمعيات، والمهرجانات بما تحتاجه من أفلام.
الحلول متوفرة إذا كانت هناك رغبة في التخلص من فكرة القرصنة، والمجانية، والفهم بأن الفيلم منتج ثقافي تعود ملكيته المادية، والمعنوية لأصحابه، وهم المنتج، أو المخرج/المنتج.
وحتى لو افترضنا بأن المنتج ينجز الفيلم بدون ميزانية (وهذا مستحيل)، فمن حقه بأن يحصل على الحقوق التي يرغبها، ولكننا نعرف بأن الأفلام غالية التكلفة، والحقوق الثقافية، وغيرها واحدة من مصادر تمويلها، ودخلها.
هامش :
هذه بعض المعلومات المفيدة للقارئ الذي يعتقد بأن هذه الأمور غير محسومة في العالم، وهي مأخوذة من دليل بعنوان (تحت الضوء 2010، مستجدات سوق السينما العالمية)، ويعود تاريخ رصدها إلى عام 2009، وهذا يعني، بأنه منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم فقد تمّ حسم معظم التفاصيل العالقة.
ـ القرصنة التجارية غير موجودة في فرنسا، وتقتصر على القرصنة الفردية، أكان ذلك رغبة في تحدي القوانين، ونشر الفيلم على الأنترنت، أو بغرض الاستخدامات الشخصية، وقد دخل المرسوم HADOPI2 قيد التنفيذ في أكتوبر 2009 متوقعاً توقيف خدمة الأنترنت للتنزيل الغير قانوني بقرارٍ من محكمة.
وبالمقابل، تمّ في السياق نفسه تخفيض منافذ الإصدار التي تُشرف عليها الحكومة، والصناعة في فرنسا كي تجلب في عام 2009 خدمة الفيديو حسب الطلب مع أقراص د ف د (بعد مضيّ 4 شهور على إصدار الفيلم في الصالات) إلى جانب تخفيض هذه النوافذ للتلفزيون المدفوع (12 شهراً)، وللبث المجاني (22 شهراً). ـ صفحة 19 ـ
ـ عمد الإتحاد السمعي/البصري الإيطالي لمكافحة القرصنة التي تشير التقديرات إلى أنها تسببت بضررٍ وصل إلى 530 مليون يورو في عام 2009 إلى رفع دعوى ضخمة مطلع العام 2010 يقاضي فيها شركة “تيلكوم إيطاليا” بسبب الأضرار الناجمة عن فشلها في ردع عملائها عن التنزيل الغير قانوني . ـ صفحة 23 ـ
ـ تمّ تقديم مشروع قانون جديد لمكافحة القرصنة إلى البرلمان القومي يسمح للمحكمة الفيدرالية في إسبانيا إلى إغلاق، أو حجب مواقع إلكترونية تسرب محتوى سينمائي، وموسيقي، أو تسمح بتنزيله دون ترخيص، وسيتم بموجب هذا القانون توجيه الشكاوي من خلال هيئة لحماية الملكية الفكرية ليتمّ تسويتها في وزارة الثقافة. ـ صفحة 25ـ
ـ تدرس تركيا حالياً إجراء تعديل على تشريعاتها المتعلقة بمكافحة القرصنة، والمستندة إلى النموذج الفرنسي الذي يقضي بجعل مزوّدي خدمة الأنترنت يراقبون التنزيلات غير القانونية للأفلام، والموسيقى، وفصل الاتصال بالأنترنت لمنتهكي هذا التشريع لمدة تتراوح بين شهرين إلى أثني عشر شهراً . ـ صفحة 37ـ
ـ مع تأثر سوق 2009 سلباً بسبب أنفلونزا الخنازير، وأعمال القرصنة، ويدعم هذا الافتراض التقرير الصادر عن غرفة التجارة، والصناعة الهندية في العام 2009 والذي يفيد بتناقص العوائد الإجمالية للمحتوى الترفيهي المصور بنسبة 19% من 109 مليار روبية(2.4 مليار دولار أمريكي) في عام 2008 إلى 89 مليار روبية (2 مليار دولار أمريكي) ـ صفحة 54 ـ