“فصل من حياة عامل خردة”

رؤية صادقة لواقع مليارات البشر

سمير فريد
عندما شاهدت “بين الحدود” أول فيلم روائي طويل أخرجه دانيس تانوفيك، وذلك في مسابقة مهرجان كان عام 2001، نشرت في اليوم التالي أنه من “روائع” هذه الدورة من دورات المهرجان الدولي الكبير. وفي حفل الختام فاز الفيلم بجائزة أحسن سيناريو، والذي كتبه مخرجه، وفي العام التالي فاز بأوسكار أحسن فيلم أجنبي.

عرض الفيلم باسم فرنسا، ولكن هويته الثقافية بوسنية خالصة، وكان ولايزال من أهم الأفلام التي عبرت عن حرب البوسنة في مطلع تسعينيات القرن العشرين الميلادي الماضي. وقد درس تانوفيك الذي ولد عام 1969 السينما في أكاديمية سراييفو للفنون، وفي فترة حصار المدينة أثناء الحرب صور أكثر من 300 ساعة تسجيلية لأرشيف الجيش.
وفي عام 1994 درس تانوفيك في معهد أنساس للسينما في بروكسيل، واشترك في تكوين “جماعة ساجا” التسجيلية التي قدمت أول أفلامها “الإنسان، الله، الوحش” في برنامج “نصف شهر المخرجين” في مهرجان كان 1994، كما أخرج ثلاثة أفلام تسجيلية أعوام 1994 و1996 و1998، وكانت كلها عن الحرب.
وبعد النجاح الدولي الكبير لفيلم “بين الحدود”، أخرج تانوفيك ثلاثة أفلام روائية طويلة أخرى في العقد الأول من القرن الجديد، وهي “جحيم” 2005 عن سيناريو كريستوف كيشلوسكي، و”تراجي” 2009، و”سيرك كولومبيا 2010. والفيلمان الأخيران مثل “بين الحدود” عن الحرب التي عاشها في شبابه المبكر وهو في مطلع العشرينيات من عمره، وكان من الطبيعي أن ينشغل بها، فهي أكبر الأحداث المؤثرة في حياته وفي التاريخ المعاصر لبلاده.

واقع اليوم
وقد شهد مهرجان برلين السينمائي الدولي الـ63 (7-17 فبراير 2013) العرض العالمي الأول لفيلم تانوفيك الروائي الطويل الخامس “فصل من حياة عامل خردة”، والذي عرض داخل المسابقة، وفاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة (الدب الفضي) التي تلي الدب الذهبي مباشرة، كما فاز بجائزة أحسن ممثل نظيف موجيك، وكان الفيلم الوحيد الذي فاز بجائزتين من جوائز المهرجان الثمانية.
مرة أخرى نشرت قبل إعلان الجوائز أنه من الأفلام الجديرة بالفوز، وإن لم أتوقع فوزه بالجائزة الكبرى التي فاز بها، ولم يخطر على بالي، وربما لم يخطر على بال أحد أن يفوز بجائزة أحسن ممثل لأن نظيف في الفيلم لا يمثل، وإنما يقوم بدوره في الحياة، وبنفس الاسم!. وبهذا الفيلم، وذلك الانتصار المزدوج في أحد مهرجانات السينما الدولية الكبرى الثلاث (مع مهرجان كان ومهرجان فينسيا) يعود تانوفيك من جديد ليحقق نجاحاً دولياً كبيراً، والأرجح أن يفوز بمزيد من الجوائز طوال العام الجديد، وربما يصل إلى الأوسكار مرة ثانية.
هنا يبدأ فنان السينما بعد أن تجاوز الأربعين من عمره مرحلة جديدة في حياته الفنية، ويعود إلى الواقع في بلده في الزمن الحاضر، وإلى جذوره التسجيلية في نفس الوقت، ويقدم في هذا الفصل من حياة عامل خردة تجربة فنية شائقة، ويؤكد التزامه بقضايا الشعب الذي ينتمي إليه. إنه لأول مرة في أفلامه “الروائية” الطويلة لا يتناول الحرب، ولكنه ليس بعيداً عنها. يقول بطله في منتصف الفيلم: “لقد قاتلت في الحرب لمدة أربع سنوات، وشاهدت موت ثلاثة من رفاقي، ولكن الحرب كانت أرحم من واقع اليوم”.

فصل من حياة
العنوان دال على الموضوع، فلا توجد “قصة”، وإنما فصل من حياة نظيف الذي يجمع البقايا الحديدية من هنا وهناك، ويقوم بتقطيع السيارات المحطمة، ويحصل على مقابل بسيط من تاجر الخردة، حتى يتمكن من الإنفاق على أسرته المكونة من زوجته سينادا وطفليهما ساندرا وسينشا، وفي الطريق طفل ثالث تحمله سينادا.
يعيش نظيف في منزل صغير في قرية بولجيج الفقيرة. ويقوم كل أفراد الأسرة والجيران بأدوارهم الحقيقية في الحياة، وبنفس أسمائهم. والفصل الذي يختاره تانوفيك من حياة نظيف حقيقي بدوره. ويبدأ مع شعور سينادا بألم حاد، فيذهب معها إلى المركز الصحي، وهناك يتبين أن مصدر الألم هو موت الجنين في رحمها وهر في الشهر الخامس، وأن من الضروري إجراء جراحة عاجلة في مستشفى المدينة، وهي العاصمة سراييفو. وفي هذه المستشفى ترفض الإدارة إجراء العملية قبل دفع 980 مارك (500 يورو)، وذلك لأن الأسرة ليس لديها بطاقة التأمين الصحي.
يقول نظيف للطبيب أنه لا يملك هذا المبلغ، ومن المستحيل عليه تدبيره، ولكن من دون جدوى. وبعد محاولات عديدة، يتم التحايل على المستشفى باستخدام بطاقة أحد أفراد العائلة، وتجرى العملية بنجاح، وتعود الأسرة إلى حياتها العادية. ويبدأ الفيلم وينتهي بمشهد للزوج والزوجة والطفلين يشاهدون التلفزيون الصغير الأبيض والأسود.

مليارات البشر
إن المعلومات عن كون الواقعة حقيقية، وكون الشخصيات تقوم بأدوارها الحقيقية، ولا تمثل شخصيات درامية في “سيناريو” هي معلومات من خارج الفيلم، ولا تعني المتلقي في قليل أو كثير، كما لا تعني أن هذه الشخصيات غير درامية. لا يستمد الفيلم قيمته من أصوله الحقيقية، وإنما من تعبيره البسيط والعميق في آن عن هذه الأسرة، والذي يصل عمقه إلى حد تجاوز الواقع البوسني إلى الواقع في أغلب دول العالم. إنه فيلم عن مليارات الفقراء الذين يعيشون على هذه الأرض بلا عمل حقيقي، وبلا مسكن حقيقي، وبلا تأمين حقيقي، وفي عبارة واحدة بلا حياة حقيقية.
إنهم بؤساء، ولكنهم يقاومون من أجل البقاء، وينتزعون “السعادة” انتزاعاً بالحب والتراحم والتعاون والمحافظة على كرامتهم الإنسانية. أنظر إلى سينادا بعد أن ذهبت إلى المستشفى مرتين وترفض العودة للمرة الثالثة لشعورها بالإهانة. لقد فضلت الموت على مواجهة الموقف للمرة الثالثة، ولم توافق إلا بعد أن تأكدت أنها ستجري العملية. إنه فيلم يعلي من شأن الإنسان بقدر ما ينتقد تقصير الدولة.

سينما خالصة

بين الحدود

يتكامل المضمون الإنساني مع أسلوب التعبير الذي ينتمي إلى السينما الخالصة، فعمارة الفيلم ليست “أحداثاً” نتابعها، وإنما لقطات تتوالى وتبني هذه العمارة في تكوينات تشكيلية خشنة، وباستخدام حركة الكاميرا الحرة المحمولة على اليد، وكل أحجام اللقطات، و”التمثيل” اللاتمثيل الذي حقق المصداقية إلى أبعد الحدود.
ويبدو فضل كاميرا الديجيتال الصغيرة واضحاً في الحركة داخل المنزل الضيق، وفي شوارع القرية غير الممهدة، وفي التوغل داخل الشخصيات بالمنظر الكبير وكأنها تدعوهم للبوح عما يعتمل داخلهم. وقد برع في التصوير بالألوان إيرول زيوبيفيك، وبرع في المونتاج تيمور ماكاريفيك بحيث لم تكن هناك لقطة واحدة زائدة عن الحاجة الدرامية، واكتمل الفيلم في74 دقيقة، وبرع في تصميم شريط الصوت سمير فوكو رغم استبعاد استخدام الموسيقى تماماً. كانت أصوات الحياة الحقيقية هي الموسيقى. كانت الموسيقى في المعنى الكبير، وفي الرؤية الإنسانية الصادقة.


إعلان