الجنائني تحفة مخملباف البصرية

خلق محسن مخملباف على مدى ثلاثين عاماً تقريباً عالماً سينمائياً خاصاً به يمتد من الواقعية إلى السوريالية، ومن اللوحات المصغّرة إلى المشاهِد البانورامية الكبيرة مُوظِفاً فيها تفاصيل مخيلته الفنتازية المتشظيّة دائماً التي تعبِّر عن قراءته الثاقبة ورؤيته السينمائية والفكرية في آنٍ معاً. لقد وصف النقاد فلمه الموسوم “الجنائني”، موضوع دراستنا، بأنه “غير طبيعي” وجريء، ومكمَن الجرأة فيه أنه يتمحور على ثيمة غير مطروقة من قِبل المخرجين السينمائيين الإيرانيين في الأقل وهي “البهائية”، الديانة التوحيدية التي أسسّها ميرزا حسين علي نوري “بهاء الله” في القرن التاسع عشر، أي قبل “170” سنة من هذا التاريخ، ولكن أتباع هذه الديانة تعرضوا للسجن والقتل والنفي والتشريد بما في ذلك بهاء الله، مؤسس هذه الديانة الذي سُجن في طهران ثم نُفي إلى بغداد ومنها إلى إستنبول ليستقر في عكا ويموت فيها لاحقاً عن عمر يناهز الخامسة والسبعين عاماً.
 قد يتساءل القارئ الكريم ما الشيء غير الطبيعي في الفلم؟ هل هو في الثيمة أم في الأسلوب، أم في الاثنين معاً؟

فيلم الجنائني

لا شك في أن المتتبعين لأفلام مخملباف يعرفون أجواءه الخاصة به، ومقارباته الأسلوبية التي يستعملها في غالبية تجاربه البصرية ذائعة الصيت التي تمتد من “البائع المتجول” و “زمن الحُب” و “خبز ومزهرية”، وتمرّ بـ “حكايات من كيش” و “طعم الديمقراطية” و “قندهار”، لتنتهي بـ “أبرد من النار” و “جنس وفلسفة” و “الرجل الذي جاء مع الثلج” وغيرها من أفلامه المعروفة التي أثارت جدلاً واسعاً لم تنتهِ تداعياته حتى الوقت الراهن. إن منْ يشاهد فلمه الوثائقي “Gabbeh” و “صمت” يكتشف من دون لأي أن مخملباف يعتمد في فلم “الجنائني” على التقنية نفسها، أي أنّ الأسلوب في هذا الفلم لم يكن جديداً، لكن التأمل، والدقة، وإطالة النظر إلى عمق الأشياء هي العناصر المشتركة التي تطبع هذا الفلم بطابع فلسفي يغوص في جوهر الأشياء حتى وإن كان هذا الشيء مادياً مثل سجادة “گبة” الفارسية التي تحوكها أيادٍ مدرّبة يفعِّلها خيال متوقد وخلاق. وربما ينطبق نفس الشيء على فلم “صمت” حيث يُؤخذ الطفل البصير بالموسيقى والأصوات ويعرف بدقة أن الطارق على الباب هو مالك المنزل، كما يعرف صوت النحلة الخارجة من خليتها، أو خرير الماء من النهر المجاور لمكان عمله. هذه الدقة نجدها عند “الجنائني” البهائي الذي نظّم الحدائق والزهور على وفق منظور هندسي قلّ نظيره عند أتباع الديانات الأخرى السماوية أو الوضعية. وهذه الدقة اللافتة للانتباه هي التي جعلت مخرج الفلم مخملباف وابنه ميسم وبقية الشخصيات المساهمة في الفلم، تغوص في عالم مماثل من التأمل، والاستغراق في التفكير العميق على مدار الفلم الذي امتد على “87” دقيقة مرّت على المتلقي مثل حلم سريع كان يتمنى في داخله أن يطول كي يمتصّ كل هذا الجمال الكامن في الحدائق البهائية الخالبة للألباب.

إذاً، نخلص إلى القول بأن أسلوب مخملباف في هذا الفلم الوثائقي ليس جديداً تماماً على الرغم من أهمية المقاربات والمعالجات الفنية ف��ه، لكن جدَّته تكمن في ثيمته وجرأة المخرج في الإقدام على تناول عقيدة محرّمة من جهة، والذهاب إلى إسرائيل لتصوير وقائع هذا الفلم من جهة ثانية، فإيران، كما هو معروف، لا تعترف بدولة إسرائيل وتمنع مواطنيها من زيارة هذا الكيان الذي اغتصب الأراضي الفلسطينية. لقد فعل مخملباف شيئاً غير مسبوق حينما زار هو وابنه ميسم إسرائيل ليصور وقائع فلمه في عكا وحيفا والقدس مُركزاً على دور العبادة البهائية التي تحيطها الحدائق الجميلة اللافتة للأنظار، فلَمْ يسبق لمخرج سينمائي إيراني أن زار إسرائيل في ظل الحكومة الإسلامية الإيرانية، الأمر الذي شكّل صدمة للكثيرين وجعلتهم يتوقون لمعرفة التفاصيل الدقيقة التي شكّلت متن هذا الفلم الذي يبحث في تاريخ إيران وقمعها للديانة البهائية.

محسن مخملباف مع ابنه ميسم

تقوم قصة هذا الفلم الوثائقي على سياقين سرديين بصريين ينتهيان عند مصب واحد وهو الحديقة البهائية حيث يذهب الابن ميسم إلى القدس ليصور “حائط البراق”، و “المسجد الأقصى”، وبعض الكنائس المسيحية في إشارة إلى أن جوهر الأديان واحد مهما اختلفت طرق التعبد ووسائل التقرّب إلى الله الواحد الأحد، أما مخملباف فإنه يبقى في واحدة من الحدائق الغنّاء متتبعاً “الجنائني” الذي يعتني بحديقته، ويتواصل معها بطريقة روحية أخاذة تكشف عن تعلّقه الروحي بالورود والأشجار التي يعتقد أنه يتخاطب معها كما يتخاطب مع أي مخلوق بشري. لقد روى لنا المخرج الإيراني المبدع محسن مخملباف، وأرانا هو وابنه، الجانب الآخر من القصة التي لم يرها الآخرون، ولم يتأملوها عن كثب كما فعل مخملباف الذي قدّم لنا شخصيات بهائية من مختلف أرجاء العالم مثل ريفيرا إيّونا مابي، باولا أسدي، غوالمه ناياغتير، تيجيرا جيتيندرو جيّسغادو، إيان ديفيد هوانغ وبال كوماري غورونغ. ينطوي فلم “الجنائني” على معلومات كثيرة وأفكار عديدة حاول مخملباف أن يجسدها بغية إحاطة المتلقي بها وهي مستمدة أصلاً من الذاكرة الجمعية للناس في كل مكان من هذا العالم مثل “الشجرة المثمرة تلقي ثمارها على الناس الذين يرجمونها بالحجارة” أو أن “أوراق الأشجار لا تتزاحم في عليائها، وإنما هي تريد الوصول إلى الضوء”.

 الدعوة إلى التأمل ليست جديدة تماماً، فغالبية الأديان تحض على الخلوة إلى النفس، وتدعو إلى تأمل الوجود. ربما تكون آراء ميسم، ابن المخرج، انتقادية وحريفة، إذ قال ما لم يقله الأب بصدد “الإمام الخميني الذي كان يتحدث عن الحرية، وحينما وصل إلى سدة الحكم زج بالمعارضين في السجون والمعتقلات”. يعتقد ميسم بعدم حاجة الناس المعاصرين إلى الأديان، بينما تفصح إحدى النساء بضرورة نمو الإيمان في قلب الإنسان مثل نمو الوردة! المُلاحَظ أن بعض الشخصيات التي تتعبد من خلال الزراعة أو التأمل أو صيانة الحدائق يقنع المُشاهِد إلى حد ما بأنه يشعر بالله، ويراه في الناس الآخرين، ولذلك فهم مرتبطون به في معظم الأحيان. ختم مخملباف فلمه بمشهد المرآة التي كان يحملها الجنائني لتعكس جمال الورود، ثم حملها مخملباف نفسه لكي يبرهن على انعكسات الورود حينما يمر بقربها أي إنسان وكأنها تتخاطر معه أو تهمس في أذنيه محفزة إياه على التأمل والاستغراق في التفكير. حينما يعود ميسم من القدس يكتشف أن أباه منهمك في العناية بالزهور فيداعبه قائلاً: هل أنت بهائي يا بابا؟ فيرد عليه: “كلا، أنا مسيحي، مسلم، بوذي، يهودي، زرادشتي، لا دين لي!” في إشارة واضحة إلى وحدة الخالق، ووحدة الأديان التي تحض كلها على الخير والمحبة والسلام.


إعلان