فيلمان محورهما المرأة والأسلوب التسجيلي
أمير العمري
شاهدت في الدورة الثالثة والأربعين من مهرجان روتردام السينمائي فيلمين، أولهما هو “كيان” Kayan للمخرجة الإيرانية مريم النجفي المقيمة في كندا، والثاني هو فيلم “هوية” I.D للمخرج الهندي كمال محمد.
القاسم المشترك بين الفيلمين من ناحية الموضوع هو وجود المرأة في صدارة الحدث أو في بطولة الفيلم إذا جاز التعبير، فهي الشخصية الرئيسية التي نرى كل ما يجري من وجهة نظرها. غير أن الفيلمين ليسا “عن” المرأة، بل قصد أن يكونا من خلال وجهة نظرها بشكل محدد وواضح في أسلوب السرد، مع الحرص على أن تكون موجودة في كل مشاهد الفيلم من البداية إلى النهاية.
العامل الثاني الذي يجمع بين الفيلمين هو أن كلاهما يجنح صانعه، إلى استخدام الأسلوب التسجيلي في التعامل مع المادة المصورة، وهو ما يؤكد يوما بعد يوم، زيادة نفوذ الفيلم التسجيلي وزحفه على الفيلم الروائي، ولعل ما يدفع إلى انتهاج الأسلوب التسجيلي في الفيلمين كونهما يتناولان موضوعين وثيقي الصلة، سواء بما نراه في حياتنا اليومية، أو بما يمكن أن يحدث لنا.. بما يتداعى من تجاربنا الإنسانية، ومن محيطنا الإجتماعي.
ولكن بينما يميل الفيلم الكندي “كيان” إلى التركيز على شخصية المرأة كونها الشخصية “المأزومة” التي تستحق التأمل، يستخدم الفيلم الثاني شخصية إمراة منفصلة عن الواقع، أو قادمة من خارجه لا تعرف عنه شيئا، لكي يكشف لنا تلك الحقائق المذهلة عن الواقع الذي لا تعرف هي شيئا عنه.

المرأة إذن في الفيلم الأول مقصودة في حد ذاتها، ومقصود التطرق إلى مشاكلها الشخصية وهي المهاجرة إلى مجتمع غريب عليها. والمرأة في الفيلم الثاني مهاجرة من الريف إلى المدينة داخل بلادها، أي أنها أيضا غريبة عن الواقع الجديد الذي تتأمله في دهشة إن لم يكن في صدمة.
كيان
فيلم “كيان” هو الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرجة الإيرانية الأصل المقيمة في كندا، مريم النجفي، وهو يدور حول شخصية إمرأة لبنانية مهاجرة تعيش في تورنتو بكندا، والفيلم ناطق باللغتين العربية والإنجليزية.
الشخصية الرئيسية في الفيلم هي شخصية “حنين”، وهي إمرأة تجاوزت منتصف العمر، تدير مطعما في المدينة، هو في الحقيقة بمثابة “مقصد” لعشرات المهاجرين من جنيسيات مختلفة من الذين وفدوا على المدينة، بعضهم من العاملين بالمطعم، والآخرون من الزبائن الذين يترددون عليه.
أجواء المطاعم اللبنانية والطعام اللبناني والرقص الشرقي ليلة بعد أخرى في المطعم هي أجواء حميمية دافئة تتناقض بالطبع مع البيئة المحيطة. لقد إن حنين تحاول نقل عالمها من لبنان إلى تورنتو. وتبدو وقد إنفصلت تماما عن المجتمع من حولها. وهي تستعين بمغني إسباني مع راقص من راقصي الفلامنكو، رغبة في زيادة جاذبية المطعم.
لكن الموضوع ليس هو المطعم أي ذلك “الكيان” الشرقي الذي يحمل طابعا خاصا جدا يجعلك تشعر أنك في بيروت أو في إحدى العواصم العربية، رغم أن مشاكل إدارة هذا “الكيان”، الذي يتعايش فيه الجميع، ودفعه للنجاح، في صميم الفيلم، لكن أساس الموضوع هو شخصية “حنين” نفسها، التي انفصلت عن زوجها منذ فترة، وتقوم بتربية إبنتيها المراهقتين، وكيف ترتبط بعلاقة عاطفية مع شاب يدعى “فؤاد” يصغرها كثيرا، يقيم حاليا في مدينة أخرى، هي تحبه بينما يتهرب هو منها بوضوح، ويختزل علاقته بها إلى مجرد علاقة هاتفية، حتى يحتاج إلى مساعدتها فيطلب منها أن تحصل على قرض من البنك خصيصا لكي تعطيه المال بدعوى أنه يواجه أزمة مالية.
“حنين” التي تتمتع بجمال واضح وإن كان في طريقه للزوال تدريجيا، وتعاني من بعض الترهل وزيادة الوزن، تصر على التردد على المطعم وهي في كامل زينتها، فهي ترتدي الأحذية ذات الكعب العالي والملابس المكشوفة دون خجل مما يجعلها أحيانا مطمعا لبعض المارين على المطعم، ومنهم شاب إيراني يحاول التودد إليها والإقتراب منها، لكنها تكتشف في النهاية انه يريد إستخدامها للوصول إلى فتاة أخرى تعمل لديها في المطعم، أكثر شبابا وجاذبية.
تعاني حنين كثيرا في إدارة المطعم كما تبذل جهدا هائلا للسيطرة على جموح مشاعر إبنتيها المراهقتين، وحل مشاكل العاملين في المطعم، والسيطرة على التناقضات التي تنشأ بينهم بفعل إختلاف الثقافات والجنسيات. لكنها تشعر في نهاية اليوم عندما تختلي بنفسها، تنفث دخان سيجارة وتتأمل، أنها أصبحت أكثر وحدة عما كانت، وأن كل هذا الصخب المحيط بها لا يوفر لها أي تعويض عن الافتقاد للحب وللحنان ولرجل يمكنها أن تتساند معه، وتشعر معه بذاتها كأنثى.
إنها تكتشف في النهاية أن ذلك الحبيب الذي لا نراه أبدا، والذي يعد ويخلف في كل مرة بدعوى إنشغاله، يستغلها، وأنه يريد الحصول على المال الذي ستقترضه رغم مشاكلها المالية، لكي ينفقه على فتاة تعمل عندها، تعترف لها بأنه على علاقة بها منذ فترة.
الفيلم يمتليء بالأجواء الحميمية التي تنتج عن تجمع كل هذا العدد من الشخصيات العابرة منها والمقيمة في المطعم، بمشاكلها العديدة، واختلافاتها وخلافاتها، وما تراه حنين من مشاكل من لا يدفعون الحساب، أو من يسعون للنصب عليها، ونعبر خلال ذلك، على مشاكل الهجرة التي يواجهها البعض في كندا، واختبائهم عن الشرطة حيث يجدون المأوى في ذلك “الكيان” أي المطعم.

غير أن الفيلم يعاني كثيرا من الترهل والإطالة وتكرار المعنى من خلال مشاهد مكررة ثابتة (مكالمات الحبيب الغائب المتكررة لحنين مثلا). وفي كثير من المشاهد تتحرك حنين من موقع إلى آخر داخل الفضاء الضيق للمطعم، تتكلم بلا توقف، وتصدر الأوامر والملاحظات، تسقط من التعب في نهاية كل يوم، ثم نعود إلى اليوم التالي الذي يمر أيضا دون معنى ومن دون جديد يجعل طعم الحياة تختلف.
إنك تشعر أن هذا الفيلم كان يمكن أن يصبح أكثر إتزانا وإثارة للاهتمام، لو أن المخرجة إشتغلت أكثر على تطوير الفكرة الرئيسية، أي فكرة المرأة الوحيدة التي تتولى مسؤولية العمل والإدارة وتربية الإبنتين وإختلاس لحظات نادرة من الإسترخاء والبحث عن الحب، لكنها أدخلت الفيلم من خلال ذلك السيناريو المرتبك، في الكثير من المتاهات الدرامية التي بدأتها دون أن تتمكن من إنهائها. ورغم وضوح الحبكة منذ وقت مبكر أمامنا، إلا أنها إستغرقت حتى نهاية الفيلم لكي تجعل بطلتها تكتشف الحقيقة!
الكاميرا الصغيرة المتحركة داخل تلك الديكورات الضيقة للمطعم (وهو لاشك مطعم حقيقي) ومتابعة الشخصية الرئيسية اثناء العمل، تضفي طابعا تسجيليا أو حتى مرتجلا على الفيلم في الكثير من المشاهد. وكان يجب أيضا التحكم في طول تلك المشاهد.
ولعل من الجوانب التي سببت بعض الارتباك أيضا في الفيلم ذلك الأداء الأحادي الطابع من الممثلة الرئيسية علا حمادة، وهي ممثلة غير محترفة بالطبع شأن جميع الممثلين الذين يظهرون في الفيلم. لكن لابأس فالتجربة كانت جديرة دون شك أن تخوضها مريم النجفي. وفي انتظار فيلمها القادم.
هوية
أما فيلم “هوية” الهندي فهو أفضل كثيرا في مستواه. إنه يدخل مباشرة في صميم موضوعه دون لف أو دوران. فتاة تنتمي للطبقة الوسطى، متعلمة، جاءت إلى مدينة مومباي للبحث عن وظيفة في عالم الإعلان والدعاية، تتشارك في مسكن مع صديقة لها مثلها، تستعين بعامل لطلاء جدار في المسكن إلا أنها تفاجأ بسقوطه فاقدا الوعي، فتقوم بنقله إلى المستشفى وهناك تفاجأ بأنها أمام عشرات الأسئلة عن الرجل، أصله وفصله، وعن علاقتها به، فتقع في حيرة كبيرة لأنها لا تجد مع الرجل سوى هاتفه المحمول فقط، وليس معه بطاقة هوية. إنها تدفع تكاليف العلاج بالمستشفى، لكن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد، فالرجل يموت بعد أيام من إجراء العملية ويصبح مطلوبا أن يتسلمه أحد لدفنه، وتقوم الفتاة بجولة طويلة في الأحياء الفقيرة والعشوائية بالمدينة في محاولة للعثور على اقارب هذا الرجل، اعتمادا على رقم تليفون مسجل على هاتفه.
الفيلم عبارة عن رحلة أرضية جهنمية في مدينة لا تعرف الشفقة، حيث يعيد المخرج الذي يتمتع بجرأة هائلة، وبواسطة كاميرا محمولة تتحرك وتهتز باستمرار، إكتشاف مومباي التي لا ترحم الغرباء، والتي أصبحت مدينة المهاجرين واللاجئين من القرى والمدن الأخرى، وكيف يعيش الملايين على الأرصفة، يفترشون الأرضيات، تزدحم بهم محطات السكك الحديدية وما يجاورها، لا شئ يحمي أولئك الأطفال الحفاة الذين يعيشون في ظروف بالغة القسوة.

تنتقل الفتاة من حي إلى آخر فالجميع يصفون لها أين تذهب لكنهم لا يعرفون على وجه التحديد من أين جاء هذا الرجل الذي تطلعهم على صورة له سجلتها على هاتفها المحمول له، وتفشل دائما في الإقتراب من الحقيقة. تنقذها إمرأة غجرية من إعتداء بعض المحتالين واللصوص عليها، ثم تقودها في رحلة أخرى مثيرة داخل عالم لا تعرف شيئا عنه: عالم الذين يعيشون على هامش الحياة.
رحلة في عالم البؤساء، من خلال أسلوب تسجيلي يجعل الممثلة الجرئية الرائعة التي قامت بالبطولة، جيتانجالي ثابا، تختلط وتحتك بعشرات الشخصيات الحقيقية للفقراء والبؤساء وسكان الأحياء المتداعية والأكواخ القصديرية والرجال المتراصين في إنتظار من يلتقطهم للعمل فيما يعرف بأسواق الرجال في ضواحي المدينة، حيث تتصاعد الأبخرة، وتتراكم أكوام القمامة. إنها تركب القطارات، وتسير بشجاعة وسط كل مظاهر الفقر والجريمة، تتحدث إلى هذا وذاك، والكاميرا تتابعها، وهي غير مسلحة سوى بجهاز التليفون المحمول. وعندما تفقده أخيرا بعد أن يختطفه منها أحد أطفال الشوارع، نكون قد وصلنا إلى نهاية الرحلة، إلى نقطة الحقيقة الساطعة التي تجعل المشكلة الذاتية تتراجع وتبرز المشكلة العامة: من المسؤول عن وجود هذا الوضع؟
هذا فيلم من أفلام الواقعية التسجيلية، يستخدم المدخل الدرامي المثير (رجل يسقط ثم يغادر الحياة- جثة تبحث عمن يتعرف عليها) ومن هذا المدخل الذي يعكس إضطراب الفرد (الفتاة الجميلة) إلى ذلك الإضطراب العام، تلك الفوضى الاجتماعية المدمرة، من دون صراخ ولا دروس ومحاضرات وشخصيات متشنجة تصرخ في وجهك بالمأساة، فالمأساة مجسدة من خلال تلك الصور المرعبة للمدينة المركبة في مونتاج لاهث يراكم ويكشف، كأنما لم يرها أحد من قبل.
جميع الشخصيات في الفيلم فاقدة الهوية.. إنها تأتي إلى المدينة تبحث عن هويتها.. عن حقها في الحياة.. عن المواطنة المفقودة. لكن هذا الفقير البائس الذي يلقى مصيره، لا يملك تلك الهوية التي بدونها يصبح مهانا في العيش والممات!.