“روح 45” الفيلم التسجيلي الجديد لكن لوتش
أمير العمري
عرض ضمن احتفالية خاصة في الدورة الثالثة والستين من مهرجان برلين السينمائي الأخير الفيلم التسجيلي الطويل “روح 45” The Spirit of 45 للمخرج البريطاني كن لوتش، وهو أول فيلم تسجيلي له منذ أن قدم فيلمه التسجيلي السياسي “اللهيب المتقطع” The Flickering Flame عام 1999.
الفيلم الجديد الذي يقع في 96 دقيقة، يتناول في سياق يوحي بالنوستالجيا أو الحنين إلى الماضي، ما يمكن أن نطلق عليه “عصر الصعود وسقوط دولة الخدمات الإجتماعية في بريطانيا”، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945 حتى يومنا هذا، مرورا بالحقبة التاتشرية التي تميزت بالميل الشرس من جانب حكومة حزب المحافظين بزعامة المرأة الحديدية (مرجريت تاتشر) إلى تغليب مصلحة المستثمرين الرأسماليين من طبقة رجال الأعمال (البيزنس) على مصالح الطبقات الفقيرة، وبالتالي أدت سياساتها خلال الثمانينيات إلى القضاء على معظم منجزات حزب العمال البريطاني في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي أعلت من دور الدولة في توجيه الاقتصاد، وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين: السكن، العلاج، التعليم، ضمان حقوق العمال، دعم النقابات.
أي أن لوتش يضع من خلال ما يعرضه في فيلمه من وثائق مصورة هائلة وشهادات لعدد ممن عاصروا ما أنجز خلال تلك الفترة، ومن شهدوا عليها من المؤرخين والمحللين والسياسيين، دولة الخدمات في مواجهة دولة الاستهلاك، أو دولة الرفاهية للمواطنين، أمام دولة الاستغلال، بعد أن أصبح دور الدولة مثل دور الوسيط بين التاجر والمستهلك!

الفيلم السياسي
فيلم “روح 45” فيلم سياسي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى بل هو نموذج كلاسيكي على الفيلم التسجيلي السياسي، أي أنه يتخذ موقفا سياسيا منحازا من البداية ولا يسعى بأي حال، إلى محاكاة أسلوب التقرير (الريبورتاج) التليفزيوني الذي يعرض لك وجهات النظر المختلفة دون أن يحاول إبراز موقف سياسي محدد، بل إن كن لوتش من البداية يبدو منحازا إلى فكرة تدخل الدولة في توجيه الاقتصاد من أجل خدمة مصالح القطاعات العريضة من أبناء الشعب. لكنه ليس ذلك الانحياز النظري الأيديولوجي، فهو يدلل عمليا ومن خلال الوثائق المصورة، على فكرته ويدعمها بالشهادات، ويستخدم التعليق الصوتي وكتابة العناوين والشروح على الشاشة، على طريقة “الفيلم الثوري التعليمي” الذي كان ينتج في الستينيات، غير أن فيلم “روح 45” ليس فيلما من أفلام الماضي، ذات الطابع التقليدي الذي عفا عليه الدهر، بل هو فيلم شديد المعاصرة والجمال من الناحية السينمائية، ورغم تدفق المعلومات والصور والشهادات والوثائق المدهشة، ما هو مؤثر منها وما يثير الوجدان، إلا أن المشاهد له لا يملك ان يحول عينيه عن الشاشة للحظة واحدة، بل يأسره ذلك الرونق والتماسك الفني في بناء الفيلم ورؤيته البصرية.
بعد الحرب العالمية الثانية كانت بريطانيا تواجه تحديات مختلفة أولها ما وقع لها من دمار شمل البنية الأساسية على مستوى مؤسسات الدولة أو ممتلكات الأفراد. وثانيا: التحدي الكبير الذي كان يكمن في تحقيق أحلام ملايين المواطنين الذين دفعوا ثمنا باهظا وتحملوا لسنوات طويلة، مخاطر العيش تحت القصف بما يشمل ذلك من تقشف وعيش على الكفاف، وثالثا: مخاطر الثورة الاجتماعية التي قد تأتي متأثرة بالصعود الواضح للأفكار الإشتراكية مع الأداء المثير للإعجاب الذي حققه الاتحاد السوفيتي في الحرب ضد النازية والإنتصار عليها وإسقاطها.
معاناة فترة الحرب
يبدأ كن لوتش فيلمه باستعراض معاناة البريطانيين خلال الحرب، خاصة الطبقة العاملة، وكيف بدت الأوضاع عند نهاية الحرب، من تدهور في جميع الخدمات، ويصور كيف كان الفقراء يعيشون في أحياء متداعية أقرب إلى البدائية، وسط الفقر والمرض والجوع والتشرد والبطالة وانتشار الأمراض، وكان الأطفال بوجه خاص، يعانون بشدة من أجل الحصول على قسط من التعليم ومن غياب الخدمات الصحية وانتشار الأمراض وسوء التغذية، ومنهم من كانوا يضطرون للعمل في ظروف شاقة.
ويتوقف لوتش بشكل خاص، أمام صعود حزب العمال وتشكيل أول حكومة (اشتراكية) في تاريخ بريطانيا، وهي الحكومة التي شكلها كليمنت أتلي عام 1945 في أعقاب الانتخابات التي خذل فيها الناخبون ونستون تشرشل الذي كان ولايزال، يعد بطل الحرب العالمية الثانية.
كان المنجز الإجتماعي الإقتصادي المكافأة التي وعد بها البريطانيين أثناء الحرب. وقد شمل برنامج حكومة آتلي تأميم الصناعات الكبرى، ووضع ضمانات للعمال وإنشاء أول نظام شامل للتأمين الصحي للمواطنين جميعا. هذه المرحلة هي التي يتوقف طويلا أمامها كن لوتش في فيلمه، يصور كيف تم تأميم المناجم والغاز والكهرباء والموانيء والسكك الحديدية وإنشاء نظام التأمين الصحي التكافلي، فالذين يعملون يدفعون لكي يحصل من لا يعملون على العلاج.
لقطات الأرشيف لاشك أنها تمثل العمود الفقري للفيلم. وفي فيلم من هذا النوع يكون لفريق الأبحاث الذي ينقب في الأرشيف، ويرصد اللقطات التي تساهم في بناء المادة حسب السيناريو المكتوب، دور أساسي.
هناك الكثير من لقطات فترة تاتشر أيضا التي خاضت خلالها الحكومة المحافظة صراعا مع عمال مناجم الفحم، وانتهت بإغلاق معظم مناجم الفحم وخصخصة ما تبقى منها وهو حفنة قليلة العدد، وكيف أعيدت الكهرباء والغاز والخدمات عموما إلى القطاع الخاص، وأصبح المواطن مضطرا لشراء المسكن الذي يعيش فيه إذا إستطاع بالطبع، في حين امتدت طوابير العاطلين والمحرومين من السكن.

الشهادات الشخصية
ويكون للشهادات الشخصية المباشرة أيضا دور أساسي. إنه يستعين بشهادات يدلي بها أصحابها أمام الكاميرا، من مؤرخين وسياسيين سابقين وعمال مناجم وشحن وتفريغ وعدد من النقابيين أعضاء حزب العمال، والممرضات والأطباء. من أشهر تلك الشخصيات توني بن (88 سنة) أحد أبرز قيادات حزب العمال وكان عضوا في البرلمان لمدة خمسين سنة، ووزيرا بارزا في عدد من حكومات العمال في الستينيات والسبعينيات. والشهادات التي يقدمها هؤلاء بقدر ما هي دقيقة بقدر ما هي مؤثرة عاطفيا ونفسيا، وهي بالتالي تعبر عن أصحابها، عن أبناء تلك الفترة وعما عايشوه، ما كان منه وما إنتهى إليه.
الفيلم كله مصور بالأبيض والأسود للإيحاء بطابع الفترة، بما في ذلك الشهادات المصورة حديثا، لكنه ينتهي بلقطة بالألوان هي لقطة تتكرر يبدأ بها الفيلم وينتهي، للبريطانيين وهم يحتفلون في الشوارع بفوز حزب العمال فوزا كاسحا في انتخابات 1945، أي عندما كانت هناك آمال عريضة وأحلام كبيرة لتحقيق حلم مجتمع التوازن الطبقي، قبل أن تأتي حكومات تاتشر (1979- 1990) لكي تحطم هذا الحلم بقسوة سواء من خلال تفكيك النقابات وتقليص دورها وقوتها، أو خصخصة الصناعات والخدمات وبالتالي جعلت- حسب ما يقول كن لوتش- الفرد الذي كان سعيدا بالتعاون مع رفقائه في المجتمع، مرغمين على التنافس معا.
يقول أحد عمال الموانيء في الفيلم ملخصا حال الوضع الراهن: إن حزب العمال اليوم ليس من الممكن أن نطلق عليه منظمة الطبقة العاملة، بعد أن اختطف من جانب الطبقة المتوسطة”.
أما كن لوتش فيرى أن حزب العمال قد أصبح “حزبا لطبقة المديرين والرأسماليين. إنه ليس من الضروري فقط أن يكون حزبا للطبقة العاملة، بل يجب أن يكون واعيا ومدركا لمصالح الطبقة العاملة”. وهو يضيف أن هناك فرقا بين الإثنين!