محمد بكري وقطرات في عيون إسرائيلية
غزة – أسماء الغول
محمد بكري يقول أنه لا يتعلم من تجربته بل سيبقى فلسطيني وساذج، فهو على الدوام آمن بالإنسان الذي يستطيع أن ينقذ الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي من مزيد من تورط في الصراع وفي الدم إلا أن الاخر الاسرائيلي لم يؤمن لحظة بهذا الانسان وبقي على عنفه وعناده، ورغم ذلك استمر بكري مع عائلته التي تمثل وتخرج وتحمل كثيرا من موهبته في تصدير هذا الانسان في أفلامه، وآخرها فيلم “قطرة”.

الفيلم الذي تبلغ مدته 24 دقيقة بسيط لكنه يضرب في العمق الانساني فهو يتحدث عن عائلة من أب وابن يعملان في مسرحية اسمها “سمير ويوناثان في المريخ” وفيها يطرح فكرة التعايش بين الفلسطيني والإسرائيلي بعد ان تعرف ابنه وشاب اسرائيلي على بعضهما في المستشفى ويقرران لصعوبة العيش في الواقع ان يعيشا في المريخ، صالح ابنه ليس مقتنعا بتمثيل هذا الدور، ولكنه يهاب من مواجهة والده ولا يجد سوى شقيقه زياد الذي يعمل في احد البارات ليشتكي إليه تردده وهنا تظهر سطوة الأب الضمنية.
صالح ووالده يحلان ضيفان على ابنهما البارمان زياد الذي يسكن شارع هفعوداه في تل أبيب، الفيلم يتحدث عن العلاقة بين أفراد عائلة واحدة بشكل طبيعي وعادي، وكذلك علاقتهما بجارتهما العجوز سارة التي تطلب ممن تجده أمام الباب او يستعد للخروج أن يقطر لها في عينيها الدواء فهي تعيش وحيدة.
ما ليس عاديا أن هذه الجارة هي اسرائيلية وناجية من المحرقة النازية وتعتقد أن زياد وصالح ووالدهما شخصا واحدا وتطلق عليهم جميعا اسم “سالي” فكأن أي كلمة عربية تتحول في عقلها تلقائيا لأخرى أجنبية، وهكذا تخاطب الثلاثة حين تريد ان يقطروا لها في عينيها:
-هل ممكن يا سالي ان تقطر لي عيني
-شكرا سالي
-أين تذهب سالي؟
ويصر صالح في احد المرات ان تنطق اسمه صحيحا فتردد وراءه : صالخ..
وهنا يضحك صالح وكأنه تأكد من صحة عدم موافقته على الدور الذي يلعبه في مسرحية والده فجارتهم بعدم رؤيتها لهم كعرب تختصر عدم رؤية دولتها للحق الفلسطيني.
وفي مصارحة اخيرة من صالح لوالده معلنا رفضه لتمثيل المسرحية عقب انتهاء المهرجان: “انا ما احتليت ارض حدا ولا طردت حدا من بيته علشان ابتدي اعمل سلام” في رد على استفسار والده عن بديل التعايش: “وشو البديل؟ ننتحر..”، من هنا تشعر ان هناك سيرة ذاتية ما او كما يقول محمد بكري في أول مشهد بالفيلم “هاي القصة صارت معي، كل الشخصيات ممثلين بس اغلب الممثلين هم الشخصيات الحقيقية”.

قد تكون عيني السيدة العجوز سارة ذات الأصول الأوربية تمثل رؤية اسرائيل للشعب الفلسطيني بشكل هائم يملأه الغَبش، فكله بالنسبة إليه يمثل موقف واحد هو “سالي”.
سارة التي تُدَرّس الموسيقى حين يدخل “سالي” والدهم ليقطر في عينيها تفتح له ألبوم صور عائلتها وتقول: “فقدت بصري بسبب هتلر فقد نشفت دموعي على أهلي”، الصمت هو رد الفعل الوحيد عند العائلة ولكنه صمت غارق بالفعل الانساني الذي يشبه ما قد يحدث بين جميع الجيران لولا كون الجار الاول يفصل بينه وبين الاخر تاريخ واحتلال.
صالح بكري الذي مثل في الفيلم “زيارة الفرقة الموسيقية” دور الشاب اللعوب نجده في فيلم والده أكثر نضجا في تقمص الدور، أو ربما لأنه لا يحتاج هنا الى تقمص للدور فهو مع والده بيد أن هناك مسحة الطيش تلك لا تزال تميز اداءه على عكس شقيقه زياد الذي يبدو قوياً حتى في محاولته ألا ينجر وراء استفزاز احد الزبائن له لجعله يتحداه في الشرب، فيرجع في نهاية اليوم إلى المنزل مستندا إلى صالح، ووالدهما يسمعهما ولكن كما يليق بأب عربي يتجاهل ان ابنه يشرب من ورائه فلا يظهر لهما.
الفيلم الذي عرض في مهرجان شورتات في غزة انساني يشبه الجميع، وحتى الذي من الصعب أن تشبهه كأن يكون جار في شارع بتل ابيب، ولكن احيانا في بلدك الواحد لا تجد من يقطر للآخر، فتتحول القطرة هنا لمعادل موضوعي للسلم المجتمعي وهو الذي لا يصدقه صالح حين يمثل تلك المسرحية إلا أنه لو أمعن في واقعه لوجد أنه يعيشه مع جارته الإسرائيلية وقطرتها.
“انا بقطرلها وانت تقطرها وابوي كمان بقطرلها”، هذا ما يكتشفه الثلاثة حين يعلقون في ازمة عند احد الحواجز الاسرائيلية ويضحكون ويسأل صالح والده ساخرا :”كمان عليك بتنادي سالي؟”.