تجليّات الصورة عند مدكور ثابت

قراءةُ لفيلم «حكاية الأصلّ، والصورة»   (1)
                                                                                      

 فريديريك دوفو*
ترجمة : صلاح سرميني
من بين إمكانيّاتٍ عديدةٍ للقراءة، يُمكن الاقتراب من فيلم «حكاية الأصل،ّ والصورة»، وفهمه كتساؤلٍ حول السلطة، سلطات الصورة المُتخلّقة من قوة الخيال البشريّ، بدون أن تشهد بالضرورة بشكلٍ موضوعيّ عمّا حدث، وبأبعد ممّا يعرضه الإنسان على سطحها الأملس، إذّ أنّه، وبدون الخيال، لا تمتلك الصورة أيّ قيمةٍ تُذكر، وبالمُقابل، بدونها، صورة الذاتّ، وصورة الآخر، ـ رُبما ـ ما كان للإنسان أن يُوجد، وبالأحرى، لن يكون فرداً اجتماعيّاً، ومُجتمعيّاً .
ولكنّ، عن أيٍّ صور(ةٍ) نتحدث هنا ؟
وهل ترتبط هذه الصور(ة) بالتقليد الأيقونيّ للسينما السرديّة التقليديّة ؟
تأتي المفاجأة بالمقام الأول، بالنسبة لمتفرجٍ غربيّ، من حقيقة أنّ «حكاية الأصل،ّ والصورة»، لمخرجه «د.مدكور ثابت»، والفيلم الأسبق عليه «ثورة المكّن»، يرتبطان بالكلاسيكيّات الكبيرة لتاريخ السينما، ومن بينها : «رجل الكاميرا» للسوفييتيّ «دزيغا فيرتوف»، أو «لحن العالم» للألمانيّ «والتر روتمان» – وهما من إنتاج 1929-، وتتأتّى صلة القرابة هذه بشكلٍ خاصّ من الموسيقى البصريّة المُتخلّقة بحركة الآلات الميكانيكيّة في «ثورة المكّن»، ومن فكرة الفيلم داخل الفيلم في «حكاية الأصل، والصورة»، تلك التي دشّنها «دزيغا فيرتوف» سابقاً .
كما تقودنا الأفكار المطروحة : «نسبيّة الأحكام، الفرد كحلقةٍ في سلسلةٍ إنسانيّة غير قابلة للفكّ،…» نحو الأمريكيّ «فرانك كابرا» وفيلمه «الحياة حلوة» ـ 1964، ونتذكّر بالمقابل الفرنسيّ «جان لوك غودار» مؤلف «الجنود حاملو البنادق» ـ 1963، حيث يمنح إمكانية امتلاك العالم من خلال الصور«بطاقات الإهداء» كثروة وحيدة لشخصياته، بمعنى، انعكاسات جامدة، وتهكميّة، مُتحرّكة بفعلّ الخيال، والرغبة  .

إنّ كلَّ واحدٍ من الرجال في «حكاية الأصلّ، والصورة»، كان فيما مضى عاشقاً لصورةٍ خاضعة قليلاً، أو كثيراً لخيّالاته، ونزواته، ومُقوّلبةٌ وفقاً لاحتياجاته .
وبدءاً من التخطيط الأوليّ، ومن ثم صورة جثتها، تسترجع القتيلة حياةً مُهداة بكاملها للآخر:
ـ «أنا من ايدك ديّ، لايدك ديّ».
تقولها لاحقاً لصاحب مصنع النسيج، وتعود إلى مكانةٍ لم تهجرها أبداً، بعيداً عن أيّ حالةٍ نفسيّة، وشعوريّة، مُعفاةٌ من الأماني، لقد كانت جسداً مُقتصراً على رغبة الآخر، وبشكلٍ أفضل، عنصراً تزيينيّاً متكرراً داخل الديكورات الذكريّة المُتتابعة من خلال هواجس، وأخيلة هؤلاء الرجال.
وباجتياز هذه الفكرة، فإننا نظلّ مُعلّقين إلى الدقائق الخمسّ الأولى من «حكاية الأصل، والصورة»، والتي تكفي لوحدها بتلخيص الفيلم، ويمكن القول، عموم إشكاليّات هذا العمل المُخالف لكلّ الأعراف، والتقاليد، وبشكلٍ أكثر تحديداً، فإنّ هذه النظرة المُفرّدة لا تغترف قيمتها فحسب داخل الفترة الزمنية للعقدة، وتنوّع الاقترابات الشكليّة، والمضمونيّة التي تنجم عنها .
ومع ذلك، يُمكن فهم الخطّ السرديّ العام، بدون أن يكون الفيلم مُترجماً إلى أيّ لغةٍ كانت، طالما أنّ الشكل يتقوّلب مع المحتوى، يتضافر مع المضمون، ويخلق إحساساً صافيّاً بحدِّ ذاته.
هذا التطابق التامّ، النادر، والثري جداً، هو بلا شكّ، إحدى العلامات التي تتحلّى بها الإبداعات الكبيرة، كما تُؤسّس خاصيّة الأعمال الإخراجيّة الأكثر عظمةً في تاريخ السينما.
وليس من قُبيّل الصدفة، أنّ أكثر الأفلام الخالدة في تاريخ الفن السابع، قد أُنجزت في زمن السينما الصامتة.

يعمدُّ الصوت في «حكاية الأصل، والصورة» إلى تطوير تعرّجات الحكاية، تلك التي هربت منذ المشهد الأول من مراسيها المُفردّة، كي تتسامى مع الكونيّ، وتتحرّر من الزمانيّ، بفضل الأشكال المُتبناة، والمُتوافقة معها، لتصف السيّاق السينمائيّ في طوّر تشيّيد الحكاية أمام أعيننا.
«حكاية الأصلّ، والصورة»… ، هو إذاً عملٌ مُتفرّد، بعد بيان «السينما داخل السينما»، الأكثر إبهاراً، وكرماً من كلّ تاريخ هذا الفنّ، وأعني بـ «رجل الكاميرا» لـ«دزيغا فيرتوف».
وأكثر من ذلك، وهذا ما يُثيرنا، ويُبهرنا، هو يلتحق بخطوات الطليعة الماضيّة، تلك التي تألّقت على أطراف سينما سرديّة، مُسليّة، ولاهيّة .
حيث أنّ «ثورة المكّن»، و«حكاية الأصل، والصورة» يبتعدان تماماً عن التقليد الروائيّ المُتجذّر عميقاً، وعن مساراته المُعتادة .
يُشار للأول، بغيّاب الحكاية عنه بمعناها التقليديّ المُتعارف عليه….
وبالنسبة للثاني، من خلال عودته المتكررة إلى الماضي، قفزاته في الزمان، والمكان، تكراراته المتروكة بدون تفسير …، ويمكن القول، لا تتابعه السرديّ .
وهكذا، ُيمكن لنا – وحتى في أوروبا، من بلدانها التي امتلكت تاريخاً طويلاً للصور المتحركة – تصنيفهما بأفلامٍ تجريبيّة، مختلفة، وأعمالٍ مُجددّة.

كامل المقال


إعلان