هل الفيلم الوثائقي يكذب؟

أمير العمري

هناك اتفاق غير مكتوب بين صناع الأفلام الوثائقية على أن الفيلم الوثائقي “لا يكذب”، وذلك بحكم طبيعته ونوعية القضايا والمواضيع التي يتناولها ويكون الهدف منها عادة توصيل رسالة معينة، من خلال تقديم صورة للحقيقة، وللواقع، أي لما يدور في العالم على ساحة الحقيقة وليس على مستوى الخيال.
هنا يكون الإخلاص للحقيقة هو الهاجس الأساسي لدى صناع الفيلم الوثائقي، والصدق مع المشاهدين في تقديم الحقيقة من جوانبها المختلفة بقدر الإمكان. ومهما بلغت “رؤية” مخرج الفيلم الوثائقي من جرأة في الطرح والعرض والبيان، فمن الصعب كثيرا القول إنه “لا يصور الحقيقة” أو يلوي عنق الحقائق ويضلل المتفرج عمدا.

ولكن ماذا يحدث إذا ما خالف مخرج الفيلم الوثائقي هذه القاعدة، أي قاعدة الصدق والإخلاص للحقيقة؟
يتساءل البعض عن حق: هل هناك التزام أخلاقي أو معايير أخلاقية محددة سلفا لا يجوز الخروج عليها؟ ومن الذي يملك فرض وتطبيق هذه المعايير ومحاسبة من يخرجون عليها؟ وما الذي يتعين على السينمائي أن يفعله لكي يبتعد عن تشويه الحقائق أو التلاعب بها وما مدى مسؤوليته عن استخدام الوسائل السينمائية المختلفة من أجل إقناع المشاهدين بأنه يقدم لهم الحقيقة ولا شيء سواها، لن يقوده للخروج عن المباديء الأخلاقية للمهنة؟

أسئلة كثيرة تبدو مشروعة، يدور النقاش حولها بين المتخصصين في مجال الفيلم الوثائقي، وتحمل في طياتها الكثير من المطبات والتحديات وتحتاج بالتأكيد إلى مزيد من التعمق في الكتابة والتنظير من أجل التوصل إلى إجابات عليها. لكننا نود أن نتوقف هنا أمام السؤال الجوهري التالي:

إذا كان الفيلم الوثائقي يتعلق أساسا، بتصوير الواقع وتقديم الحقيقة للمشاهدين، فهل من الممكن أن يكون ما يقدمه كذبا؟

إذا كان البعض يعتبر أن مخرج الفيلم السينمائي (ومؤلفه وصاحب فكرته والمسؤول الأول والأخير عنه من شتى الجوانب) هو “ديكتاتور”.. له مطلق الحرية في تقديم ما يشاء والتركيز على ما يشاء من خلال استخدام وسيلة المونتاج، فكيف يمكننا أن نطالبه بالالتزام الأخلاقي بالحقيقة والصدق وعدم الانحراف وراء “تزييف” الوعي باللجوء إلى “الكذب” سواء في الصورة أو فيما يقال – صوتيا- على سطح الصورة؟

يبقى الأمر مجرد مناشدة عامة، ويظل الحكم على أي فيلم وثائقي، متوقفا على ما يثيره من جدل بعد عرضه ثم انتشاره، أي بعد أن يكون قد حقق تأثيرا مباشرا على الجمهور. هنا إذن يكون التأثير قد وقع ولم يعد من الممكن منعه أو وقفه إلا بتطبيق الرقابة أي التدخل المباشر من جانب سلطة الرقابة عليه.

أما عن احتمالية كذب الفيلم الوثائقي، فالإجابة عن السؤال هي بـ”نعم” التي قد تصدم البعض بالطبع!
إن الجمهور يقبل عادة كل أشكال الخدع والمؤثرات في الفيلم الروائي أو القصصي “الخيالي”، في حين أنه يرفض مثل هذه الوسائل في الفيلم الوثائقي تماما. ولكن ماذا سيقول المشاهدون إذا ما اكتشفوا، على سبيل المثال، كذب وتضليل تلك اللقطة الشهيرة التي هزت العالم كلها بعد الحرب العالمية الثانية، لبلدوزر أو جرافة، يقودها جندي تجرف عشرات الجثث التي تبدو أقرب إلى الهياكل العظمية، لتلقي بها في حفرة في معسكر بيرجن بيلزن للاعتقال الجماعي المقام داخل الأراضي الألمانية؟
هذه اللقطة تكرر ظهورها في عشرات الأفلام الوثائقية التي عرضت وظلت تعرض في دور العرض ثم فيما بعد، على شاشات التليفزيون، تأكيدا على “الوحشية” النازية وارتباطها بعمليات “الإبادة” الجماعية لليهود خلال ما عرف بـ”الهولوكوست”. ولعل أشهر هذه الأفلام الفيلم الوثائقي “ليل وضباب” للمخرج الفرنسي الشهير آلان رينيه الذي أخرجه عام 1955.

إن السياق الذي وضعت فيه هذه اللقطة من الفيلم إلى جانب التعليق الصوتي المصاحب للفيلم من بدايته، يقود الجمهور إلى تصديق أن الجرافة التي يراها هي بالضرورة “ألمانية” غير مدركين أن الجندي الذي يقودها هو جندي بريطاني (من شكل القبعة العسكرية التي يرتديها) وإن اللقطة صورت بعد تحرير القوات البريطانية للمعسكر وعثورها على جثث لنزلاء قضوا نحبهم على الأغلب كما ثبت فيما بعد، بفعل الضربات الجوية العنيفة التي شنتها طائرات الحلفاء على المعسكر، وأيضا جراء الجوع والعطش وانتشار الأوبئة الفتاكة بسبب انقطاع طرق المواصلات خلال الأشهر الأخيرة من الحرب وندرة الطعام وانتقال الكثير من الجنود الألمان الذين هربوا من المناطق الشرقية أمام تقدم القوات السوفيتية، ولجوء الكثيرين منهم إلى المعسكر، مما أدى إلى انتشار مزيد من الأوبئة والأمراض الفتاكة التي نقلوها معهم مثل التيفود والدوسنتاريا والكوليرا، وما ثبت فيما بعد، من أن معظم الوفيات وقعت بعد تحرير المعسكر ووقوعه في أيدي القوات البريطانية!
والطريف أن خبراء الدعاية الغربيين انتبهوا فيما بعد، إلى التزييف الذي يمكن أن تكشفه قبعة الجندي فقاموا بإخفاء طرفها من اللقطة!
ولعل من أكثر اللقطات (وأشهرها أيضا) تلك لقطة لمجموعة من الجنود الأمريكيين خارج ما قدم للعالم عبر مجلة “تايم” الشهيرة كما وصف بأنه “غرفة الغاز” في معسكر داخاو الشهير في ألمانيا، رغم اعتراف السلطات الالمانية نفسها فيما بعد، أي في عام 1960، بأن “داخاو” لم يعرف وجود ما يسمى بغرف الغاز على الإطلاق، بل جاء مدير معهد ميونيخ للتاريخ المعاصر عام 1960، أي بعد نهاية الحرب بخمسة عشر عاما، لكي يؤكد في وثيقة مكتوبة أن الأراضي الألمانية لم تعرف وجود “غرف الغاز” بل أقيمت كلها خارج أراضي ألمانيا في أوكرانيا وبولندا!
عادة ما تصنع الموسيقى المؤثرة والمؤثرات والتعليق الصوتي إيحاء قويا بأن ما نشاهده هو الحقيقة بعينها، في حين أن “السياق” السينمائي المصنوع صنعا، هو الذي يوصل رسالة معينة قد تكون كاذبة تماما. فقد كان يكفي، على سبيل المثال، أن نشاهد في الكثير من الأفلام الوثائقية التي ظهرت عن الهولوكوست، كومة من الأحذية، وكومة أخرى من النظارات، ثم كومة ثالثة من الشعر، في لقطات مقتصدة تصاحبها موسيقى جنائزية وتعليق صوتي  رخيم يقول لنا إنه “هنا لقي عشرات الآلاف من اليهود مصيرهم المحتوم بالقتل في غرف الغاز” وذلك دون أن نعرف طبيعة المكان على وجه التحديد وكيف يمكن أن تكون غرفة مثل التي نشاهدها، قد استخدمت في قتل مئات الآلاف على مدى سنتين ونصف بوتيرة يومية متواصلة!
تقول لناالدعاية التي سبقت عرض الفيلم الوثائقي الشهير “الأيام الأخيرة” The Last Days الذي أنتجه ستيفن سبيلبرج وأخرجه جيمس مول عام 1999 إنه “الحقيقة المجردة كما يرويها الناجون من الهولوكوست”.
وعندما شاهدنا الفيلم اتضح أن معظم الذين يظهرون فيه من شخصيات هم مجموعة من “الممثلين” غير المحترفين، الذين يؤدون أودارا معينة بزعم أنهم يروون شهاداتهم الحقيقية عن فترة وجودهم في معسكرات الاعتقال النازية.
هناك- على سبيل المثال، سيدة تدعى “إيرين” تروي كيف تمكنت من الهرب من داخل غرفة الغاز بفعل قوة “أسطورية” لا تدرك كنهها. فهي تقول إنها سيقت مع غيرها الكثيرين، إلى داخل غرفة الغاز لكنها فجأة وبعد ان اصبحت محشورة داخل الغرفة، وجدت قوة تدفعها للخلف (بظهرها) إلى أن خرجت من الغرفة وتمكنت من الفرار!.

ومن أكثر الاشياء مدعاة للسخرية في فيلم سبيلبرج الذي أنتجه لحساب مؤسسة “شوا” (أي الإبادة) التي وهبت نفسها لتوثيق تاريخ الهولوكوست، أن هذه المرأة، وهي ضمن خمس نساء يقول لنا التعليق إن صناع الفيلم عادوا بهن من الولايات المتحدة إلى بلدهن الأصلي أي المجر، لكي يتذكرن ما جرى لهن أثناء الحرب العالمية الثانية على أيدي الألمان.
إيرين لا يبدو أنها تتجاوز الخمسين من عمرها على أكثر تقدير، وقد سجلت شهاداتها عام 1995 أي بعد خمسين عاما على نهاية الحرب العالمية الثانية، فكم كان عمرها عندما كانت داخل معسكرات الاعتقال النازية التي تروي عنها وتتذكر الكثير من التفاصيل “الخرافية” المتناقضة كما لو كانت قد وقعت بالأمس القريب فقط!
من ضمن ما ترويه أيرين مثلا أن الكثير من النزلاء كانوا يلقون بأنفسهم على الأسلاك الشائكة المحيطة بالمعسكر وكانت مكهربة، كوسيلة للخلاص بالموت، إلا أن الألمان- حسب ما تقول- لم يعجبهم أن يتخلص اليهود من حياتهم بأنفسهم بل كانوا فقط “يريدون أن يقتلوهم وقتما يشاءون لا وقتما يقررون هم أن يموتوا”- حسب نص عبارتها في الفيلم، لذلك فقد كانوا يقومون بتعذيب خمسة من المعتقلين حتى الموت مقابل كل واحد لجأ إلى الانتحار بهذه الطريقة. وعندما تعود أيرين لرواية القصة مرة أخرى في موضع آخر من الفيلم تقول إن الألمان كانوا يقومون بتعذيب 100 شخص حتى الموت مقابل كل شخص يختار نهايته بنفسه قبل الموعد المحدد من قبل الألمان!
أي ان الرواية تتناقض بوضوح ما بين 5 إلى 100 أي أن “الشاهدة الحية الناجية من الهولوكوست” تعود لتضاعف العدد خمس مرات!
وتقول أيرين أيضا إنها كانت من بين من وقع عليهن الاختيار لكي يجري الأطباء الألمان عليهن التجارب لاستخلاص جلودهن واستخدامها في صنع عواكس المصابيح المعلقة lampshades والقفازات (وهي إحدى الأفكار الخرافية التي لم يثبت وجودها في أي وقت!) وعندما تسألها المحاورة عما إذا كانت تتذكر إسم الطبيب تقول لها: إنه قد يكون أيخمان أو “منجلر”، في خلط واضح مشوش بين الدكتور جوزيف منجلز (وليس منجلر كما تقول!) المعروف بإجرائه تجارب طبية على الأحياء في معسكرات الاعتقال، وبين أدولف أيخمان ضابط الإس إس المسؤول عن خطة ترحيل اليهود والذي اتهم بقتل اليهود بشكل جماعي واختفطته المخابرات الإسرائيلية عام 1960 وحوكم وأعدم في إسرائيل!
 
إن الخلط بين الحقائق وأنصاف الحقائق والقصص المختلقة سيبرز كثيرا في الفترة من 1968 حتى يومنا هذا في الكثير من الأفلام الوثائقية التي ظهرت في الغرب عن “الهولوكوست” بوجه خاص. وهو نموذج بارز لاستخدام الوثائقي في التضليل. ولعل أشهر هذه الأفلام فيلم “شوا” (1984) لكلود لانزمان الفرنسي الذي احتفي به كثيرا في الغرب رغم أنه لم يقدم وثيقة واحدة تدلل على ما يزعمه مخرجه بل اكتفى بشهادات شهود تتناقض مع بعضها البعض بشكل مخجل لكن هذا موضوع آخر!


إعلان