خمس كاميرات محطمة

يشترك في تمويل الفيلم الفلسطيني” خمس كاميرات محطمة” عدة جهات أجنبية من بينها بخاصة صندوق دعم إسرائيلي وآخر من منظمة” غرين هاوس”ذات البعد الصهيوني، وهذا أمر مؤسف للغاية ويتنافى مع جنسية و رسالة ومضمون هذا الفيلم الهام الذي يتحدث عن

خمس كاميرات محطمة

 مقاومة أهالي قرية فلسطينية، هي قرية بلعين، لجهود القوات الصهيونية من أجل مصادرة الأراضي لصالح عصابات المستوطنين وبناء الجدار العازل في قريتهم. هذا التناقض العجيب ما بين مضمون الفيلم ومصادر تمويله، أو بعضها على الأقل، هو ما أدى إلى ردود الفعل السلبية عليه في الأوساط العربية وصلت حد اتهامه بالتطبيع، مقابل محاولة إسرائيل تبنيه كإنتاج يحمل جنسيتها في محاولة انتهازية فجة للي عنق الحقيقة. وقد نفى مخرج الفيلم عماد برناط انتماء الفيلم لإسرائيل كما نفى ذلك شريكه في الإخراج جي دافيدي الإسرائيلي المعارض للإستيطان.
رشح الفيلم لجائزة الأوسكار لأحسن فيلم تسجيلي، لكنه لم ينلها، بل نالها فيلم آخر من جنوب أفريقيا هو” البحث عن رجل السكر”( شوغرمان). شاهدت مؤخرا الفيلمين تباعا و برأيي الشخصي فإن الفيلم الفلسطيني يفوق الفيلم الآخر الفائز أهمية بكثير من حيث قوة المضمون والقيمة و حتى الإبداع في مجال الفيلم التسجيلي.
اشتهرت قرية بلعين بنضالها السلمي غير العنيف و بتنظيمها مسيرات احتجاجة كل يوم جمعة ضد الاحتلال الإسرائيلي ويشارك في هذه المسيرات متعاطفون من عدة دول أجنبية. ويقدم فيلم” خمس كاميرات محطمة” صورة عن هذه الاحتجاجات من خلال جهود المخرج عماد برناط المرتبطة بتصوير حركة الاحتجاج و متابعتها بكاميرته، أو بكاميراته الخمس التي تحطمت تباعا على مدى خمس سنوات. يجيء عنوان الفيلم” خمس كاميرات محطمة” من واقع تحطيم هذه الكاميرات على فترات خلال خمس سنوات على يد الجنود الإسرائيليين خاصة بفعل قنابل الغاز التي تطلق على المحتجين ويصيب بعضها المصور مخرج الفيلم والكاميرا التي بين يديه.
ثمة الكثير مما يقال حول مضمون هذا الفيلم و حول طريقة إخراجه التي تتميز بالمتابعة الحية لحركة الواقع و الوقائع، وحول تعليق الراوي الذي يمتد عبر الفيلم بصوت المخرج و الذي أضفى على الفيلم جوا حميما و عمقا في المضمون وساهم في ذلك الموسيقى التي وضعها الثلاثي الموسيقي جبران. غير أنني هنا سأكتفي بالحديث عن ناحية مهمة في الفيلم تتعلق بتقديم و تتبع سيرة شخصية لبعض الشخصيات التي تلعب في الفيلم دور الروافع الدرامية.
إلى جانب شخصية المخرج، يوجد في الفيلم ثلاث شخصيات رئيسية فاعلة طوال زمن الفيلم. هناك المناضل أديب و زميله المناضل الملقب طوال الفيلم بالفيل ويضاف لهما الطفل جبريل الابن الرابع للمخرج الذي يبدأ الفيلم بولادته وتستمر أحداثه حتى الاحتفال بالعيد الخامس لولادته.
إضافة إلى روحهما النضالية و مشاركتهما الفعالة في جميع احتجاجات القرية، يتميز الاثنان بقدرتهما على إثارة الحماس لدى الآخرين وبعث الفرحة في نفوسهم، وهي صفات تقربهما بلا شك، من قلوب المشاهدين. و سنرى في الفيلم كيف يصاب أديب برصاصة في قدمه لكن هذا لن يمنعه من ممارسة نشاطه السابق. أما الفيل فمصيره مختلف، ففي بداية ظهوره في الفيلم سنراه وهو يمارس ألعابا بهلوانية برفقة بعض الأجانب المتضامنين أمام مجموعة من الصغار، وسنعرف من صوت الراوي أنهم يحبونه لقدرته على بعث الفرح في نفوسهم، لكن ظهور شخصه في أواخر الفيلم سيكون مؤلما للغاية، إذ سنراه في المقاطع الأخيرة أثناء مواجهة مع جنود الاحتلال يهوي إلى الأرض ويتدحرج جسده هابطا مرتفعا صغيرا ثم يهمد دفعة واحدة. يهرع زملاءه نحوه وهم يصرخون في طلب إسعاف، لكنه للأسف يكون قد فارق الحياة إذ أصابته الرصاصة مباشرة في صدره، وكل هذا يحصل أمام عين الكاميرا. لقد سجل المخرج لحظة استشهاد صديقه العزيز الفيل الذي بموته تحول إلى بطل تراجيدي|، والذي يقول عنه الراوي أنه” دائما يتمسك بأحلامه أن يصلح العالم”) بعد مشهد استشهاده يعرض المخرج لقطة طويلة لغربان تحلق في السماء).

عماد برناط

هنا أسجل للمصور صمود الكاميرا في يده وهو يصور هذا المشهد المريع وقبل ذلك قدرته على تصوير ثلاثة من أشقائه في فترات زمنية مختلفة لحظة اعتقالهم من قبل الجنود وتصوير امه و أباه وهما يحاولان منع الجنود من اعتقال أخيه، أو نجاحه في تصوير جندي يطلق الرصاص على قدم معتقل يقف أمامه مقيدا ومحاطا بالجنود فيهوي المعتقل إلى الأرض أيضا أمام عين الكاميرا.
أما الشخصية الرئيسية الثالثة الابن الطفل جبريل فأمره مختلف. في بداية الفيلم سنرى الأسرة تحتفل بميلاده و في نهاية الفيلم سنراها تحتفل بعيد ميلاده الخامس، وبين الميلاد و الاحتفال الخامس بالميلاد سنرى الطفل جبريل ينمو وسط المواجهات وسنسمعه وهو يلفظ بطريقة طفولية كلمات” الجيش”، “الجدار”(جدار الفصل العنصري)،” المطاط”( الرصاص المطاطي). يقول صوت الراوي الأب:” جبريل يكبر ويصبح حساسا أكثر” و ” جبريل صار بعمر يسمح له بأن يفهم ويحضر المظاهرة” و ” جبريل يرى أشخاصا يتم اعتقالهم دون أن يفهم لماذا”. في مشهد لا حق نرى جبريل يسأل أباه:” لماذا لا تقتل الجنود بسكين، لماذا قتلوا الفيل؟”.
يقول عنه الراوي الأب:” جبريل عمره الآن أربع سنوات في مقاومة بلعين. الحماية الوحيدة التي أستطيع تقديمها له هي أن أجعله يرى كل شيء و يواجه مشاعره كي يفهم كم يمكن أن تكون الحياة صعبة”. يقول هذا مع أنه يعلن في وقت لاحق بعد عيد ميلاد طفله:” جبريل يتحول إلى ولد. هذا يعني أن البراءة تذهب. إن هذا التقدم السريع في العمر يحزنني”.
ثمة مشهد في الفيلم فيما يخص جبريل الطفل أعجبني كثيرا نرى فيه جبريل يروي بطريقة طفولية   لوالدته وهي داخل المطبخ ما شاهده:” جاء الجنود وبدأوا يطلقون النار، لكني لم أكن خائفا. وقفوا أمام سيارة أبي. تقاطعه والده: ألم خف يا جبريل؟ يجيبها: نعم. تنصحه والدته بشم البصل تفاديا لتأثير قنبلة الغاز”. في مشهد آخر جبريل يريد الذهاب مع أبيه في المسيرة ضد الجدار. يسأله الأب: لماذا؟ يجيب: كي نأخذ أرضنا.
يضيف موضوع جبريل بعداً جديداً إلى الفيلم ينقله من قضية الاحتجاجات ضد الاحتلال إلى وضع الأطفال في ظروف مثل هذه ونضوجهم قبل الأوان وخسارتهم لطفولتهم. وتأكيدا على موضوع الأطفال يصور المخرج مسيرات احتجاج ينظمها أطفال، ويصور أكثر من مشهد لاعتقال الأطفال وحتى جرهم من داخل  بيوتهم في عتمة الليل، ويصور جنازة طفل قتله قناص إسرائيلي.
ينتهي الفيلم بمشهد جبريل وهو يلهو بالماء على شاطئ البحر.


إعلان